الثورة التقنية المضادة: هل حان الوقت لهجر التكنولوجيا؟

أندرو محسن
نشر في 2017/06/21

الصورة: rawpixels

أصبحت التكنولوجيا جزءًا من جميع مناحي حياتنا يزداد اتكالنا عليها يوميًّا، ويمكنك الدخول إلى أي تجمع وإحصاء عدد الأشخاص الناظرين في هواتفهم وستجده يفوق من ينظرون إلى الآخرين، رغم أن كثيرًا من الكتابات والدراسات تحذر من هذا الانفصال عن الواقع، أو الدخول إلى الواقع الافتراضي.

لهذا يحاول بعض الناس إيقاف الاستخدام السيئ للتكنولوجيا والبحث عن طريقة لمقاومته، وربما يتحول الأمر لنشهد أكبر حركة مقاومة ثقافية منذ ظهور النباتيين، بحسب مقال منشور على موقع «Vice».

لم يعد الأمر مسليًا

كيف يؤثر تعلقك بهاتفك المحمول عليك؟  

التكنولوجيا هي المستقبل، لكن المطلوب تحديد المساحة التي يجب أن تحتلها في حياتنا.

رغم انتشار استخدام الإنترنت، يشكو بعض الناس من أنه أصبح مملًا، والأمر يشبه كثيرًا من قصص الحب التي تبدأ مثيرة في أولها، فلا يتخيل أي الطرفين مفارقة الآخر، ثم تتحول مع الوقت إلى شيء تقليدي أو معاملات يومية خالية من أي عاطفة. وحتى الشخصيات أو الصفحات التي اعتدنا متابعتها بشغف تصبح بالتدريج جزءًا من لعبة رأس المال والإعلانات، فننسى لِمَ كنا نتابعها من الأساس.

هكذا صارت علاقتنا بالإنترنت خالية من أي حماس أو متعة حقيقية، لكننا في الوقت نفسه لا نستطيع التوقف عن استخدامه، ولم نعد قادرين على الارتباط بشيء طويل الأمد، مثل قراءة كتاب، لكننا لا نتوقف عن استخدام الشبكات الاجتماعية ومحركات البحث استخدامًا خفيفًا لا قيمة حقيقية له.

المخيف فعلًا أننا جميعًا ندرك هذا، إذ قرأنا كثيرًا من المقالات وشاهدنا مقاطع فيديو تتحدث عن خطورة التصاقنا الدائم بهواتفنا وانفصالنا عن الحياة الواقعية، لكن مع تشخيصنا للمرض لم نحاول أن نجد علاجه، وهذا في الوقت الذي ينظر فيه الجيل الحالي إلى نفسه باعتباره جيلًا ذكيًّا ومطَّلعًا، لكنه لم يحاول مع ذلك أن يجد حلًّا لواحدة من أكثر المشكلات انتشارًا في العالم.

ربما لم نعثر على حل حتى الآن لأننا لا نعرف من أين نبدأ، فإيقاف استخدام الإنترنت يشبه لبعض الناس إيقاف الأكسجين، والابتعاد عنه يُدخلهم في حالة من الضياع. يصعب الحياة في العالم حاليًّا دون اتصال بشبكات التواصل الاجتماعي، تخيل أن تغلق جميع حساباتك وتعود إلى الحياة «البدائية»، فكيف لك أن تعرف موعد حفل عيد ميلاد صديقك دون فيسبوك؟ وإن عرفت، كيف سترتب للهدية مع الباقين دون واتس آب؟

اقرأ أيضًا: لماذا نخاف أن يفوتنا شيء؟

حراك ضد التكنولوجيا

الصورة: Gilles Lambert

يبدو أن التخلص من سيطرة التكنولوجيا علينا أمر مستحيل، لكن بإعادة النظر سنجد أن التكنولوجيا لم تغزُ حياتنا بهذا الشكل سوى من سنوات قليلة، إذ ظهر فيسبوك وآيفون في العقد الماضي فقط، بينما لم يمضِ على وجود الإنترنت كله أكثر من ربع قرن.

لهذا فإن ما نحسبه بداية النهاية للتكنولوجيا ربما يكون مجرد بداية ازدهارها، وعلينا لاحقًا أن نقرر ما يجب أن نحتفظ به فعلًا وما يجب التضحية به، فالتكنولوجيا هي المستقبل، لكن المطلوب تحديد المساحة التي يجب أن تحتلها في حياتنا.

