من المكارثية إلى بيرني ساندرز: هل عادت أطياف ماركس إلى أمريكا؟
في أكتوبر 2018، نشر البيت الأبيض تقريرًا بحثيًّا أعده مستشارو ترامب الاقتصاديون حول تصاعد النزعات الاشتراكية في الخطاب السياسي الأمريكي.
حمل التقرير عنوان «الثمن البديل للاشتراكية»، وكتبه مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض. وجاء فيه: «رغم أن الاشتراكيين الجدد في الولايات المتحدة يرون في الدول الإسكندنافية نماذج ناجحة للاشتراكية يجب الاحتذاء بها، فإن الأرقام تقول عكس ذلك. معدل الرفاه الاجتماعي للمواطن الأمريكي أكثر 15% على الأقل من المواطنين الإسكندفايين».
لحساب معدلات الرفاه، لجأ هؤلاء الاقتصاديون إلى أسعار سيارات الدفع الرباعي (Pickup Trucks) ومدى قدرة المواطنين على شرائها. هذا موجود في التقرير، وليس من قبيل السخرية.
تناسى هؤلاء أن الدول الإسكندنافية تطبق إجراءات بيئية ترفع أسعار السيارات التي تستهلك كثيرًا من الوقود.
رسم التقرير خطوطًا واضحة بين الاشتراكية السوفييتية والخطاب الاشتراكي الحالي في أمريكا، وركز على انتقاد نظم الرعاية الصحية في الدول الإسكندنافية، وكل أنظمة الحماية الاجتماعية في تلك الدول، التي تطبق سياسات اجتماعية يطلَق عليها «الديمقراطية الاجتماعية» أو «الاشتراكية الديمقراطية».
يبدو أن أبناء «ميلتون فريدمان»، الأب الروحي للأفكار النيوليبرالية، يخافون الاشتراكية في السياسة الأمريكية. وجَّه هؤلاء في التقرير انتقادات تاريخية حادة إلى الزراعة الجمعية في الاتحاد السوفييتي، وحتى قانون أوباما للرعاية الصحية.
لكن المقام لا يتسع لمناقشة محتويات التقرير، بل لعرض السياق التاريخي والحالي لما يمكن أن نسمية «الاشتراكية الأمريكية»، خصوصًا في ظل الزخم الذي تكتسبه تلك الجماعات.
يكتسب الخطاب الاشتراكي في الولايات المتحدة زخمًا كبيرًا الآن، وبخاصة في ظل وجود ثلاثة نواب في الكونغرس يُعرِّفون أنفسهم بأنهم اشتراكيون: «بيرني ساندرز» سيناتور فيرومونت والمرشح السابق عن الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة 2016، و«ألكسندرا كورتي» عضو الكونغرس عن نيويورك، و«رشيدة طالب» عضوة الكونغرس عن ميتشغان.
لم يكن هؤلاء، وبالتحديد ساندرز، بداية صعود الفكرة الاشتراكية لتصبح مقبولة بين الأمريكيين، بعدما كانت من المحرمات الفكرية الكبرى في بلاد العم سام، بل كانوا تجليات للحالة اليسارية نفسها داخل الحزب الديمقراطي والسياسة الأمريكية بشكل عام، تلك الحالة التي وُلدت من رحم أزمة 2008، واستمرت في الصعود حتى الآن.
أمريكا والشيوعية: تاريخ الخوف
طالت محاكم التفتيش عن الشيوعية كل الأمريكيين، حتى موظفو وزارة الخارجية تعرضوا للمحاكمة وفُصلوا من وظائفهم.
كانت الحركات العمالية الأمريكية، وبخاصة في المدن الصناعية الكبرى مثل شيكاغو، تحقق كثيرًا من الإنجازات بفضل النقابات القوية. في العشرينيات كانت معدلات أجور العمال الأمريكيين أكبر بكثير من تلك التي في أوروبا، خصوصًا في صناعة السيارات التي كانت ما تزال وليدة وقتها. دعا هذا لأن يكون العمال الأمريكيون، خصوصًا في الصناعات الثقيلة مثل السيارات، أكثر أجرًا من نظرائهم في أوروبا.
