تمهيد الطريق بتكسيره: قطع المعونة عن فلسطين ربما يؤذي أمريكا
لا يبدو أن مسلسل قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المضادة للفلسطينيين سيتوقف قريبًا، بل قد يستمر في التصاعد، لأنه يتبع سياسة خنق الخصم والتفاوض عن طريق أقصى ضغط ممكن.
ظهر هذا في طريقة تعامله مع كوريا الشمالية، فبعد أن بدا لوهلة أنه اقترب من الحرب معها، إذ به يلتقي رئيسها «كيم يونغ أون».
ويبدو هذا واضحًا أيضًا في تعامله مع القضية الفلسطينية. فبعدما قرر ترامب، في ديسمبر 2017، الاعتراف بالقدس عاصمةً لدولة إسرائيل، متخذًا منها مقرًّا للسفارة الأمريكية بدلًا من تل أبيب، قررت السلطة الفلسطينية مقاطعة محادثات السلام التي تترأسها الإدارة الأمريكية، في ردٍّ يبدو منطقيًّا على خطوة تعيق طريق المفاوضات.
لم يجد ترامب رد الجانب الفلسطيني على خطوته الجريئة مناسبًا بما يكفي، لأنه لم يحمل الاحترام والتقدير المتوقَّع، باعتباره ينفق مئات الملايين من الدولارات كل عام على الفلسطينيين.
في الشهر التالي، يناير 2018، كانت دهشة ترامب من حالة «نكران جميل» السلطة الفلسطينية قد تُرجمت على لسان المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكية «هيذر نويرت»، إلى تخفيض التمويل المستحَق لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم «الأونروا»، من مبلغ قُدِّر بنحو 125 مليون دولار إلى 60 مليون دولار، ما يؤثر بشكل سلبي في الخدمات التي تقدمها الوكالة للاجئين الفلسطينيين، ليس فقط في قطاع غزة والضفة الغربية، بل في سوريا ولبنان والأردن كذلك.
حينها أكد المفوض العام لوكالة الأونروا، «بيير كراهينبول»، أن أكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني تعرضت أحوال معيشتهم للتهديد نتيجة ذلك التصعيد، ليس فقط في حالات إغاثات الطوارئ، بل في الخدمات الغذائية والسكنية والتعليمية والصحية. أي إن الخدمات الأساسية والمحورية التي تقدمها الوكالة للحفاظ على الاستقرار في المنطقة لم يضعها ترامب في الحسبان، وضرب عرض الحائط بالنتائج التي قد تترتب عليها من تصدعات خطيرة في السياسة الخارجية للولايات المتحدة.
تمثلت تلك التصدعات في تحول وتبدل الركائز الأساسية التي تمسكت بها الإدارات الأمريكية المتعاقبة، من ترويجها لنفسها على أنها شريك وراعٍ أصيل في حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية، ووسيط تاريخي في عملية السلام، إلى محتضن لأجندة نتنياهو بحذافيرها، التي لا تتفق رؤيتها مع السلام ضمن أي إطار لوجود دولة فلسطينية مستقلة من الأساس.
لكن يبدو أن جعبة ترامب كانت مليئة بمزيد من التصرفات المثيرة للجدل.
من أمريكا إلى فلسطين: إلغاء معونة الأونروا
في 24 أغسطس 2018، واستكمالًا لمسيرة ترامب، أعلن مسؤول رفيع المستوى في وزارة الخارجية الأمريكية أن بلاده ألغت معونة قيمتها أكثر من 200 مليون دولار كانت في طريقها إلى قطاع غزة والضفة الغربية، بهدف «تنفيذ مشروعات لها أولوية أعلى في مكان آخر». كان ذلك قبل أن تعلن وزارة الخارجية الأمريكية أنها قررت إيقاف أي تمويل لوكالة الأونروا بشكل كامل.
الضربة الأمريكية ستؤدي إلى تسريح موظفين من مشروعات مثل بناء الطرق والخدمات التعليمية.
