خوفًا من مصير أوكرانيا: حراك جورجيا في مواجهة روسيا
منذ اليوم الأول لانطلاق «العملية الخاصة في أوكرانيا»، وهو الاسم الروسي الرسمي للحرب على أوكرانيا، كان الشارع الجورجي متفاعلًا بشكل واسع، إذ خرجت التظاهرات التي شارك فيها أكثر من 10 آلاف شخص رفضًا للحرب، لتصبح جورجيا فعليًا أول دولة تنطلق منها مظاهرات بهذا الشكل، وسبقت بها بولندا التي تأثرت بموجة اللاجئين نتيجة التحامها مع خط التماس في ظل تغيرات جيوسياسية على حدودها الشرقية.
اهتمام جورجيا التي يبعد مسرح الحرب عنها بنحو 1600 كيلومتر لم يكن وليد صدفة أو اهتمام إنساني ومناهضة لمبدأ الحرب، بل هو الإحساس بالخطر المحدق الذي تجرعت جورجيا مرارته في حرب 2008 مع روسيا، التي اقتحمت حدودها في أغسطس من ذلك العام واحتلت جزءًا من الأراضي الجورجية وصولًا لمدينة غوري، مسقط رأس ستالين والحافظة لتراثه الملموس من بيت ومتحف.
كانت نتيجة الحرب هناك انتقال ثلث السكان من الناطقين بالروسية للعيش في الجمهوريتين الجديدتين اللتين اعترفت بهما روسيا، وهما أوسيتيا الجنوبية حاضنة جبال القوقاز، وأبخازيا المطلة على البحر الأسود.
أدى ذلك لارتفاع موجات الحشد الوطني وتحفيز التراث الجورجي، كأول وطن أعلن المسيحية نظامًا عامًا في الدولة عام 1200 من الميلاد. كما أن الدعوات ما زالت تنطلق من الداخل الجورجي وتحكم الفكرة العامة في الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وتستطيع أن ترى بوضوح عند السير في شوارع العاصمة تبليسي الاهتمام بوضع أعلام الاتحاد الأوروبي بجانب العلم الوطني، كرمزية ودلالة على هذا الحلف غير المعلن والرغبة الملحة في الانضمام، تحييدًا للنفوذ الروسي على الأرض ودرءًا للخطر المحيط بالجورجيين، الذين يعاني اقتصادهم من حالة ركود وضعف للموارد وعدم قدرة على استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، التي تأبى الدخول في مخاطرة غير محسوبة النتائج.
يعيش في جورجيا القليل من الأجانب، ومع هذا فإنهم لا يخفون جزعهم من الحرب المحتملة. يحدثني أحد الأجانب من الذين استقروا في جورجيا عن رغبته الجدية في الانطلاق نحو أرض جديدة، لأن جورجيا لم تعد بمأمن من الخطر الروسي كالسابق.
الدفاع عن العرق - معارك محو الهوية
في بدايات الألفية، كانت الحرب في صربيا أول اختبار حقيقي كشف حجم الضعف في الإدارة الروسية لشؤون الدول الحليفة لها. فمع تخلي الروس عن حليفهم سلوفودان ميلوسوفيتش الذي كان يحظى بدعم مباشر من الكرملين، أدت هذه السنوات إلى ضياع ملامح الإمبراطورية الروسية ودخولها حروبًا منهكة في الشيشان.
لم تكن الحرب في أوكرانيا مستبعدة لسكان دول الاتحاد السوفييتي السابق، فالفكرة السائدة هناك أن روسيا تهتم بنشاط الحكم في تلك الدول، وتدعم أنشطة العرقية الروسية فيها مع معاناتها من ارتفاع موجات العنصرية ضدها، والحرب الثقافية في محوها من خريطة التأثير العام، باستخدام أدوات مثل اللغة واستنهاض الروح القومية كما حصل في الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004، والتي أدت لسقوط حلفاء روسيا في كييف، وما تلاه من تجريم لاستخدام اللغة الروسية في المعاملات العامة.
وبعد 10 سنوات، سيطرت روسيا على شبه جزيرة القرم ودعمت الانفصاليين الموالين في شرق أوكرانيا لتحقيق هدف انفصال دونيتسك ولوغانسك، وهو ما تم فعلًا، وأعلن الرئيس الروسي الاعتراف بهما في أولى أيام الحرب.
تكررت هذه الصورة بعد تجربة أزمة الهوية الروسية الجورجية، والتي أدت إلى انفصال أراضي أوسيتيا وأبخازيا وبناء ما يشبه جدارًا عازلًا بين إخوة الأمس، الذين ضمهم اتحاد حكمه رجل جورجي يدعى جوزيف ستالين .
حرب فيروسية
منذ عام 2015، كشفت روسيا أن الولايات المتحدة تتخذ جورجيا مركزًا لعمليات تطوير مختبرات تعمل في مجال الحرب الفيروسية، وهو ما زاده تأكيدًا قول سكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف عام 2019 إن أمريكا أنشأت أكثر من مئتي معمل بيولوجي في مختلف بلدان العالم، بما في ذلك بعض الدول المجاورة لروسيا، وفي مقدمتها جورجيا وأوكرانيا. وزاد باتروشيف من التأكيد في الأسبوع الأول من مارس الماضي، حين اتهم مركز ريتشارد جي لوغار لأبحاث الصحة العامة بأنه وراء تلك الأبحاث، الأمر الذي نفاه البنتاغون.
