صيف الحب: ثورة «الهيبيز» التي أعاد فشلها صياغة شكل العالم
في يناير 1967، فوجئ سكان مدينة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا الأمريكية بتوافد 20 ألف شخص على أقل تقدير على منتزه «البوابة الذهبية»، وأعقب ذلك حضور قرابة مئة ألف شخص من مدن أخرى، لتزدحم سان فرانسيسكو بالشباب طويلي الشعر الذين يرتدون أزياءً ملونة وغير تقليدية، فما الذي دفع بكل هذا العدد إلى تلك المنطقة في هذا الوقت بالذات؟ لقد كان هذا «صيف الحب».
البداية: مظاهرة من أجل المخدرات
جذبت احتجاجات «البوابة الذهبية» تيارات تقاطعت أفكارها مع الهيبيز، مثل مجموعة «ملائكة الجحيم» وجماعة «الحفارين» الأناركية.
جاءت هذه الأعداد الكبيرة لرفض قانون الولاية حظر تداول عقار «LSD» بعدما كان متاحًا للجميع، في حدث عُرف باسم «تجمع العشائر»، دعت إليه جماعة الهيبز المحلية في سان فرانسيسكو، ولبَّاها الهيبيز من مختلف أنحاء الولاية.
الهيبيز هم شباب من الطبقة المتوسطة شكلوا ثقافة مضادة دعت إلى شيوع السلام والحب وإطلاق الحريات الشخصية، في الوقت الذي كانت فيه أمريكا متورطة في حرب فيتنام، فاحتج الهيبيز ضد الحرب، واحتجوا كذلك على طريقة آبائهم في الحياة، فقاوموا العمل في الوظائف المكتبية المملة التي ميزت الجيل السابق، وحاولوا كسر التراتبية الأُسَرية التقليدية التي لم تتوافق مع تطلعاتهم.
كانت احتجاجات «البوابة الذهبية» جاذبة لعدد من التيارات التي تقاطعت أفكارها مع الهيبيز بمختلف ألوانهم، فانضمت مجموعة «ملائكة الجحيم»، وهو ناد للدراجات النارية، وجماعة «الحفارين»، الحركة الأناركية التي ناهضت استعمال النقود وكان لها دور رائد في برامج توزيع الغذاء المجاني على المحتاجين، بالإضافة إلى مجموعات من المفكرين وغيرهم.
كانت سان فرانسيسكو تضم آنذاك حركة طلابية راديكالية، وجعلت كل هذه العناصر من المدينة مكانًا مناسبًا لتظاهرات الهيبيز.
جذبت الاحتجاجات الفنانين الساعين خلف الحياة البوهيمية، فأصبح المنتزه مستقرًا لكل من اتفقوا على نبذ الأعراف الثقافية الأمريكية السائدة، وشجعوا البحث في المسالك الروحية المختلفة، وطالبوا بإطلاق الحرية الجنسية، والتسامح مع المخدرات، ورفض الثقافة المادية.
صيف الحب
تحولت المظاهرة من اجتماع لرفض قانون أصدرته الولاية إلى كرنفال فني كبير، تعزف فيه فرق الروك المحلية، وعاش المشاركون أيامًا من السعادة والمغامرة والحرية والتجريب، وتمتعوا بقوى البهجة والهلوسة التي منحتها الماريجوانا و«LSD».
كانت الستينيات تشهد تحولات كبيرة في الفنون والموسيقى والموضة، وآمن الهيبيز بإمكانية إقامة عالم جديد مشرق، تسوده الألوان المتدفقة للفنون التي يبتكرها المبدعون تحت تأثير المخدرات وفي تماس مع الطبيعة. في نظرهم، كان الحب هو حل جميع المشكلات مهما بلغت شدتها، لكن يبدو أنه لم يكن كافيًا مع ذلك، إذ سرعان ما انقلب «صيف الحب» إلى خريف.
