التاريخ تكتبه السلطة: من يحفظ تاريخ المغرب المسكوت عنه؟
شهد المغرب في أكتوبر 2016 اضطرابات ومظاهرات في أعقاب حادثة مقتل بائع الأسماك محسن فكري، التي أعادت إلى أذهان العرب قصة محمد البوعزيزي، البائع التونسي الذي أضرم النار في جسده احتجاجًا فأطلق شرارة الثورات العربية.
إلا أن حادثة محسن فكري أثارت لدى المغربيين شجونًا أخرى أكثر تعقيدًا، ارتبطت بدلالة الموقع الجغرافي لمدينة الحسيمة التي شهدت المأساة، فهي مدينة شمالية تقع في منطقة «الريف» التي تَعرَّض أهلها للقمع سنوات طويلة على يد السلطة، سواءً في عهد الاحتلال الفرنسي أو بعد الاستقلال.
«سوزان جيلسون ميلر» (Susan Gilson Miller)، أستاذة التاريخ بجامعة كاليفورنيا-ديفيس الأمريكية، كتبت لمجلة «جدلية» الإلكترونية تقريرًا مطوَّلًا تحدثت فيه عن تاريخ المغرب المسكوت عنه، وأسباب هذا السكوت، وآليات إخراجه إلى النور.
لن نتحدث عن المذبحة
شهِدَ عهد الملك الحسن الثاني إهمالًا واضحًا لمنطقة شمال المملكة وعدم اهتمام بضخِّ استثمارات لتنميتها، حتى اعتلى العرش ابنُه الملك محمد السادس الذي أعاد الشمال إلى أحضان الوطن، لكن ذكريات سنوات القمع ظلَّت عالقة بأذهان سكان منطقة الريف، فحاول الملك تشجيع الجهود التي تُسهِم في تخفيف وطأة ما يشعر به سكان هذا الإقليم المقهور.
قرر المخرج طارق الإدريسي إنتاج فيلم وثائقي بعنوان «لنكسر حاجز الصمت»، لتوثيق الأحداث الأليمة التي شهدتها انتفاضة «الريف» في الفترة من 1958 إلى 1959، وانتهت ببحار من دماء أهالي الإقليم.
الرسالة الأساسية للفيلم تكمن في تسليط الضوء على عدم توثيق الانتهاكات التي اقتُرفَت في حق الريفيين ولم يُكشَف عنها، حتى الناجون من تلك المذابح رفضوا التحدُّث عمَّا عاينوه، واكتفوا بالاحتفاظ بتاريخهم السري بينهم وبين أفراد عائلاتهم فقط، ولم تُجدِ محاولات السلطة نفعًا في تغيير جذور المشكلات الناتجة عن سنوات القمع، وهو ما ظهر في بعض الأحداث المعاصرة.
مجلة «جدلية» قسَّمت حديثها عن تلك المسألة إلى ثلاث قضايا فرعية، نعرض تفاصيلها في ما يلي.
الأرشيف التاريخي واضطهاد النظام
الملك الحسن الثاني، الذي امتدَّ عهده بين 1961 و1999، رأى أن إحكام قبضته على الحكم مرهون بقدرته على السيطرة على طبقة المثقفين.
بعد أعمال الشغب التي شهدتها الدار البيضاء عام 1965 وراح ضحيتها مئات، اتهم الملك المعلمين بالتحريض على الثورة وإشعال حماسة طلاب المدارس الثانوية، وعقب تلك الأحداث بدأ يصبُّ غضبه على المثقفين عمومًا، واصفًا إياهم بأنهم «كائنات اجتماعية متطفلة عديمة الفائدة»، وعلِقَت هذه الصفات بالمثقفين عقودًا، اتُّخذت خلالها ذريعة لإرهابهم وتعطيل دورهم في المجتمع المغربي.
كتب المؤرخ المغربي عبد الهادي سبتي باستفاضة عن تطوُّر وضع النخبة المثقفة في بلاده، وأكد أن الملك الحسن الثاني فرض رقابة على بعض الكتب المغربية والأجنبية، إلا أن الأخطر من ذلك كان الرقابة الذاتية التي بدأت تظهر لدى الكُتَّاب أنفسهم، بخاصةً في ما يتعلق بالتاريخ السياسي المعاصر، إذ اكتفى المؤرخون بالبحث في التاريخ السياسي والثقافي والاجتماعي في فترة ما قبل القرن العشرين.
اكتشفت الباحثة التاريخية «سوزان ميلر»، بعد رحلة من التحقيقات، أن أرشيفًا تاريخيًّا يتناول الحقبة من 1912 إلى 1956، وأن جزءًا منه لا يزال موجودًا في العاصمة المغربية الرباط، لكنه تحت حماية مشددة ولا يُسمح لدارسي وباحثي التاريخ بالوصول إليه، حتى الأجانب أمثالها.