بدأت بعض الخطوات الصغيرة لتحقيق ذلك تظهر فعلًا، فهناك مدارس تمنع دخول الهواتف المحمولة إلى الفصول، وبعض المطاعم كذلك منعت وجودها على المائدة، بينما تحظر عدة شركات استخدام الهاتف خلال الاجتماعات، وتفرض دول عدة غرامات على استخدام الهواتف في أثناء القيادة.

على المستوى الفردي، ظهرت عدة أفكار للتخلص من الإدمان الرقمي، وكانت الفكرة الأساسية في الماضي هي الوجود في أماكن للرعاية لا تُستخدم فيها الهواتف، ثم بدأت بعض المنظمات في إدخال بعض التعامل الإيجابي مع التكنولوجيا المفيدة.

تقنين استخدام الهاتف المحمول أمر صحي، مثل أكل الخضراوات.

زاد من انتشار هذه الأفكار التزاوج بين التكنولوجيا وبعض الرياضات والممارسات الصحية أو التأملية التي أخذت في الانتشار، هكذا ظهرت عدة تطبيقات لإراحة الذهن مثل «Headspace»، بجانب تطبيقات أخرى تساعد في تقنين استخدامنا للإنترنت مثل «SelfControl»، الذي يعمل على إغلاق عدة مواقع لوقت محدد، أو تطبيق «StayOnTask» الذي يذكرك كل فترة بالتركيز في المهمة التي تؤديها، وكلها تطبيقات تساعد في الابتعاد عن التكنولوجيا بدرجة ما.

نقول «بدرجة ما» لأنها في النهاية تطبيقات على الهواتف، فنحن إذًا نستخدم تطبيقات على الهواتف لتساعدنا في التوقف عن استخدام الهواتف.

ممارسة صحية

6 أسباب لإقناعك بالإقلاع عن إدمان التكنولوجيا

قد يبدو ما نقوله غريبًا، لكن تقنين استخدام الهاتف أمر صحي مثل أكل الخضراوات.

لاحظ الدكتور «ريتشارد غراهام»، وهو طبيب نفسي في مجال الأطفال والمراهقين، أن أعداد الصغار الذين يأتون إليه للشكوى من مشكلات ذهنية بسبب الاستخدام المفرط للتكنولوجيا يتزايدون منذ 12 عامًا، فافتتح في عام 2010 أول عيادة في بريطانيا متخصصة في علاج إدمان التكنولوجيا، وفي السنوات اللاحقة أصبح من أهم الخبراء في هذا المجال.

يرى غراهام أن علاقتنا بالتكنولوجيا أصبحت غير صحية، إلا أننا لا نزال بعيدين عن معرفة حدود الأزمة حتى الآن، ويذكر أنه بدأ عمله عندما كان هناك جهاز كمبيوتر واحد على المكتب، والآن صار بالإمكان ارتداء هذه الأجهزة، لذا فالموضوع يتعقد باستمرار.

لكنه يرى في الوقت نفسه أن مقاطعة هذه الأجهزة تمامًا ليست الحل الأمثل، بل ينبغي تعليم الأجيال الجديدة كيف يستخدمون التكنولوجيا على أفضل نحو، ويؤمن غراهام أنه من المحتمل تشكُّل حركة مقاومة، إذ رأى بعض الآباء يبحثون عن مدارس تمنع استخدام «الآيباد» في الحضانة.

قد يعجبك أيضًا: قريبًا يودعنا الهاتف الذكي.. ينتظرنا عالم أكثر ذكاءً

الآن يجب أن نخاف

الصورة: Ilya Pavlov

رغم  هذه الحركات والمبادرات الفردية، لم يظهر تغير قوي في المجتمعات المستهلكة للتكنولوجيا، ولم تجد النزعة المضادة للإفراط في استخدام الإنترنت وقعًا حقيقيًّا لدى الكثيرين، لكن هناك شيئًا آخر دفع كثيرين إلى إعادة النظر في المسألة.

مع انتشار التسريبات السياسية على الإنترنت، وبعدها التسريبات الشخصية وموجات القرصنة الواسعة، بدأ الأمر يأخذ طابعًا مخيفًا، و«الشائعات» التي كنا نسخر منها في الماضي، مثل أن هواتفنا قد تتنصت علينا، أصبحت أمورًا تدعو للتفكير حاليًّا، وهكذا أخذ الناس يشكُّون في التكنولوجيا أكثر فأكثر.

جرَّب معظمنا أن يبحث عن شيء ما على غوغل مثلًا، فيجد إعلانات أو معلومات متعلقة تظهر له على فيسبوك، أو أن يجد فيسبوك أو تطبيقًا آخر يعلم مكانه الحالي، وهكذا يتحول إعجابنا بالتكنولوجيا إلى شعور بأننا مراقبون طيلة الوقت.

