جمهورية سلا: القراصنة يؤسسون دولتهم
السادس عشر من يوليو 1627، الأخبار تتوارد مرعبةً من قرية غريندافيك، القراصنة يهاجمون شطآن آيسلندا. هؤلاء الموريسكوس والتُّرك الذين لم تردع طموحهم الجامح المسافات ولا صقيع بحار الشمال، حطوا ككائنات ميثولوجية، بسحنتهم البرونزية الرهيبة وشواربهم الكثة وعمائمهم المغبرة، على تراب بلادنا المتجمد، ومصائرنا التي كانت تنعم بأمان غير آبهة بما يُطبَخ لها على بعد آلاف الأميال جنوبًا.
يومها شوهدت ثلاث سفن ضخمة تبحر في الفضاء الأزرق المحيط بنا، تعالت صرخات التحذير، ومعها تعالى العويل وصراخ الصبْية، حتى الكلاب أجفلت رعبًا من مشهدها المخيف وأشرعتها تلوح في الأفق، أفقنا المظلم رغم أن الوقت كان صباحًا. سرعان ما تكدس سكان جزيرة هايماهي، التي كانت تعيش في أمان قبل هذا اليوم تحت الرعاية الدنماركية.
ومع أول غبش للصباح، ضج المكان حولنا بالهرج، طلقات البارود أيقظتنا من سباتنا الحذر ذاك، ثلاثة آلاف قرصان نزلوا على الأرض، عدد كان كافيًا لاختراق أكثر التحصينات قوة.
فررنا للنجاة بأرواحنا، تفرقت الجموع راكضة تبحث عن ملاذ لها في كهوف الجبال. أفلح قليلون في الهروب من العدو الذي كان يقبض على الكل، ولا يستثني النساء ولا الصبية. بينما أنا الراهب الوقور، «أولافور إغيلسون»، ذو البضع وستين عامًا، ومجموعتي الضعيفة، سقطنا في أسر هؤلاء الوحوش الكاسرة.
هكذا خط الراهب الدنماركي العجوز ويلات هجوم فيالق القراصنة المغاربة على سواحل آيسلندا وجزرها، في مذكرات رحلته أسيرًا لدى طاقم البحار مراد رايِّس، أحد أشرس القراصنة التي عرفتهم بحار العالم المعروفة حينها.
كانت القرصنة وقتها تجارة قائمة، مقننة في جزء منها، بينما الجزء الآخر طغت عليه صفة المغامرة الفردية لرجال ما زالت مآثرهم قائمة إلى الآن. وعرفت القرصنة ثورتها في الفترة التابعة لسقوط الأندلس، ما يمنحنا لمحة تاريخية لفهم تسميتها «الجهاد البحري».
يرى المؤرخون الشرقيون ما فعلته الأساطيل العثمانية جهادًا بحريًّا، بينما يعتبرون هجمات الأساطيل الأوروبية على بلاد الإسلام قرصنة.
لم يكن للعرب من قبل عهد بركوب البحر قط، ولم تعرف الجزيرة غير شعوب اليمن والبحرين وعمان الضالعين بركوب الأمواج. ويخبرنا ابن خلدون في مقدمته أنه حينما استولت الجيوش الإسلامية على مصر، كتب الخليفة عمر بن الخطاب إلى واليه عمرو بن العاص يسأله عن كُنْه البحر، فأجابه ابن العاص بهذه الكلمات: «إنه كائن عظيم، يحمل على ظهره كائنات ضعيفة وديدانًا مزدحمة على قطع من الخشب».
بهذا الشكل نظر العرب إلى البحر، بعين الغرابة، غرابة تحولت إلى مجد ملاحي بفعل اختلاطهم بشعوب الترك وسكان شمال إفريقيا، فشيدوا حواضر سيطرت على الملاحة لقرون طويلة، ومن نسلهم جاء الاسم الذي ارتعد لسماعه ربابنة السفن، وطقطقت أخشابها رعبًا إذا ما همس أحدهم: «جمهورية سَلا».