نجحت «ميلر» بعد محاولات مستميتة في الوصول إلى مرادها، ورافقها أحد أمناء مخازن حفظ ذلك الأرشيف إلى مخزن يمتلئ طابقه العلوي بوثائق ملفوفة بأوراق بُنيَّة اللون تتناول المُكاتبات الحكومية اليومية في فترة الاحتلال الفرنسي، تركته القوات الغازية في البلاد ورحلت، بعكس أرشيف يتناول القضايا السياسية العامة حملته معها إلى فرنسا.
اقرأ أيضًا: حرب الريف وانتفاضات «الأوباش»: تاريخ المغرب المجهول
تاريخ المغرب في طريقه إلى النور
بقي أرشيف ما بعد 1956 هو اللغز الأكبر أمام «ميلر»، فقد فرضت السلطات المغربية تعتيمًا كاملًا على سجلات تاريخ هذه الفترة، إما بدفنها أو التخلص منها بأي طريقة، لذا تَوجَّب على الباحثين ابتكار طرق للعثور على تاريخ هذه السنوات المفقودة.
المؤرخ المغربي جَامع بيضا، المدير الحالي للأرشيف الوطني، يقول إن إنشاء هذا الأرشيف لا بد أن يكون مطلبًا للسلطة السياسية، إذ سيُسهم في حفظ الحقوق التاريخية للدولة حال دخولها في نزاع قضائي مع بلد آخر، كما حدث بين الحكومة المغربية وجبهة البوليساريو عام 1975، حين اضطر الجانب المغربي إلى تقديم ما يدعم موقفه في النزاع على مساحات من الأراضي أمام محكمة العدل الدولية.
خرج مؤرخو المغرب من تلك القضية بتشكيل رابطة لمطالبة الحكومة بإنشاء ما يُعرف بـلجنة الحقيقة المغربية (IER) عام 2004.
ما حدث مع اللجنة برهن على أن النظام لا يرغب في جمع الأرشيف التاريخي للبلاد.
تَرَكَّز دور اللجنة في عدد من المهام، منها محو الآثار السلبية لعصر الاضطهاد في الستينيات والسبعينيات والثمانينيات على يد نظام الملك الحسن الثاني، وتَقَصِّي الحقائق وجمع المعلومات حول أحداث القمع في تلك الفترة، ونجحت اللجنة على مدار سنتين في جمع كمِّية كبيرة من المعلومات في هيئة مستندات وصور ومقاطع فيديو وتسجيلات صوتية، تتناول السياسة الوحشية في ذلك العهد.
واجهت اللجنة في نهاية عملها مشكلة، إذ لم تجد مكانًا لحفظ ما جمعته من مواد وثائقية، لذلك تقدمت إلى الملك محمد السادس بطلب إنشاء «هيئة أرشيف المغرب»، إلا أن طلبهم قوبل بتباطؤ شديد برهَنَ على أن جمع الأرشيف التاريخي للبلاد لم يزل غير مرغوب فيه من النظام، ولكن بعد ضغوط داخلية وخارجية ظهر أرشيف المغرب إلى النور في 2009، وفي العام التالي عُيِّن الأستاذ الجامعي جامع بيضا أول مدير له.
وضع بيضا آمالًا عريضة على دور الأرشيف في التحوُّل الديمقراطي للبلاد، ودعا إلى الاحتفال بيوم وطني للأرشيف لدعوة المواطنين إلى المشاركة في حفظ تراثهم، لكن تفاؤله سرعان ما تَبدَّد بعد أن أصبحت هيئة الأرشيف تابعة لوزارة الثقافة ضعيفة التمويل، وهو ما تعارض مع الخطة الموضوعة لتفعيل دور الهيئة الوليدة، التي كانت تتضمن الحصول على تمويل ضخم ودعم شعبي عريض.
بعد فِقدان الأمل في التمويل الحكومي، عمِلَ بيضا على جذب الاهتمام الشعبي من خلال إقامة المعارض العامة.
دور الصحافة التاريخية
تُعتبر الصحافة إحدى أبرز وسائل ملء فراغ تدوين التاريخ المغربي، ومن أشهر الإصدارات التي أسهمت في هذا الصدد المجلة الشهرية «زمان»، التي استطاعت جذب انتباه قطاع عريض من الجمهور، ورَيَّ ظمأ الطبقة المثقفة للمعلومات التاريخية.