لكن بعد الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي وأمريكا، اتخذت المكارثية السياسية (نسبةً إلى السيناتور جوزيف مكارثي، الذي ساعد الإدارة الأمريكية في قمع الشيوعيين خلال الخمسينيات) ذريعة للإجهاز على تلك الحركات العمالية والمثقفين اليساريين داخل الولايات المتحدة.
أنتج هذا، لنحو 60 عامًا منذ بداية الحرب الباردة، خوفًا لدى الأمريكيين من الاشتراكية، خصوصًا نسختها الأكثر شهرة: «الشيوعية السوفييتية». حتي الأكاديميون اليساريون في الجامعات الأمريكية كانوا خائفين من وصفهم بـ«الماركسيين»، ما دفعهم إلى التراجع عن الحديث حول الأمر أمام العامة في الستينيات.
ترافق مجد الحرب الباردة مع مجد المكارثية السياسية. طالت محاكم التفتيش عن الشيوعية جميع المواطنين الأمريكيين، وحتى موظفو وزارة الخارجية كانوا يُتهمون بالشيوعية ويتعرضون للمحاكمة والفصل من وظائفهم. من هؤلاء الذين وقعوا تحت ضغوط المكارثية، «دين أتشيسون» وزير الخارجية في فترة الرئيس «ترومان»، الذي وصفه مكارثي بالشيوعي، وانتقد لكنته البريطانية.
حتى حركة الحقوق المدنية في أمريكا كانت تنأى بنفسها عن الماركسية لتتفادى الاتهامات الموجهة إليها. ورغم أن كثيرًا من أعضاء تلك الحركات الاجتماعية الواسعة كانت لهم خلفيات يسارية، واستطاعوا طرح قضاياهم من مناظير ماركسية، فإنهم لم يعلنوا عن ذلك في كثير من الأحيان.
أمثال «لوثر كينغ» و«مالكوم إكس» كانوا يأخذون حذرهم عند وصفهم بالماركسية، رغم أنهم تبنوا أفكار ماركسيين معاصرين مثل «فرانز فانون»، لكن أمريكا وقتها كانت تعيش عصر «العدو» السوفييتي.
كان على مواطني تلك الفترة أن يبتعدوا عن الماركسية قدر الإمكان. يصور تلك الحالة المخرج الأمريكي «ستانلي كيوبريك» في فيلمه «Dr. Strangelove»، إذ يشن أحد الجنرالات الأمريكيين حربًا نووية بسبب شكه في أن ضعفه الجنسي مؤامرة شيوعية، نتجت من تلويث مياه الشرب بمادة كيميائية.
الخروج من الهامش
بعد 2011، لقيت حركة «احتلوا وول ستريت» إقبالًا كبيرًا، رغم أنها مبنية على قواعد ضد النمط الرأسمالي.
منذ الأزمة المالية في 2008، بدأ هذا الوضع يتفكك شيئًا فشيئًا. أصبحت خطابات انعدام العدالة الاقتصادية في الدخل تحظى بأولوية لدى الناخبين الأمريكيين، وأضحى مليارديرات «وول ستريت» في مرمى نيران الطبقة العاملة والوسطى، التي دفعت من أموالها ضرائب لإنقاذ تلك المؤسسات من الانهيار.
الأزمة، التي أبعدت نحو ثلاثة ملايين أمريكي من وظائفهم، أنتجت ركودًا اقتصاديًّا يعتقد اقتصاديون أن العالم لم يتعافَ من آثاره حتى الآن، وأنه المحفز لظهور حراكات احتجاجية واسعة بين الطبقتين الوسطى والعاملة الأمريكية: هؤلاء الذين يدفعون معظم الضرائب، وتستكثر عليهم الحكومة نماذج دولة الرفاه الاجتماعية مثل أوروبا.
ظهر في تلك اللحظة خطاب نقدي للرأسمالية الأمريكية مفاده أننا نريد أن نكون مثل أوروبا، خصوصًا الدول الإسكندنافية، وتطور هذا الخطاب ليكون أكثر جذرية في 2011.