فهل سيكون مركز لوغار السبب الوحيد لاتخاذ قرار امتداد الحرب إلى جورجيا؟
من المؤكد أن الرئيس الروسي بوتين يناهض فكرة استقلال القوميات، فقد بيّن في خطابه الذي سبق الحرب أن اللعبة الغربية تعتمد على هذه الخطوة كنوع من إبعاد شعوب تلك الدول عن تاريخها وانتمائها الحقيقي، في موجة استقطاب غربي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي، وأفقدت الروس مناطق نفوذهم في دول البلطيق وحوض البحر الأسود، فصار الجنود الأميركيون في مشهد لافت صادفته بنفسي في لاتفيا عام 2019 يتبضعون في العاصمة وهم في زيهم العسكري الرسمي، وهو أمر لا نراه هنا في الكويت مع وجود أكبر تجمع لقوات مشاة أمريكية في المنطقة.
الخطر الأمني – دوافع ومبررات روسية
ربما لا تشكل جورجيا قيمة اقتصادية لروسيا، فهي لا تشكل اقتصادًا صناعيًا مثلما هو الحال مع أوكرانيا، ولكن الروس ومثلما أعلنوا وكرروا عن برنامج الولايات المتحدة الخاص بمركز لوغار (نسبة لعضو الكونغرس السابق)، فإنهم قد أشاروا لخطورة أمنية تواجههم.
وربما تتعدد المخاطر الأمنية الأخرى، وربما تتوالى تباعًا في ظل حصار اقتصادي صارم لا شبيه له في التاريخ. فالضعف الاقتصادي الروسي الذي لم يمكن موسكو من الصرف على عملياتها الحربية وسيؤدي لعقود مقاولة حربية تكون فيها الميليشيات والمرتزقة الصورة للحرب القادمة، هذا الضعف قد يكون سببًا في التقاط جورجيا أنفاسها باتجاه استعادة إقليمي أوسيتيا وأبخازيا، وهو تحرك ترفضه موسكو.
ومع إعلان الرئيس الأوكراني فتح الباب للمتطوعين للانضمام إلى القوات المسلحة في الدفاع عن البلاد، جرت حملات تجنيد دولية شبه رسمية، فمن الميليشيات صاحبة الخبرة في ليبيا وسوريا، إلى القوات الخاصة التي تدير شركات أمنية وعسكرية عالمية، وكلها تريد الانخراط في هذه التجارة المدرّة للربح، والتي لن يكون مردودها مجرد رواتب للمجندين المرتزقة وإنما مزايا عينية ومخلفات عسكرية وغنائم تساوي آلاف الدولارات في السوق السوداء. وفي خضم هذه الحرب، فإن جورجيا ليست بعيدة عن تلك الأجواء، وقد تشارك في الحرب الدائرة في أوكرانيا، وهو ما ستعتبره روسيا عملًا عدائيًا وخطورة أمنية جديدة تأتيها من جانب حدودها الجنوبية الشرقية.
جورجيا من الداخل – ساكاشفيلي المشاكس
بعد ثورة الزهور التي انتصرت على المعسكر السوفييتي القديم في جورجيا، قاد ميخائيل ساكاشفيلي الحكومة نحو إصلاحات إدارية في الداخل، وابتعد كثيرًا عن المعسكر الروسي، معتمدًا على علاقته بالغرب وعلى حال التوأمة التي صنعها بين جورجيا وأوكرانيا، وانتقل بعد انتهاء فترة حكمه للعمل مستشارًا في الرئاسة الأوكرانية ثم حاكمًا لإقليم أوديسا، ثم طموح لا متناهي نحو الرئاسة الأوكرانية، قبل أن يهدأ هذا الطموح مع الحرب القانونية ضده.
عاد ساكاشفيلي إلى جورجيا (التي حكمها لمدة عشرة أعوام) قبيل الحرب في أوكرانيا، وهناك واجه تهمًا متعلقة بالفساد، وما زال محبوسًا على ذمة القضايا، ولكنه ينفي تلك المزاعم.
وفي رسالة بعثها من داخل السجن، قال إن الطبقة التجارية التي تحكم جورجيا هي في حقيقتها مافيا روسية، واتهم التجار بالسيطرة على العملية الانتخابية من خلال الإفساد ورشوة الناخبين.
مِن المتصور بناء قوى جديدة في تبليسي لمناهضة النظام الحاكم والروس في الوقت ذاته، ولكن ذلك رهن ظهور قيادات جديدة على الساحة السياسية الجورجية. ربما يستطيع ساكاشفيلي أداء هذا الدور لو استطاع التخلص من قيوده، لكن عودته للمشهد مع ارتباط اسمه بمناهضة الروس على الجبهتين الجورجية والأوكرانية منذ بداية الألفية وحتى حرب الأيام الخمس ثم الحروب المستمرة في أوكرانيا، ومع اختطاف الروس شبه جزيرة القرم من تحت يديه كحاكم لأوديسا المجاورة، فإن صعوده مرة أخرى للسلطة سيكون مدعاة تهديد كبير للروس، لما يملكه الرجل من خلفية مقاومة ومناهضة لمشروع عودة الإمبراطورية الروسية، التي نظر لتاريخها الرئيس بوتين في خطابه الأخير قبل بدء العمليات في أوكرانيا.
محمد جاسم دشتي يوسف الصالح