لم تقتصر إدارة ترامب على ذريعة سيطرة حركة حماس على قطاع غزة من أجل العدول عن إرسال المعونة الإنسانية الأمريكية، بل عددت الأسباب وساقت المبررات لتجعل إرسالها أشبه بالمستحيل، وادَّعت أن الضرائب التي تُجتزأ من أموال المواطنين الأمريكيين لإرسالها إلى الأراضي الفلسطينية لا تصب في المصلحة الوطنية في ذلك التوقيت، وأن أمريكا لا يجب أن تظل وحيدة بين كل الدول التي تقدم يد العون، فقد حان الوقت الذي تتحمل فيه دول أخرى المسؤولية.
الضربة الأمريكية لوكالة غوث اللاجئين ستؤدي إلى تسريح الموظفين من مشروعات البنية التحتية، مثل بناء الطرق، ونقص حاد في الخدمات التعليمية، مثل البرامج التي كانت تقدمها القنصلية العامة للولايات المتحدة في القدس للطلبة الفلسطينيين، التي تكلف ما يقرب من مليوني دولار سنويًّا، وستسبب ضعف التعاون الأمني والدبلوماسي، وقصورًا في عمليات إزالة الألغام.
أعلنت وكالات إنسانية تعمل في الأراضي الفلسطينية، مثل خدمات الإغاثة الكاثوليكية، و«ميرسي كوربس»، والهيئة الطبية الدولة، أنها مُجبرة على تسريح معظم موظفيها تأثرًا بتجميد المعونة الأمريكية.
جُمِّدت المعونة الأمريكية لفلسطين دون وجود حل سياسي في الأفق، مع إغفال متعمَّد من الإدراة الأمريكية الحالية للنتائج المتوقَّعة، التي ستتمثل قريبًا في كوارث إنسانية. فقد وصفت منظمة التحرير الفلسطينية ما حدث بأنه «سلاح استفزازي رخيص» ضد الفلسطينيين ليُجبَروا على تنازلات سياسية، وأعلن المتحدث باسم الرئيس الفلسطيني أن القرار «اعتداء سافر على الشعب الفلسطيني».
بين ترامب وصهره: كوشنر مبتسمًا
خلف الكواليس، يقف صهر الرئيس الأمريكي ومستشاره في شؤون الشرق الأوسط، والمسؤول كذلك عن ملف عملية السلام بين إسرائيل وفلسطين، «جاريد كوشنر»، مبتمسًا لما أنجزه من اتفاق مع وزير الخارجية الأمريكي لوقف المساعدات عن الشعب الفلسطيني، بعدما حدد الكونغرس إرسال 230 مليون دولار قبل ذلك.
يعتقد كوشنر أن الأونروا تزرع الأمل في قلوب الفلسطينيين بشأن «حق العودة» إلى أراضيهم.
في بداية الأمر، لم يكن وزير الخارجية يحبذ فكرة إلغاء التمويل كاملًا، بل رأى أنه من الأفضل إعادة توجيه مساعدات الولايات المتحدة إلى وكالات دولية أخرى. لكن كوشنر أصر على إنهائها بالكامل كي تقوى مساعيه التفاوضية عندما يحين وقت التمهيد لخطة السلام في الشرق الأوسط، المعروفة باسم «صفقة القرن» المُنتظَرة.
بنجاح مساعيه في إنهاء كل التمويل الأمريكي الموجهة إلى وكالة الأونروا، ربما كانت معادلة صهر الرئيس هي الضغط على الفلسطينيين ليُهزَموا في معركة البطون الخاوية، ثم يطلبوا الرضا منه كي يرسل إليهم المعونة الأمريكية، ويزحفون إلى طاولة المفاوضات التي لا يُقدَّم عليها سوى التنازلات.
لكن كوشنر لم يضع في الحسبان أن قطْع المعونة قد يسبب قلقًا للإسرائيليين أيضًا، فالمساعدات التي كانت تقدَّم للفلسطينيين كانت تساعد في إرساء حالة الاستقرار الهش لكثير من اللاجئين، وبالتالي راحة بال للاحتلال.
