انطلاقًا من الثورة: كيف وصلت إدلب إلى سوتشي؟
بعدما بدا أنها مسألة أيام على بداية معركة إدلب، بين النظام السوري وحلفائه من جهة، والمعارضة السورية وحلفائها من جهة ثانية، انتهى الأمر باتفاق بين روسيا وتركيا. لم تندلع المعركة، على الأقل في الوقت الراهن.
إدلب، المعقل الأخير للمعارضة المسلحة والمدنية الرافضة لحكم الأسد، واجهت كثيرًا من التحديات، ومرت بمحطات متنوعة وسيناريوهات مختلفة منذ بداية الحراك السوري. نحاول أن نسرد حكايتها سريعًا
الحراك السلمي
تُعرفُ إدلب بـ«الخضراء» لكثرة أشجار الزيتون. وكغيرها من المناطق السورية، انطلق الحراك السلمي المُطالب بالتغيير الديمقراطي، بعد أيام من المظاهرات السلمية التي شهدتها مدينة درعا التي ثار أبناؤها على بشار الأسد.
البداية الفعلية لأهالي إدلب في الثورة السورية، كانت في 25 مارس عام 2011. إذ خرجت مظاهرات في عدة بلدات، مثل بنش وسراقب، تطالب بالإصلاح السياسي، وسرعان ما امتدت المظاهرات الغاضبة إلى المدن المجاورة، مثل معرة النعمان وريف إدلب الشمالي، حتى شملت المحافظة بأسرها، وواجه المتظاهرون رصاص قوات النظام بصدور عارية، في الوقت الذي حاولت فيه قوات النظام إخماد المظاهرات بقوة السلاح.
في نهاية عام 2011، أصبح ريف إدلب من المناطق التي حمل فيها الثوار السلاح، ضد قوات النظام الذي اعتقل المتظاهرين وأطلق عليهم الرصاص الحي، ما أثار غضب الأهالي، لينضموا إلى موجة التسليح التي بدأت خلال شهر يوليو من العام ذاته، حين شكَّل عدد من الضباط المنشقين عن جيش النظام، النواة الأولى للجيش السوري الحر، وكانت أولى أهدافه المعلنة حماية المدنيين، وأن يكون الجيش الحقيقي لسوريا المستقبل بعد تخلي الأسد عن السلطة.
الحراك العسكري
منذ بداية العمل المسلح، خرجت قرى وبلدات كثيرة في ريف إدلب عن سيطرة قوات النظام في عام 2012، حين تمكنت قوات الجيش السوري الحر من السيطرة على بلدات سراقب وجبل الزاوية ومعرة النعمان وغيرها من الريف الجنوبي لإدلب، وذلك بسلاح فردي اكتسبه الجيش الحر من معارك مع قوات النظام، وعمليات شراء من تجار تابعين للأسد.
بعد خروج هذه البلدات عن السيطرة، شنت قوات الأسد غارات جوية بالصواريخ والبراميل المتفجرة على المدن والبلدات، وركزت في قصفها على الدوائر الرسمية، ومنازل المدنيين، ما أدى إلى مقتل كثيرين، وأيضًا خروج عدد من المدارس والدوائر الرسمية عن الخدمة نتيجة تضررها بالقصف، ولحق بالبلدات دمار واسع في الأبنية السكنية.
خلال عامين من تأسيس الجيش الحر، وباتساع مناطق سيطرته وزيادة أعداده، تشكلت بعض الألوية، أهمها لواء «صقور الشام» الذي كان بقيادة أحمد الشيخ، المعروف بأبي عيسى.
يضم اللواء ثلاثة ألوية واثنتي عشرة كتيبة، أبرزها «فجر الإسلام» و«سيوف الحق» و«داوود». من أهم إنجازات «صقور الشام» السيطرة على جبل الزاوية، وقطع طريق إمداد قوات الأسد إلى مدينة إدلب، وكان عدد مقاتليه في تلك الفترة، نحو تسعة آلاف، حتى تشكلت «جبهة تحرير سوريا» الإسلامية في 12 سبتمبر 2012، والتي ضمت «صقور الشام» ولواء «التوحيد» في حلب، وتجمُّع «أنصار الدين» ولواء «عباد الرحمن» في معرة النعمان، وعددًا من الكتائب الأخرى. إذ تمكنت من السيطرة على مواقع قوات النظام ونقاط تمركزه في ريف المحافظة.
