قبل داعش والقاعدة: ماذا يخبرنا التاريخ عن الإرهاب؟
في مساء العاشر من سبتمبر 2001، ذهبنا جميعًا إلى أسِرَّتنا جاهلين أن حياتنا ستنقلب رأسًا على عقب في الصباح الباكر، وستتوتر أجواء عالم السياسة لعقود قادمة، وكل ذلك بسبب كلمة واحدة فقط: الإرهاب.
هل فكرت قبل ذلك أين كان الإرهاب قبل 11 سبتمبر؟ ربما لا، لكن الصحفي البريطاني «بيتر أوبورن» حاول إجابة هذا السؤال في مقاله على موقع «ميدل إيست آي»، وقدم عرضًا وافيًا لتاريخ الإرهاب وتطوره وردود الفعل ضده.
أول ظهور للإرهاب في عالمنا
ظهرت كلمة الإرهاب عقب الثورة الفرنسية، ورغم انتهاء عهد الملكية إلا أن الجمهورية الفرنسية الجديدة لم تكن أكثر حظًّا من سابقتها، لأنها وقعت في أيادٍ أكثر تطرفًا في رأي أوبورن، فلم يعرف الحكام الجدد سوى قشور السياسة، وتفننوا في تطبيق الممارسات القمعية على كل من يخالفهم، وآخر هذه الممارسات كان الاتهامات التي قذف بها «ماكسيميليان روبسبير» معارضيه، وأعدمهم بناءً عليها دون محاكمة.
أُدرجت التجاوزات التي وقعت خلال تلك الفترة في معجم أكسفورد تحت مسمى الإرهاب كما سماها روبسبيير نفسه، وجاء نص تعريف الإرهاب بحسب ممارسة تلك الحقبة كالتالي: «الحكم بالترهيب المباشر من قبل الحزب الحاكم».
وقعت هذه الكلمة بعد ذلك طيَّ النسيان، حتى ظهرت على الساحة مجددًا في منتصف القرن التاسع عشر في روسيا، لكن حينها أصبح الإرهاب تهمة توجهها السُّلطة الحاكمة لمعارضيها، لا العكس. واستمر الإرهاب في توجيه ضرباته العنيفة للسلالات الحاكمة والوزراء والرؤساء لخمسين عامًا، وموَّل عدد من الحكومات بعض الحركات الإرهابية.
عاد ذكر الإرهاب في أواخر الستينيات والسبعينيات، عندما نشطت الجماعات الوطنية ضد الاحتلال في دول كثيرة.
بحسب أوبورن، انشغل الناس مرةً ثانيةً بالحرب العالمية الأولى عن الإرهاب، فظلت الكلمة بعيدة عن الألسن لنصف قرن، إذ جعلت فظاعة الحرب كل ما سواها من جرائم يبدو تافهًا.
قد يهمك أيضًا: الإرهاب ليس خطيرًا كما نظن
هل الثورة إرهاب؟
تلى الحرب العالمية الأولى عنف مارسته بعض الحكومات يتفق مع تعريف الإرهاب الأول، مثل بطش جوزيف ستالين بالروس، ومجازر ماو تسي تونغ ضد الشعب الصيني في ظل الشيوعية، وجرائم هتلر ضد المدنيين، وأفعال فرانثيسكو فرانكو الوحشية في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، لكن أيًّا من تلك التجاوزات لم يوصف بالإرهاب.
واجهت بريطانيا مع انتهاء الحرب العالمية الثانية ثورات دموية في بعض الدول الخاضعة للتاج، مثل كينيا وعدن وفلسطين وماليزيا، لكنها لم تعتبر هذا التمرد إرهابًا لأنها كانت تنوي التخلي عن تلك المستعمرات آجلًا أم عاجلًا بسبب بعدها عن بريطانيا.
في الوقت نفسه، وصمت القوى الاستعمارية الأخرى ثورات مماثلة بالإرهاب، مثلما فعلت فرنسا في الجزائر، لأنها لم ترغب في التخلي عن ممتلكاتها الدولية بحسب أوبورن، وأصرت على اعتبار «بلد المليون شهيد» جزءًا من دولتها، فمارست ضد من تراهم «إرهابيين» أكثر طرق القمع بشاعة.