لم يخطر ببال كوشنر أن الكارثة الاقتصادية التي تنتظر قطاع غزة والضفة الغربية تحديدًا، باعتبارها مناطق يعتمد معظم ساكنيها على تلك المعونة، قد تدفع الفلسطينيين إلى خيارات أكثر راديكالية.
ففي أوائل عام 2014، بدأ إضراب في كل مخيمات الأراضي الفلسطينية عقب مشاجرة داخلية بين إدارة وكالة الأونروا وطاقم المدرسين، حول تخفيض الميزانية وتسريح الموظفين، ما أدى إلى تعطيل المدارس التابعة للوكالة، وتكدس القمامة في الشوارع، وإغلاق أبواب عيادات الرعاية الصحية، وتحول الأطفال الفلسطينيين من طلاب مدارس إلى قاذفي طوب على ضباط الجيش الإسرائيلي.
استمر ذلك الإضراب لمدة شهرين، ويمكن اعتباره «بروفة» لما يمكن أن يحدث عقب الأزمة الاقتصادية بعد إلغاء الإمدادات الأمريكية.
بعض أعضاء مجلس الوزراء الإسرائيلي وصف تلك الخطوة غير المحسوبة بأنها «حطب على النار»، أي إنها ستؤدي إلى نتائج عكسية سيئة. وذهب بعض المحللين الإسرائيليين إلى الاعتقاد بأن الفراغ الذي سينشأ من نقص خدمات وكالة الأونروا، ستملأه حركة حماس بكل تأكيد، أي بمزيد من سيطرتهم على حياة الفلسطينيين.
الهدف الأساسي الذي أُنشئت من أجله المساعدات الأمريكية للفلسطينيين كان منع الإرهاب ضد إسرائيل، أو تقليله.
على النحو نفسه، يؤكد «ديفيد هاردن»، الرئيس السابق لبعثة «الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية» (USAID)، أن التمويل الأمريكي يضمن الاستقرار، وإلغاءه سيفسح المجال أمام حركة حماس المسلحة لتقود العنف على الساحة الفلسطينية.
لكن يبقى سيناريو تتحول فيه الضغوط التي يواجهها الفلسطينيون إلى إرادة سياسية ودافع قوي نحو نَيْل حقوقهم.
من ناحية، ترى الإدارة الأمريكية الحالية أن مساعداتها تهدف إلى ترسيخ دور السلطة الفلسطينية كمتعاقد من الباطن مع الاحتلال الإسرائيلي، أي تتلقى أجرًا منه. فعلى صعيد المساعدات على المستوى الأمني، تشترط المعونة الأمريكية على السلطة الفلسطينية أن تكفل لإسرائيل الاستقرار والأمان، وكذلك لمستوطنيها في الضفة الغربية المحتلة.
إذًا، الهدف الأساسي الذي أُنشئت من أجله المساعدات الأمريكية للفلسطينيين كان «منع الإرهاب ضد إسرائيل، أو تقليله». يعني ذلك أن الولايات المتحدة تنفق مئات الملايين من الدولارات لحماية إسرائيل، وليس لِمَد يد العون للشعب الفلسطيني في مأساته.
منطق المساعدات يفيد الاحتلال بالأساس، ويمنح الإدارة الأمريكية ورقة ضغط على الفلسطينيين، ويُجذِّر التشرذم الفلسطيني، ما يُصعِّب الاتفاق بين الفلسطينيين أنفسهم. وبوضع نهاية لهذه المساعدات، ستكون أمور حياتية كثيرة أصعب على اللاجئين الفلسطينيين، لكن أيضًا ستفقد أمريكا إحدى الأوراق في قضية بهذه الأهمية بالنسبة إليها.
قد يكون منبع موقف ترامب هو محاولة خنق الفلسطينيين، حتى يحصل على ما يريده كاملًا ودون أي معاناة أو تأجيل، لكن الخطوة تظل مغامرة لأنها قد تتسبب في العكس تمامًا. اختفاء المعونة الأمريكية سيقلل من اعتماد معظم الفلسطينيين عليها، وربما يكون الخطوة الأولى نحو البحث عن طريق آخر أو حل بديل، أو حتى إعادة ترتيب أوراق محادثات السلام.
محمود سعيد موسى