تتنوع موضوعات المجلة بين عصر ما قبل التاريخ والأحداث التي وقعت بالأمس القريب، ويعمل بها نخبة من المؤرخين الذين لا يعرفون خطوطًا حمراء حول موضوعات بعينها.
تشترك «زمان» مع مجلة «أنفاس» الثقافية الرائدة في فترة الستينيات وبداية السبعينيات، التي أمر النظام بإغلاقها عام 1972، لأن كلًّا من المجلتين معارضة للنظام وذات ميل يساري وتُشِيد بالتنوُّع الثقافي في المغرب، إلا أن بينهما اختلافًا أساسيًّا، هو أن «زمان» اقتصرت على تقديم الموضوعات التاريخية، بخلاف «أنفاس» التي وجَّهَت طاقتها في معظم الأحيان ضد الاستعمار والملك الحسن الثاني.
لا يعني ذلك أن «زمان» محابية للنظام، بل إنها من وقت لآخر تفتح موضوعات مثيرة للجدل، كحادثة مقتل القيادي اليساري المهدي بن بركة عام 1965، كما أنها تقدم تغطية وافية للموضوعات المتعلقة بالتيارات الإسلامية، رغم كونها مجلة علمانية يسارية في المقام الأول.
وتتبنى «زمان» دعم التنوُّع السياسي للمغرب، وكان أول موضوعاتها في أول أعدادها بعنوان «كيف تم إجلاء يهود المغرب؟»، وهو مقال هاجم كاتبه الخرافات القديمة المعتقَدة حول الأقلية اليهودية في المغرب وعلاقتهم بالمسلمين، وطرح تساؤلات حول عملية الإجلاء الواسعة لنحو 250 ألف يهودي مغربي بعد الاستقلال.
استمرت المجلة في التركيز على موضوعات من هذا النوع حتى غطَّت معظم جوانب حياة اليهود وعلاقاتهم في المغرب.
قد يهمك أيضًا: «الغونزو»: صحافة ثائرة نقلت الكاتب إلى داخل السطور
علاقة تاريخ المغرب بحقوق الإنسان
اتخذت لجنة «حقيقة المغرب» التي أسلفنا ذكرها خطوات جادَّة لتوظيف التاريخ في خدمة قضايا حقوق الإنسان، وذلك بأن نادت بحفظ ما يثبت حق ضحايا الاعتداءات الوحشية في أرشيف موحَّد يضمن سهولة البحث في تاريخ المغرب الحديث، وهو ما أضفى طابعًا ديمقراطيًّا على النظام المغربي في عهد الملك محمد السادس، وإن كانت طبيعة الحكم الملكي نفسها لم تتغير.
إدريس اليزمي، رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان، قال خلال لقاء له مع مجلة «زمان» إنه ينبغي للمغرب أن ينتقل من فكرة الذكريات إلى التاريخ، إذ يواجه المغاربة في العصر الحالي ما أسماه «التضخم في الذكريات والعجز في التاريخ».
يقصد اليزمي بتعليقه هذا وجود نمط قديم يُصِرُّ على أهمية الاعتماد على الذاكرة والشهادات الشفهية في التعامل مع التاريخ، في مقابل النمط الجديد الذي يُعطي الأولوية للبحث والباحثين وما يقدمونه من مادة موثَّقة، وتعاني الساحة الثقافية المغربية الاضطراب بين النمطين.
يدرك رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان الفاصل الرفيع بين الدفاع عن الحفاظ على التاريخ في الأرشيف دون إغفال الدور الشعبي (دعا اليزمي إلى تنفيذ فكرة متاحف أطلق عليها «الذاكرة التاريخية»)، وتحديد مواقع يُطلَق عليها «المواقع التذكارية»، ستجمع بين محبي التاريخ الموثَّق والتاريخ القائم على الشهادات الشفهية وتخفيف حدة الخلاف بينهما، ويرى بذكاء أن مثل هذه المواقع من شأنها أيضًا أن تصبح أرضًا مشتركة تجمع الفرقاء السياسيين.
يمكن للمجتمع الديمقراطي المغربي الناشئ استمداد حيويته من استعادة تاريخه، الذي لن يقوم إلا على الدعامات الثلاث سالفة الذكر؛ حفظ الأرشيف الوطني، ومشاركة الصحافة التاريخية، وتوظيف التاريخ للنهوض بحقوق الإنسان.
إن استعادة التاريخ الوطني ستفتح الأبواب أمام مدِّ جسور التواصل بين الأحزاب السياسية المتنازعة والكيانات الاجتماعية المختلفة، ممَّا يؤدي في النهاية إلى خلق موجة جديدة من الحراك ربما لم يعرفها المغرب على امتداد تاريخه الطويل.
أيمن محمود