سَلا: جهادنا عبر البحر
ينظر المؤرخون الشرقيون إلى ما فعلته الأساطيل العثمانية والبربريسكية في حوض البحر الأبيض والمحيط الأطلنطي على أنه جهاد بحري، بينما يعتبرون هجمات الأساطيل الأوروبية على بلاد الإسلام قرصنة. يخالفهم الغربيون في القول، فيؤمنون إيمانًا جازمًا بقدسية احتلال أساطيلهم للسواحل الإفريقية الشمالية، ويرون في ما يتبعها من رد مسلم قرصنة.
يتبين لنا أن المسألة لم تتعد كونها فعلًا ورَدّ فعل، عرفت بدايتها مع انتكاسة المسلمين في الأندلس، وبدء انتكاس المرينيين في المغرب، الذي كان ملوكه دائمًا سندًا للأندلسيين في حربهم ضد «الفرنجة».
اكتملت عدّة القرن الرابع عشر الميلادي بقتل السلطان أبي عنان المريني على يد وزيره، وتبع ذلك تطاحنات كبيرة وأزمات اقتصادية طبعت ذلك العصر. واستُهِل القرن الخامس عشر بهجمات شعب شبه الجزيرة الإيبيرية على السواحل المغربية، وكانت الأساطيل البرتغالية أول من خاض غمارها، تلاهم الإسبان بعدما أسقطوا غرناطة عام 1492.
في عام 1504، ستُغِير البواخر الإسبانية على الوهران الجزائرية، فيستنجد أهلها بالأتراك الذين كانوا غارقين في ويلات الحروب الداخلية والاحتلال. هذا ما سيُمكِّن العثمانيين من مد يدهم عبر البحر إلى حدود وجدة المغربية، وستنطلق بفعله عمليات الجهاد عبر البحر من ثغور الجزائر وتونس وليبيا.
معركة وادي المخازن ستدحر الوجود الإيبيري في المغرب نهائيًّا، ويُقتل فيها ملكا إسبانيا والبرتغال في حدث تاريخي منح المغرب شهرته القوية في الحرب، ما سيجعل أراضيه قِبلة لمجموعات الموريسكيين الذين هُجِّروا من ديارهم في إسبانيا، حاملين معهم حلم الرجوع إليها، وعددًا من المعارف والتقنيات المستجدة، التي سيُلحظ أثرها في مجال الملاحة البحرية.
يخبرنا «روجي كواندرو» عن تلك الهجرات في كتابه «قراصنة سَلا» قائلًا إن «الموريسكيين الذين طُرِدوا من القارة الأوروبية، بعد أن عاشوا فيها قرابة الثمانية قرون، حملوا معهم حقدًا شرسًا تجاه الإسبانيين، وحملوا معهم رغبة عنيفة في الانتقام، وفي الوقت نفسه في استرداد قيمة أموالهم الضائعة بطريقة أو بأخرى».
هكذا أسست تلك المرحلة التاريخية لنسق جديد من الثأر عبر البحر، وحشدت لمتعة جديدة فيها من المغامرة والمكسب ما يعادل مجدها وأجرها الديني، تآلف فيها المسلمون مغاربةً وأتراكًا رغم الصدامات التي كانت بين الدولتين، السعدية والعثمانية، على الأرض.
تأسيس جمهورية سَلا
جعل العهد المريني من سلا، بدايةً من القرن الثالث عشر، مركزًا تجاريًّا مُهِمًّا على الساحل الغربي للمملكة، ويُقر «مرمول كربخال» في كتابه «إفريقيا» بأنها «كانت الميناء الأكثر غِنًى ويُسرًا لمملكة فاس. فتُجّار مدينتي جِنوه والبندقية كانوا يشترون من مدينة سلا الأصواف والجلود والثياب والزرابي والعاج». هذا ما جعلها مطمعًا للغزاة الأوروبيين الذين هاجموها في عام 1260، ثم استردها بنو مرين بعد ذلك، وشيدوا فيها أكبر ورشة بناء سفن حربية في البلاد حينها.