ليست الشركات أو العلامات التجارية فقط هي التي تتابع هذه المعلومات، بل تراقب الحكومات مواطنيها كذلك بمتابعتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، سواء بأنفسهم أو بالاستعانة بشركات أخرى.

تقول «مانوش زوموردي»، مديرة تحرير موقع «Note to Self»، إننا «نحب أن نكون أون لاين، لكننا نكره عدم استطاعتنا السيطرة على معلوماتنا الشخصية، ويوافق الشخص منّّا على شروط الاستخدام ثم يفكر بأنه شخص سيئ لأنه لم يقرأها جيدًا، أو قرأها لكنه وافق على أي حال، فكيف وصلنا إلى حالة نشعر معها بالذنب لأننا سنحمِّل تطبيقًا ما؟».

تطلق زوموردي على هذه العلاقة الملتبسة اسم «مفارقة الخصوصية» (Privacy Paradox)، وهو الاسم نفسه الذي اختارته لمشروع أطلقته عبر «Note to Self»، تطرح خلاله أدوات ومعلومات لكيفية الحفاظ على خصوصية المعلومات، في الوقت الذي تصل فيه شركات وحكومات كثيرة إلى المعلومات الشخصية بمنتهى السهولة.

تعلق زوموردي على ما تقدمه قائلةً: «نُعِد المستخدمين للتعامل مع عالم لا يخضع لقواعد أو نقاش، فنحن لا نملك القدرة على الاختيار هنا»، لكنها تصطدم بعدد من المستخدمين غير المدركين لاختلاف سياسة الاستخدام بين كل تطبيق وآخر، فكثير من التطبيقات المجانية أو قليلة الثمن تدخل إلى قائمة الأرقام والميكروفون وغيرهما في الهواتف، وبإمكانها لاحقًا بيع هذه البيانات.

لنا في النباتيين عبرة

الصورة: Kaique Rocha

كما هي العادة مع الحركات المضادة، تنشأ في نطاق صغير ثم تنتشر، حتى تتبناها المؤسسات التي خرجت هذه الحركة لمقاومتها.

فوجئت مانوش زوموردي بإقبال عدد كبير على تنفيذ الأفكار التي قدمتها، فقد تخيلت أن يجذب مشروعها في البداية نحو مئتي شخص، لكن وجدت إقبالًا من قرابة 20 ألف شخص، فعندما يدرك الناس أنه بإمكانهم التحكم في بياناتهم الخاصة وحجبها عن الشركات أو الحكومات التي تستخدمها، يفعلون ذلك على الفور. تذكر زوموردي كذلك أن البداية تتطلب أمورًا صغيرة وبسيطة، مثل إلغاء بعض التطبيقات.

ربما لا تلقى التطبيقات المشفرة التي تحتفظ بسرية البيانات كثيرًا من الإقبال حاليًّا، مثل تطبيق «Signal» للمراسلة، لكن لاحقًا سيدرك المستخدمون قيمة هذه التطبيقات.

يشبه الوضع الحالي ما كانت عليه فكرة «النباتية» وقت ظهورها، إذ بدأ الأمر بعلماء يحذرون من تأثير أكل اللحوم على أجسامنا والبيئة، وتُقابل تحذيراتهم بالتجاهل، لكن ببطء يبدأ النباتيون في الانتشار، لنصبح أمام واحدة من الثقافات المضادة الكبيرة.

حتى التدخين تغيرت ثقافة التعامل معه، فالأماكن التي تمنع التدخين تزداد يومًا بعد يوم، بعد مضي سنوات في محاولات لتوضيح خطورة التدخين، وفي النهاية نجح الأمر نسبيًّا.

كما هي العادة مع الحركات المضادة، تنشأ في البداية على نطاق صغير ثم تنتشر، حتى يصل الأمر إلى تبنيها من قِبل المؤسسات التي خرجت هذه الحركات لمقاومتها في البداية.

هل يعني هذا أننا سنصحو في يوم لنجد أن الناس ألقوا بهواتفهم في القمامة؟

بالتأكيد لا، لن يحدث أن يذهب البعض إلى متاجر شركة «آبل» ليحطموا متاجرها انتقامًا ممَّا تفعله في المستخدمين، وقد يستغرق الأمر وقتًا، وربما لا يحدث على الإطلاق، لكن كلما تنامى الوعي الجمعي بخطورة الاستسلام للتكنولوجيا، بدأ الأشخاص بالانتباه ومحاولة إعادة السيطرة على الأمور.

أندرو محسن