فاض الكيل بعد 11 سبتمبر
اتفق رؤساء العالم بعد 11 سبتمبر على أن الإرهاب هو الخطر الأعظم الذي يواجه كوكب الأرض في الوقت الراهن.
عاد ذكر الإرهاب بقوة في أواخر الستينيات وخلال السبعينيات، في الفترة التي نشطت فيها الجماعات الوطنية في كثير من الدول المُحتلة، وصُنفت باعتبارها تهديدًا للأمن القومي للدول الكبرى، وكان من ضمنها الجيش الجمهوري الأيرلندي، ومنظمة التحرير الفلسطينية، ومنظمة إيتا الانفصالية في إقليم الباسك الذي تسيطر عليه إسبانيا وفرنسا، بالإضافة إلى حروب العصابات التي اشتعلت في أوروبا وأمريكا الجنوبية.
في بريطانيا على وجه الخصوص، اختلف حراك الجيش الجمهوري الأيرلندي في رأي أوبورن عن الثورات الأخرى التي واجهتها المملكة بعد الحرب، لأنه طالب بإسقاط ملكية بريطانيا لمقاطعة من مقاطعاتها، وتسبب في مقتل مدنيين بريطانيين على أرضهم في المملكة المتحدة.
اتخذت بريطانيا العديد من الإجراءات الصارمة مثل السجن الوقائي والاعتقال، التي لم يكن تطبيقها متوقعًا في وقت السلم، والسبب يرجع إلى وضع المملكة المتحدة جرائم الجيش الجمهوري الأيرلندي بين قوسي الإرهاب. ورغم الهجمات العنيفة التي تلقتها بريطانيا، إلا أنها لم تغلق الباب أمام المفاوضات.
قد يعجبك أيضًا: قصة أول فتاة تحارب «داعش» في سوريا
بعد تفجير برجي مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر 2001، تجاوز الإرهاب كل الخطوط الحمراء، وعندها اتفق رؤساء العالم على أنه الخطر الأعظم الذي يواجه كوكب الأرض في الوقت الراهن، فأعلن جورج بوش الابن الحرب على الإرهاب، وصرح توني بلير بأن الإرهاب الإسلامي يلزمه جيل كامل للقضاء عليه.
تسبب الخوف من الإرهاب في تغيير القوانين بشكل مستمر، ومنح المزيد من السلطات للحكومة، ويقول أوبورن إنه عقب هجمات سبتمبر صدَّقَت الحكومة البريطانية على قانون مكافحة الجرائم الإرهابية والأمن في عام 2001، ووضعت مواد العدالة الجنائية في 2003، ثم أصدرت قانون منع الإرهاب في 2005، وأعقبته بقانون الإرهاب في 2006، ثم قانون مكافحة الإرهاب في 2008، وتوالت الإضافات القانونية بعد ذلك.
الإرهاب مصلحة عالمية
حاول «ديفيد أندرسون»، وهو خبير في تشريعات الإرهاب، أن يعيد تقييم الإرهاب كمفهوم، فأجرى تحقيقًا ناقش فيه جهات مثل أجهزة الاستخبارات ومنظمات حقوقية، ومعتقلين سابقين في غوانتانامو، والمؤسسات المعنية بمكافحة التطرف.
يحافظ الإرهاب على وظائف السياسيين والصحفيين، ويضخم ميزانيات الجيش وأرباح الإعلام.
تقف كلمة الإرهاب عقبةً في طريق الإصلاح، كا يرى أندرسون، الذي يشير إلى أن عديد من الدول المتقدمة أدارت أمورها حتى وقت قريب دون اللجوء إلى أي قانون يتعلق بالإرهاب، هذا اللفظ الذي يَصِمُ كل ما يلتصق به، لأنه يشير إلى الصفات المتطرفة والخطيرة والسرية والتآمرية التي تفتن الناس وتفزعهم في الوقت نفسه.
كمثال على فتنة مفهوم الإرهاب، أشار أندرسون إلى استفادة المجرمين في شمال أيرلندا من تلك الصفة لتعزيز موقفهم عند المتعاطفين مع الجماعات المضطهدَة التي ينتمون إليها، بينما يُهرِّبون المخدرات ومحركات الديزل لتحسين أوضاعهم. ويسافر المسلمون الشباب من ذوي الجنسية البريطانية إلى مناطق غير خاضعة للقانون، يدفعهم إيمانهم المطلق وأحلام الجهاد في سبيل الله ورفقة الكفاح والانخراط في الصراع ضد الباطل.