إضافةً إلى نشاطها الاقتصادي المتميز في تلك الفترة، تميزت مدينة سلا المغربية بجغرافيا فريدة، فكونها على مصب نهر أبي رقراق يجعل منها ميناء منيعًا، يصعب التوغل فيه من طرف السفن التي تنقصها الدراية بتضاريسه، ويمنع عنها ملاحقة البواخر التي تلجأ إليه، بحسب ما يوضحه كواندرو.
لجأ القراصنة المغاربة الهاربين من الإسبان إلى سلا للاحتماء بها، واستقبلهم سكانها بالحفاوة والدعم، وكانت هذه الواقعة بداية فعلية للقرصنة انطلاقًا من مصب نهر أبي رقراق.
في بداية القرن السابع عشر، كانت المدينة الواقعة على الضفة اليمنى تعرف استقلالًا نسبيًّا عن السلطان، تحت حكم وُلَاتِها. ينحدر سكانها في أغلبهم من الأوساط البدوية المحيطة بها، غير أن تركيبتهم تنقسم بين ضفتي نهر أبي رقراق، حيث سكنت الطبقات الغنية في الضفة اليمنى، والتي قال الرحالة الفرنسي «جيرمين مويط» إن التجار الأكثر غِنًى كانوا يقطنون فيها، بينما كان للضفة اليسرى طابع بدوي فلاحي.
ستتغير تركيبة سلا البشرية بحلول موريسكيي هورناتشوس، كأول فوج قَدِم إليها استباقيًّا قبيل الطرد النهائي، والمنحدرين من منطقة إكستريمادورا غربي إسبانيا، الذين عرفوا السلاح كمرتزقة عند الملك فيليب الثاني في بادئ الأمر، يمارسون عقائدهم الإسلامية في السر، بينما يُظهرون المسيحية، وكوّنوا حملة متمردين ضد الملك بعدما أصدر مرسومه بمنع أي ممارسات دينية غير كاثوليكية.
تلاهم كثير من المورسكيين، تضاربت أقوال المؤرخين في تعدادهم بين خمسة آلاف كأدنى عدد و12 ألفًا كأقصاه، حسب ما أورده الباحث حسن أميلي في كتابه «الجهاد البحري بمصب أبي رقراق».
عمد الأندلسيون بعد استقرارهم في سلا، خصوصًا في الضفة اليسرى من نهرها التي أُطلق عليها اسم سلا الجديدة، إلى تحديث عمران المدينة، وبناء المرافق العمومية، وتحصينها جيدًا، وإعلاء أسوارها، وتزويد أبراجها بالمدافع.
جرى خلال تلك فترة ملاحقة القراصنة المغاربة من الثغور الشمالية من طرف الإسبان، الذين لجؤوا إلى سلا احتماءً بها من تلك الهجمات، فاستقبلهم سكانها بالحفاوة والدعم، وكانت هذه الواقعة بداية فعلية للقرصنة انطلاقًا من مصب نهر أبي رقراق.
أخذ الهورناتشوس يتقربون من مراكز القوى السياسية بالمدينة ليُطبِّقُوا سيطرتهم عليها، إضافةً إلى انخراطهم في عمليات القرصنة، واستثمار درايتهم بالسلاح في ميدان قتال بحري هذه المرة. حينئذ، اتخذت المدينة الجديدة طابعها القرصاني، كما يصفه روجي كواندرو، بسكانها المبرقشين اللاغطين المكونين من مغامرين أشداء غير عابئين بمنطق الأخلاق، تتسم لكنتهم برطانة تجتمع فيها اللغات العربية والإسبانية وغيرها.
باعتدادٍ بالقوة، اندلعت ثورة الهورناتشوس ضد سلطة الشريفية سنة 1627، واستولى الهورناتشوس بالقوة على المدينة وأغلقوا أبوابها في وجه السلطان.
أندلس القراصنة
استفرد الهورناتشوس بالسلطة في سلا، حتى اندلع اقتتال داخلي قاده قاطنو المدينة.
تأسست حكومة سلا المستقلة بطابع جمهوري أوليغارشي، يلقب رئيسها بالأميرال الأكبر، وفي شهر مايو من كل عام يُنتَخَب قائدان: أحدهما للقصر، والآخر لسلا القديمة.