انطلقت حركة «احتلوا وول ستريت» في سبتمبر 2011 من حي المال والأعمال في نيويورك: «وول ستريت»، هادفةً إلى التصدي لغياب العدالة الاقتصادية والاجتماعية، ومواجهة فساد فاحشي الثراء، وإيقاف سيطرة الشركات الكبرى على الحكومات.
تتبنى الحركة شعار «نحن نسبة الـ99%»، في إشارة إلى عدم عدالة توزيع ثروة العالم بين قسمين: نسبة 1% فاحشي الثراء، ونسبة 99% يعانون من مشكلات اقتصادية واجتماعية.
استمرت الاحتجاجات نحو ثلاثة أشهر، لكنها لم تنجح.
لم تطرح «احتلوا وول ستريت» خطابًا يمكن أن يصاغ من خلال مجموعة من القوانين داخل الكونغرس، وكثير من خطاباتها كانت منفرة لعدد كبير من الأمريكان،الذين يمكن أن يظلوا مؤمنين بالحلم الأمريكي رغم تحوله البطيء إلى كابوس، بسبب معدلات عدم المساواة المرتفعة في الولايات المتحدة.
أمريكا من أكبر الدول في معدلات اللامساواة في الدخول. في عام 2015، كانت نسبة 1% (الأغنى) تحصل على عائد سنوي يبلغ نحو 25 ضعف الـ99% الباقين.
الولايات الحضرية الكبرى، مثل نيويورك، بلغ متوسط الدخل السنوي لأسرة من نسبة الـ1% نحو 2.2 مليون دولار سنويًّا، بينما لم يزد متوسط دخل الأسرة من الـ99% عن 50 ألف دولار، ما يفسر الإقبال على خطابات انعدام عدالة توزيع الدخول في تلك المدن، حيث تستمر النزعة الاشتراكية في النمو، ويصبح المواطنون أكثر تقبُّلًا للخطابات التي تطرحها الصحافة والنشطاء الاجتماعيون حول سوء التوزيع.
بعد 2008، خفت الحلم الأمريكي، وأصبحت الأغلبية (التي تتكون من الطبقة العاملة البيضاء والسود وبقية الأقليات العرقية التي تزيد فيها معدلات اللامساواة في الدخول) غير مؤمنة بالخلاص الذي يمكن أن يقدمه الاقتصاد الحرة.
من رحم «احتلوا وول ستريت»، خرجت حركة «الاشتراكية الديمقراطية الأمريكية».
مع الوقت تراجع الخوف من «الزومبي» السوفييتي، وأضحت الدول الإسكندنافية أو الأوروبية بشكل عام مثالًا جيدًا للاشتراكية، أو بمعنى أصح «دولة الرفاه»، في نظر غالبية الطبقتين الوسطى والعاملة الأمريكية.
ترافق وضع اللامساواة هذا مع صعود عالمي في حقبة الثمانينيات، وهي البداية الحقيقة للسياسات النيوليبرالية. فبحسب تقرير اللامساواة الصادر عن «مختبر اللامساواة العالمي»، ارتفع نصيب هؤلاء الواحد في المئة من سكان العالم من 16% من الدخل القومي عام 1980، إلى 22% عام 2000، ثم انخفض إلى 20% في 2016. بينما ارتفع نصيب أفقر 50% من سكان العالم من 7% من الدخل عام 1980، إلى 9% في 2016.
التحولات النيوليبرالية في الولايات المتحدة كانت أعنف منها في أوروبا الغربية. ففي 1980، كان نصيب شريحة 1% الأغنى من السكان في المنطقتين يصل إلى 10% من الدخل. لكن في 2016، وصلت النسبة في أوروبا إلى 12%، بينما قفزت إلى 20% في أمريكا.
ترجع هذه الفروق إلى السياسات العامة. ففي الولايات المتحدة أدت اللامساواة في التعليم، وتراجع تصعيد الضرائب إلى ارتفاع اللامساواة. على الجانب الآخر، ارتفعت اللامساواة بمعدل أقل في أوروبا نتيجة انحياز سياسات التعليم والأجور إلى الطبقات الوسطى والفقيرة بقدرٍ معقول.
