صراع السلطة: الشيخان أحمد الجابر وعبد الله السالم بين مشروع الحكم ومشروع الدولة
ليست صراعات أسرة الحكم في الكويت بجديدة، وقد وقع الصراع الأكثر تأثيرًا في تاريخ الكويت بين مبارك الكبير وشقيقيه، والذي انتهى بحصوله على الحكم بعد مقتلهما، لكن ما بعد هذا فالخلاف الأبرز كان بين حاكم الكويت العاشر الشيخ أحمد الجابر مع الشيخ عبد الله السالم.
بعد وفاة الحاكم التاسع الشيخ سالم المبارك عام 1921، تنادى بعض وجهاء البلد من التجار وأصدروا بيانًا يعبرون فيه عن خشيتهم من اختلاف أسرة الحكم على تسمية الحاكم الجديد، مطالبين الأسرة بالالتزام بالشورى مع الشعب، وسموا ثلاثة من أفرادها هم الشيوخ أحمد الجابر وعبد الله السالم وحمد المبارك حتى تختار أسرة الحكم بينهم، فوقع اختيار الأسرة على الشيخ أحمد الجابر.
حركة إصلاحية وتجريد من الحكم
في عهد الشيخ أحمد الجابر تصاعدت حركة إصلاحية تطالب بتعديل نظام الحكم، وكان توافق الشيخ عبد الله السالم الذي كان نائبًا للأمير حينها، مع أهداف الحركة من العوامل الرئيسية وراء نجاحها في تحقيق أهدافها، إذ كان الشيخ عبد الله السالم مؤمنًا بتأسيس حكم نيابي في الكويت، وهو ما طالبت به الحركة.
تشير أستاذة العلوم السياسية المختصة بسياسة الشرق الأوسط جيل كريستال في كتابها «النفط والسياسة في الخليج: الحكام والأمراء في الكويت وقطر»، إلى أنه لولا دعم فرع «السالم» من الأسرة الحاكمة، ما كانت الكتلة الوطنية لتحقق الكثير من النجاح.
كانت دائرة الخلاف بين الشيخين أحمد الجابر وعبد الله السالم تنحصر في تأييد الأخير للحركة الإصلاحية الوطنية في فترة الثلاثينيات، وإيمانه الشخصي بالأسلوب الديمقراطي في الحكم وحق الشعب في أن يحكم نفسه، وهو ما جعله متميزًا عن بقية أفراد الأسرة الحاكمة، وهذا ما ذكره المفكر الكويتي أحمد البغدادي في كتابه «الشيخ عبد الله السالم إنسانًا ورجل دولة». بينما كان الشيخ أحمد الجابر يرى في المجلس التشريعي عام 1938 تهديدًا لوجود الحكم، ولم يكن مخطئًا في ذلك.
فرغم إنجازات المجلس التشريعي العديدة، كان استهدافه لصلاحيات الحاكم واضحًا، مما استفز الشيخ أحمد الجابر وأشعره أنه قد جُرد من كل صلاحياته وامتيازاته. ومن أمثلة ذلك إصدار «النظام الأساسي»، وإنشاء دائرة للمالية وفصل المالية العامة عن مالية الحاكم، وإلغاء بعض الرسوم والضرائب، وتخفيض الإيجارات وإلغاء بعض الاحتكارات التجارية، وفصل بعض الموظفين الذين تدور حولهم شبهات فساد إداري خصوصًا في جهاز الجمارك، وكذلك تأسيس المجلس قوة نظامية للشرطة، وإنشاء ثلاث مدارس جديدة، وإرسال بعثات تعليمية إلى بغداد والقاهرة.
الدكتور صالح النفيسي، الأستاذ المساعد في العلوم السياسية بجامعة الخليج للعلوم والتكنولوجيا، يقول لـ«منشور»: «نقطة التحول أتت بعد حل مجلس 1938 التشريعي على يد الشيخ أحمد الجابر حاكم الكويت آنذاك، إذ تغير دور أسرة الصباح في إدارة الدولة، فبعد أن كانت أعباء الإدارة لدى الصباح مقتصرة على الحاكم ونفر قليل من أبناء الأسرة، أصبحوا يترأسون الدوائر الرئيسية في الدولة. ومع تصدير أولى شحنات النفط عام 1946، أصبح لديهم المال، فصار لكل منهم دائرة حكومية تغرد بعيدًا عن السلطة المركزية، وأشبه بمملكته الخاصة التي يوسع منها نفوذه، أسماها البريطانيون في وثائقهم بالمشيخة (Sheikhdoms)».