كانت خزانة الجمهورية تستقي مواردها من الجمارك وضرائب الميناء ورسوم الصيد، بينما يشتري السكان أمنهم من السلطان بالسلع التي يغنمونها من عملهم في البحر، والرقيق الأبيض الذين كانوا يستعبدونهم خلال هجماتهم. غير أنهم لم يهملوا تحصين مدينتهم، التي وصفها الرحالة الفرنسي تركي الأصل جان أرماند مصطفى بأنها تحظى بأبراج قوية حولها متاريس من حديد لحماية مدخل الميناء الذي بناه الأندلسيون.
يوضح مويط أن المدينة كان فيها قصران، يحتوي الأول 32 مدفعًا، بينما في الثاني خمسة مدافع، يقامان تباعًا على مصب النهر وشاطئ الأطلسي.
كانت المدينة مأهولة بمورسكيين وأتراك حقيقيين ومنشقين، دون أن تكون لهؤلاء وأولئك أي مهمة داخل القصر أو في المدينة، خوفًا من أن يصبحوا أقوياء بصفة تجعلهم يُنَحُّون الأندلسيين، إلى درجة أن كل ما كان يمكن أن يطمحوا إليه هو الحصول على لقب رئيس أو قبطان بإحدى سفن القرصنة. هكذا يبين لنا «بيير دان» في كتابه «تاريخ البربر وقرصنتها».
استفراد الهورناتشوس بالسلطة في سلا لم يدم طويلًا، إذ اندلع اقتتال داخلي عام 1630، قاده قاطنو المدينة من غير الهورناتشوس ضدهم، وانتهى بإبرام اتفاق بين المتناحرين يُقِر البنود التالية:
- يَنتخب الأندلسيون لسلا الجديدة قائدًا، لكنه يقيم في سلا القديمة
- يشتمل الديوان على 16 عضوًا ينتخبون بالتساوي بين العدوتين
- توزع الموارد المالية للجمهورية بالتساوي بين العدوتين
هذا الانشقاق سيدفع والي السلطة الشريفية إلى استرجاع سطوته، والعمل على إرجاع المدينة لحكم السلطان، أو بالأحرى مساومة الحكومة السلوية لتحصيل إتاوات منها، وهو ما حدث لتنعم سلا بأيام استقرار كانت أوج مجد قراصنة سلاويين وسيطرتهم على البحر من المانش شمالًا إلى نهر السنغال جنوبًا، وداخل حوض البحر الأبيض المتوسط.
هذا الاستقرار كَدّر صفوه اندلاع انتفاضة أخرى قادها أهل المدينة ضد الهورناتشوس، وطردوا سادة الجمهورية إلى الجزائر وتونس. فرصة اغتنمها الوالي العياشي لمهاجمة سلا ومحاصرتها بالتعاون مع الأسطول الحربي الإنجليزي، وتمكنوا من ذلك في أغسطس 1637.
دامت سيطرة السلطان على سلا إلى حدود عام 1641، بعدها ستزحف على المدينة جحافل الدلائيين تحت قيادة محمد الحاج الدلائي، بعد أن بايعته قبائل الغرب على ولاية أمرهم، فتمكن من ضمها إلى مُلكه.
تركزت الحكومة وقتها في يد محمد الحاج، ففقد بذلك السلويون جزءًا كبيرًا من استقلالهم، وصارت أعمالهم تجري تحت السلطة الاسمية للسلطان الدلائي.
في عام 1660، سيعتري الهورناتشوس أمل أخير في استرداد صولتهم، وبالتالي حرية القراصنة في الاستفادة من نشاطهم في سلا، وهكذا ستندلع انتفاضة أخرى بقيادة «رَايِّس» بحر يدعى غيلان، سينجح بعد حين في اعتلاء حكم الجمهورية ودحر الدلائيين. غير أن ضعف هذا الرايّس لم يُرجِع للمدينة استقرارها بعد التطاحنات الشعبية التي طبعت عهده، ما سيجعلها سهلة المنال لقوات السلطان التي أسقطتها سنة 1668، معلنة نهاية جمهورية القراصنة إلى الأبد.
سفيان البالي