كيف نجح الاشتراكيون الجدد؟
في الحزب، استطاع أعضاء الحركة الدفع بمرشحين كثر في المجالس التشريعية للولايات الأمريكية على مقاعد الديمقراطيين، واستطاعوا توفير الدعم المالي والإعلامي لهؤلاء المرشحين من المكتب المركزي للحزب.
في وقت قليل، صارت الاشتراكية الديمقراطية الأمريكية قادرة على أن تطرح نفسها حركةً بإمكانها التنظيم والحشد على مستوى المدن الكبيرة، وبالتالي استهداف القاعدة الكبيرة من العمال الأمريكيين.
بحسب موقعها، تعمل الحركة على تقنيات الحملات وحشد كل المؤمنين بالاشتراكية الديمقراطية. دعم هؤلاء كثيرًا من أعضاء الحركة للوصول إلى الكونغرس الفيدرالي أو المجالس التشريعية في الولايات المختلفة. ورغم أنها بدأت نشاطها السياسي الانتخابي في 2016 فقط، بلغ عدد أعضائها في 2018 نحو 50 ألف عضو فعال.
هل ينحرف الحزب الديمقراطي قليلًا نحو اليسار، أم يعود إلى حالته السابقة بعد رحيل ترامب؟
لم تكن تلك الحركة وليدة عالم ما بعد 2008 فقط، بل استفادت من الآثار السلبية التي أنتجتها الأزمة. يمكن التأريخ للحركة، وبالتحديد أفكار الاشتراكية الديمقراطية في الولايات المتحدة، منذ بداية القرن العشرين وتاريخ الحزب الاشتراكي الأمريكي (1905)، وحزب العمال الأمريكي لاحقًا.
رغم أن تلك الأحزاب نُبذت جماهيريًّا، وكان 15% فقط من الأمريكيين يحملون وجهات نظر معتدلة تجاه فكرة الاشتراكية في بداية الخمسينيات، فالآن، نحو 50% من الأمريكيين يفضلون انتخاب مرشح يُعرِّف نفسه بأنه «اشتراكي».
بدأت الحركة الاشتراكية الديمقراطية الأمريكية تلقى إقبالًا بفضل طلاب الجامعات حديثي التخرج، الذين لم يعد شبح الحرب الباردة يخيفهم. هؤلاء المثقلين بالديون الدراسية، الذين لم يستطيعوا النفاذ إلى الحلم الأمريكي في «مجتمع الواحد في المئة».
استفادت الحركة أيضًا من المزاج العام الديمقراطي بعد انتخاب دونالد ترامب. ففي ظل الاستقطاب الحاد الذي يعيشه المجتمع الأمريكي مع ترامب، واتجاه الإعلام الليبرالي ناحية اليسار بسبب خطاب الرئيس اليميني، يمكن لهؤلاء أن يجدوا منفذًا جيدًا.
غير ذلك، تتبنى الحركة سياسات جندرية توفر لها دعمًا أكبر من الحركات النسوية والمتحررات بشكل عام.
هناك فارق واضح بين النسخ الأمريكية القديمة من اشتراكيات القرن العشرين، والنسخة الحالية التي هي أقرب إلى نموذج دولة الرفاه الاجتماعية. لكن الحركة تتبنى خطابًا أساسيًّا في الاشتراكية، هو إعادة توزيع الثروة عبر سياسات ضريبية جديدة.
ترى الحركة أنه لا بد من إصلاح الرأسمالية بعيدًا عن الثورة، ما يعمل على إعادة تشكيل المناخ السياسي في الولايات المتحدة، خصوصًا في ظل انقسام قيادات الحزب الديمقراطي حول الحركة التي يتحالف معها الحزب وتعمل من خلاله، ويقدم لها التمويل الانتخابي اللازم.
هل يمكن أن ينحرف الحزب الديمقراطي قليلًا نحو اليسار، أم يعود إلى حالته السابقة بعد رحيل ترامب؟ أم أن هناك أفقًا أكثر اتساعًا للخطاب اليساري في الولايات المتحدة؟ تلك الأسئلة تجيب عنها السنوات القادمة.
محمد رمضان