اقرأ أيضًا: كيف حاول الاتحاد السوفييتي التضييق على الإسلام فأخرج جيلًا من المتطرفين؟
يصب الإرهاب بحسب أندرسون في مصلحة السياسيين والصحفيين والنشطاء، فهو يحافظ على وظائفهم، ويضخم ميزانيات الجيش والاستخبارات، ويزيد أرباح القنوات التليفزيونية وصُنَّاع الأفلام والكُتَّاب وغيرهم، وهكذا يصير كنزًا ثمينًا بالنسبة لكثيرين.
يؤكد أندرسون أن الجميع لديهم مصلحة في الإبقاء على الهالة المرعبة والخطيرة التي تحيط بالإرهاب من كل جانب، ويشكك الرجل في الوقت نفسه في الاعتقاد القائل إن كل إرهابي مسلم بالضرورة، واستطاع إثبات ذلك باستعراض تاريخ العمليات الإرهابية، إذ واجهت أيرلندا مثلًا 15 عملًا إرهابيًّا في عام 2015 لا دخل للإسلام بها.
كيف كان الإرهاب قبل تنظيم القاعدة؟
لجأ أندرسون إلى الوقائع التاريخية ليثبت أن الإرهاب في صورته الجديدة لم يقم على أيدي تنظيم القاعدة كما يُشاع.
فمن جهة عالمية التنظيم، ليست القاعدة أول من أرسى شبكة علاقات دولية تساعدها في تنفيذ مهامها، بل سبقتها إلى ذلك تنظيمات أخرى مثل أخوية «فينيان» التي نفذت تفجيرات في إنجلترا خلال ثمانينيات القرن التاسع عشر، وكان «جاي فوكس» مسؤولًا عن تفجير البرلمان الإنجليزي في «مؤامرة البارود» عام 1605، لكن مهمته باءت بالفشل.
أما التفجيرات الانتحارية فليست بالشيء الجديد، ولها تاريخ طويل مع الحروب كما حدث في عهد نيقولا الثاني إمبراطور روسيا، وإن انتشرت بشكل أكبر خلال الحرب الأهلية اللبنانية.
وأسقطت العمليات الإرهابية ضحايا مدنيين قبل ظهور تنظيم القاعدة بزمن، مثل ما حدث عند تفجير طائرة هندية عام 1985، وأخرى أمريكية عام 1988.
يتساءل أندرسون عن حاجتنا الحقيقية لقوانين رادعة للإرهاب لا تتعدى كونها تعبيرًا عن الغضب العام، فالقوانين العادية نجحت في عقاب الإرهابيين في الماضي، مثل ما حدث مع المسؤول عن تفجير منطقة «كناري وورف» الاقتصادية في لندن، الذي اتُّهم بالقتل والتآمر لإحداث التفجيرات وأُدين تحت مظلة القوانين المتعارف عليها، بالإضافة إلى قضايا أخرى اتُّبِعت فيها إجراءات مماثلة.
يؤكد أندرسون خطر استغلال قوانين الإرهاب لقمع الاحتجاجات السلمية، فقد أصبح الصحفيون والمدونون وكل من يتعاون معهم إرهابيًّا، وتعرضوا لحزمة من القيود والإجراءات القانونية التعسفية، وهذا التعامل المجحف مع المدنيين سيتسبب في ظهور إرهاب حقيقي.
لا يجوز أخذ «العاطل بالباطل»، لذلك استنكر أندرسون الاتجاه الجديد في السياسة الأمريكية نحو التحقيق مع الأفراد المسالمين الذين ينتمون لطوائف معينة موصومة بالإرهاب، رغم عدم صدور أي تصرف عنهم يُنبئ بإقدامهم على استخدام العنف.
اقرأ أيضًا: كيف تستخدم الدنمارك علم النفس في مواجهة داعش؟
سيظل الإرهاب هو «البعبع» الذي يخيف الشعوب، ويمنح الحكومات مزيدًا من المزايا السياسية، ويتربح منه الكل عدا المدنيين، الذين يقعون ضحايا للدولة مرة وللإرهاب مرة أخرى، ولن يكترث أحد بنصائح ورؤي أندرسون أو غيره.
ندى حنان