تغير الفصول
بعد انتهاء الحرب الأمريكية في فيتنام، انهارت الجبهة المتماسكة التي كوَّنت «صيف الحب».
إضافةً إلى النقد الذي تلقاه من الخارج، خصوصًا في الوسط السياسي، بدأ «صيف الحب» بعد فترة قصيرة يُعاني انقسامات داخلية كذلك، فانتقدته جماعة «الحفارين» التي شاركت فيه، واعتبرته وهمًا صنعته وسائل الإعلام لتشتيت أنظار الطامحين إلى بناء مجتمع عادل جديد، واستنكرت كذلك خطاب أستاذ علم النفس وأيقونة الهيبيز «تيموثي ليري»، الذي كان يحُث المراهقين على تناول المخدرات وترك الدراسة، واعتبرته رأيًا غير مسؤول.
مثل أي ظاهرة اجتماعية، لم يكن «صيف الحب» بسيطًا حقًّا، رغم تشديد المشاركين فيه على مبادئ البساطة والعودة إلى الطبيعة، فساد توتر بين «الحفارين» الذين دعوا إلى شيوعية بدائية، والهيبيز الذين بدؤوا سوقًا لصناعة الحُلِيِّ وبيعها بين رواد الحدث، كل هذا بالإضافة إلى الخلافات بشأن المخدرات والموقف من التيارات اليسارية المختلفة خارج الحركة.
اجتمع الجميع في «صيف الحب» على شيء واحد فقط لم يختلف عليه اثنان، هو معارضة الحرب الأمريكية في فيتنام، لذا، بمجرد انتهائها، لم يعد بينهم شيء مشترك أو عدو يتحدون ضده، فانهارت الجبهة المتماسكة التي كونت «صيف الحب».
بالإضافة إلى الانقسامات، عانت البنية التحتية والخدمات العامة لسان فرانسيسكو جرَّاء التجمع الضخم، ولم تقوَ المدينة على تلبية احتياجات هذا الكم الهائل من البشر، ولم تكن «العودة إلى الطبيعة» موفقة تمامًا، إذ اكتظت المدينة بالمراهقين المُفلسين الذين يتجولون في الشوارع والأزِقَّة دون هدف واضح.
بحلول يوليو، انتشرت الجرائم وتكررت المناوشات بين الهيبيز والشرطة، وأخيرًا، عاد أغلب الشباب إلى منازلهم في الخريف، لتنتهي بذلك أشهر «صيف الحب» الحالمة.
أين صيف الحب؟
رغم انتهاء «صيف الحب» في ما بدا إخفاقًا، فإنه ترك أثرًا كبيرًا وممتدًا في المجتمع والثقافة، وعلى صعيد المظهر وحده ما زالت الأزياء الملونة الواسعة والشعور الطويلة المميزة للهيبيز تلقى قبولًا واسعًا، لكن كذلك على صعيد الأفكار يمكن متابعة تأثير الهيبيز الواضح في الاهتمام المعاصر بالأغذية العضوية والبيئة والتأمل واليوغا، بالإضافة إلى زيادة التسامح مع التحرر الجنسي والمخدرات.
استمرت هذه الاتجاهات حتى الآن في مناطق عديدة رغم مرور نصف قرن على «صيف الحب»، وتبنتها اتجاهات لها مرجعيات مختلفة، وظلت الروح الفردية والتعبير البريء عن الذات والبحث عن البساطة والطبيعة ظاهرةً عامةً في الفنون والموضة، وكان تأثير «صيف الحب» على ثقافة الاحتجاج نفسها واسعًا كذلك.
أخفق «صيف الحب» إذًا في تحقيق أهدافه المعلَنة، لكنه ترك أثرًا كبيرًا في المجتمع، ربما يكون خطوة على الطريق نحو العالم الذي تمنَّاه الهيبيز ولم يستطيعوا الوصول إليه.
ندى حنان