رغم أن المعركة بين الشيخين أحمد الجابر وعبد الله السالم كانت باردة، فإن آثارها الكبيرة استمرت حتى يومنا هذا. يوضح النفيسي أن الخلاف بين المجلس التشريعي والحاكم انسحب إلى اختلاف في وجهات النظر داخل الأسرة الحاكمة بين الشيخ أحمد الجابر ومجموعة من فرع السالم على رأسهم الشيخ عبد الله السالم، فعمد الأمير أحمد الجابر بعد حل المجلس إلى التوسع في تعيين أبناء الأسرة في الدوائر الحكومية بغية الحفاظ على وحدة الأسرة.
هذا التغيير في دور الأسرة ودخولهم ساحة التعاطي السياسي سيكون له أثر نلمسه في المستقبل.
عهد عبد الله السالم
بعد تولي الشيخ عبد الله السالم للحكم عام 1950، كانت هناك مجموعة من الشيوخ الطامحين ممن يعيشون على إرث الشيخ أحمد الجابر الذي مكنهم من الحكم والنفوذ، منهم الشيخ فهد السالم والشيخ عبد الله الأحمد والشيخ عبد الله المبارك، إلا أن وفاة الشيخ أحمد الجابر حالت دون استمرار طموح الشيخين عبد الله المبارك وفهد السالم.
تمكن الشيخ عبد الله السالم من قطع الطريق على الشيخ عبد الله المبارك بعد الاستقلال بتعيين الشيخ صباح السالم وليًا للعهد، وأطلق العهد الدستوري للكويت مدفوعًا بتأييد جيل الشباب في الأسرة، ومنهم الشيوخ جابر الأحمد وجابر العلي وصباح الأحمد وسعد العبد الله.
يقول النفيسي: «كان لوجود أبناء الأسرة في مناصب حكومية قبل الاستقلال أثر كبير ألقى بظلاله على نقاشات وضع الدستور، وكان الخلاف الأبرز حول المادتين 56 و80، اللتين تنصان على عدد أعضاء الحكومة وأحقية تصويتهم في المجلس. واستنكر الشيخ سعد العبد الله محاولة إبعاد أبناء الأسرة عن العمل السياسي، وطلب أن يصوت أعضاء الحكومة كسائر أعضاء المجلس».
يشدد النفيسي على أن هذا النقاش أدى إلى ما نعيشه اليوم من نظام أعوج، فالنظام في الكويت ليس رئاسيًا ولا برلمانيًا ولا ديمقراطيًا ولا ديكتاتوريًا، بل نظام هجين لا نزال نعاني من تبعاته: «هذا الاتفاق أدى كذلك إلى توسع دائرة الصراع داخل الأسرة، وفتح ميدانًا جديدًا متمثلًا في مناصب الدولة بأكملها للتنافس والبروز والتصارع في ما بينهم».
ويشير إلى أن الدستور خلق معضلة لدى الأسرة، التي كان أبناؤها يرغبون في الحفاظ على مواقعهم في السلطة التنفيذية بينما يسعى الدستور إلى تقييدها، وأدى ذلك إلى تجاذب في فكرة التفرد بالسلطة التي يسعى لها البعض في ظل نظام دستوري يعمل على تقييد السلطة المطلقة.
هذه المعضلة أدت إلى محاولة الأسرة عبر السنوات المحافظة على مكتسباتها في السلطة بتصرفات سعت للتحايل على النظام ومحاولة كسره، كالتجنيس السياسي وتزوير الانتخابات وتغيير الدوائر ومحاولة تعليق مواد الدستور، وتطبيق نظام المحاصصة في المناصب لكسب ولاء فئات المجتمع، وكل ذلك كان للمحافظة على مواقعهم واستمرار النظام الهجين.
يمكنكم قراءة سلسلة «صراع السلطة: حضرت الكراسي وغابت الرؤى» كاملة على الرابط التالي
فريق منشور