استقطبت مدينة إدلب في تلك الفترة عددًا من المقاتلين الأجانب، الذين انضموا إلى صفوف «جبهة النصرة» بقيادة أبو محمد الجولاني، والتي لا تزال قائمة تحت مسمى «هيئة تحرير الشام»، المصنفة على قائمة الإرهاب، لارتباطها بالقاعدة. وشهد ريف إدلب فترة من الركود بعد السيطرة على أجزاء واسعة منه، حتى تشكيل جيش الفتح.
تشكيل «جيش الفتح لتحرير إدلب»
مع انتهاء 2015، شهدت إدلب تحولات كثيرة، من أبرزها تفكك جيش الفتح.
«جيش الفتح» اتحاد عسكري بين قوات المعارضة السورية في إدلب، تشكَّل في 23 مارس 2015. في نفس اليوم بدأ أول معاركه، وهي تحرير مدينة إدلب. سماها «غزوة إدلب»، وانتصر بعد خمسة أيام، وحررها بالكامل من قوات النظام، ما منح للجيش قوة معنوية ورمزية كبيرة.
أعلن جيش الفتح، في 25 أبريل 2015، سيطرته على جسر الشغور بريف إدلب الغربي، وهي بوابة المحافظة إلى اللاذقية، معقل النظام السوري. تحقق تحرير جسر الشغور بعد معارك دامت ثلاثة أيام، وسيطر جيش الفتح في التاسع من سبتمبر 2015، على مطار «أبو الظهور» العسكري، بعد حصار دام لمدة طويلة، وأسر الجيش أكثر من مئة جندي تابع لقوات النظام، وقتل عشرات الأفراد منهم خلال اشتباكات عنيفة، وبعد سيطرة جيش الفتح على مركز محافظة إدلب، أصبحت ثاني مركز محافظة محرر بالكامل بعد الرقة.
مع انتهاء 2015، شهدت إدلب تحولات كثيرة، من أبرزها تفكك جيش الفتح. إذ لم ينجح في تقديم مزيد من الانتصارات، وحاول فك الحصار عن مدينة حلب مرتين، لكن محاولاته باءت بالفشل. وهدد مركز النظام في اللاذقية، حتى انسحاب فصيل «جند الأقصى» منه، واتهام الفصائل له بانتمائه إلى تنظيم الدولة الإسلامية.
في محاولة من روسيا وإيران وتركيا لتهدئة الحرب السورية، أنشأوا «منطقة خفض التوتر» بموجب اتفاق أستانة بين تركيا وروسيا وإيران.
شنت الفصائل حربًا على «جند الأقصى» لاستئصاله، وانتهى المطاف بنقل كثير من عناصره إلى مناطق يسيطر عليها داعش شرق سوريا. وشكَّل جيش الفتح إدارة مدنية لإدلب، لينتهي عمله على الإطلاق.
عند انتهاء زخم جيش الفتح شهدت «جبهة النصرة» ضغوطات كثيرة، ما أجبرها على إعلان فك ارتباطها مع تنظيم القاعدة. تغير اسمها إلى «جبهة فتح الشام»، وفي ما بعد غيرت اسمها إلى «هيئة تحرير الشام»، لكنها بقيت محافظة على أهدافها وفكرها القاعدي، إضافة إلى احتوائها عددًا من المقاتلين الأجانب والعرب، وخلال خروج المعارضة المسلحة من مدينة حلب بعد تطويق النظام لها، شهدت إدلب معارك ضخمة بين «حركة أحرار الشام» الإسلامية و«هيئة تحرير الشام»، ما أدى إلى إضعاف حركة أحرار الشام بشكل كبير، وسيطرت تحرير الشام على معبر باب الهوى المحاذي لتركيا.
شهدت إدلب بزوغ كثير من الفصائل العسكرية التابعة للجيش السوري الحر. ففي 2016 و2017، كان يسيطر على مدن سراقب ومعرة النعمان وقسم من جبل الزاوية. وأما «هيئة تحرير الشام»، فأصبحت تسيطر على مدينة إدلب والمعبر والمناطق المحيطة به وخان شيخون وأريحا وجسر الشغور والريف الشمالي والقسم الأكبر من الريف الجنوبي.
اتفاق أستانة: منطقة خفض التوتر
مقارنة بغيرها من المناطق، معركة إدلب هي الأكثر تعقيدًا. لأن انتصار النظام السوري وحلفائه فيها، يعني الإعلان النهائي لانتصار الأسد وبقائه.
في محاولة من الدول الثلاثة الأكثر تدخلًا في الحرب السورية، روسيا وإيران وتركيا، لتهدئة الحرب، توصلوا إلى إنشاء «منطقة خفض التوتر» في محافظة إدلب، وذلك بموجب اتفاق أستانة بين تركيا وروسيا وإيران، في مايو 2017.
إقرار هذا الاتفاق كان في الجولة السادسة من مباحثات أستانة الخاصة بسوريا، ومن بنوده نشر مراقبين لضمان احترام وقف إطلاق النار بين المعارضة المسلحة وقوات النظام. إلا أن روسيا خرقت الاتفاق خلال قصف بعض القرى والبلدات في ريف إدلب. في أكتوبر 2017، دخلت القوات التركية إلى مناطق في إدلب لإنشاء نقاط مراقبة لاتفاق خفض التوتر، بهدف منع زيادة الخروقات الروسية.
في العام ذاته، شهدت المحافظة اقتتالًا دائمًا بين الفصائل حتى مطلع 2018، بين «جبهة تحرير سوريا» و«هيئة تحرير الشام»، ما أدى إلى مقتل العشرات في صفوفهم. سبق ذلك اقتتال بين «حركة الزنكي» و«هيئة تحرير الشام»، وأصبح واضحًا أن المعارك البينية بين الفصائل أصبحت تطغى على أي طموح يخص مواجهة النظام الذي استمر في استعادة المناطق. كان آخرها مدينة درعا منتصف 2018، وكان سيطر على حلب قبلها بأكثر عام، ولم يتبق سوى إدلب.
اتفاق سوتشي
مقارنة بغيرها من المناطق، كانت معركة إدلب الأكثر تعقيدًا. لأن انتصار النظام السوري وحلفائه فيها، يعني الإعلان النهائي لانتصار الأسد وبقائه. وقد تكون بعض الدول الكبرى، حتى بتسامحها مع وجود الأسد، غير مستعدة لهذا الإعلان في الوقت الراهن. تركيا الداعمة للمعارضة، ستجد نفسها في مواجهة موجة جديدة من الهجرة، وهي غير مستعدة لتحمل عواقبها. يضاف إلى كل ذلك أن مسحلي المعارضة ليس أمامهم ملجأ آخر. ما يعني أن المعركة، ستكون دموية بشكل لا يمكن مراوغته.
يشكل اتفاق سوتشي رضوخًا من النظام لعدم حسم المعركة، ورضوخًا من فصائل المعارضة بترك أحلام السيطرة على البلاد كاملة.
في المقابل، بالنسبة إلى نظام الأسد، هذه المعركة هي التي تتوج انتصاره. أما روسيا التي لم تكتف بالترويج لحملة عسكرية على إدلب، واصلت اتهام المعارضة، مشيرة إلى أن منظمة «الخوذ البيضاء» تستعد لفبركة هجمات كيماوية لاتهام النظام بشنها. لكن يبدو أن الضغوط على الجهة المقابلة، وبخاصة من تركيا، التي تربطها علاقات قوية بروسيا، كانت أقوى من إهمالها تمامًا، فحدث الاتفاق.
هذا الاتفاق الأخير الذي عقد في مدينة سوتشي الروسية، بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، جسَّد المفاهيم المعقدة نحو حل شبه مبدئي ينقذ المدينة من هجمات النظام الممكنة، وهو إقامة منطقة منزوعة السلاح للفصل بين قوات النظام وميليشياته من جهة، وقوات المعارضة من جهة أخرى.
الاتفاق يشكل رضوخًا من جانب النظام لعدم حسم المعركة، ورضوخًا من المعارضة وفصائلها بترك أحلام السيطرة على البلاد كاملة أو التوسع خارج إدلب. تتوقع المعارضة أن تلتزم، حتى الفصائل المتشددة، بالاتفاق، وأن تنسحب من المناطق المتفق عليها لتكون منزوعة السلاح، ما يعني أن هناك أملًا في أن يصمد الاتفاق، على الأقل إذا لم يحدث جديد.
حسين الخطيب