الإصلاح فرصة سانحة
الإصلاح في الدول شبه الديمقراطية يأتي عبر استغلال فرصة سانحة لتحقيق تطلعات الشعوب وآمالها، ولعل أبرز الأمثلة ما حدث في بولندا 1989 عندما خسر الحزب الشيوعي الحاكم في انتخابات شبه نزيهة ليبدأ المسار الديمقراطي في البلاد، وكذلك الحال في جنوب إفريقيا والبرازيل والمكسيك وتشيلي وتركيا وغيرها.
وبعد دراسة تلك النماذج السياسية على اختلافها من حيث شكل الأنظمة السياسية قبل التحول وعملية التحول ذاتها (ثورة، إصلاحات، إلخ)، كانت أهم استنتاجات الباحثين أن التحول الديمقراطي لا يأتي من فراغ أو نزوة شخصية لدى الحاكم، بل بفعل متغيرات رغم اختلافهم في أشكالها.
على عكس المقولات التي تدعي أن الديمقراطية تنشأ من الإجماع عليها قبل نشأتها وضرورة وجود شعب جاهز للديمقراطية، والتي دائمًا ما كانت حجة ضد الشعوب الرازحة تحت الاستبداد، يقدم عالم السياسة والاجتماع دانكوارت روستو في بحثه عن التحول الديمقراطي الصراع كمحرك أساسي للتحول إلى الديمقراطية. بحسب روستو، الصراع الذي لا يمكن حسمه بالقوة هو ما يؤدي إلى توافق لنقل الصراع داخل نظام سياسي قادر على ضبطه، وهو النظام الديمقراطي. بمعنى آخر، تصبح الديمقراطية والانتخابات بديلًا عن الحرب الداخلية. وهذا يختلف تمامًا عن وجهة النظر الرومانسية حول الديمقراطية بوصفها نتيجة تطور حضاري وثقافي، والتي تقلب المعادلة لتجعل النظام الديمقراطي منتِجًا للثقافة الديمقراطية وليس العكس. وقد استعان روستو بنظرية التنافر المعرفي لعالم النفس ليون فيستنغر لتكوين نظريته.
ورغم أهمية النقاش حول سؤال لماذا تنشأ الديمقراطية، ما يهمنا هنا هو التساؤل حول دور النخب السياسية في رسم هذا المسار المستقبلي. في كتابه عن التحول الديمقراطي، يلخص الباحث عزمي بشارة مقولات الباحثين حول أهمية دور النخب، مستنتجًا مقولة خاصة وهي أنه «يمكن القول أنه في ما عدا التزام النخبة بالإجراءات الديمقراطية، التي قد تكون أداتية فحسب، لا توجد أي شروط سابقة على الديمقراطية»، ليرفع مستوى أهمية النخب إلى درجة تجعلها الشرط الوحيد الذي يسبق نشأة الديمقراطية، ويؤكد أن «ثقافة الشعب لا تنمو وتتطور في ظل الاستبداد، بل في ظل نظام ديمقراطي». إلا أنه يلزم النخب السياسية بنوع من الثقافة الديمقراطية، والتي يقسمها إلى محورين: الأول هو القابلية للحوار والمساومة والتسوية، والثاني اعتماد الإجراءات الديمقراطية المتعارف عليها عالميًا.
ما تعيشه الكويت في يومنا هذا يحتم وجود هذا النوع من النخب الديمقراطية، من برلمانيين وسياسيين وحركات سياسية تسعى لتطوير النظام القائم نحو أكثر ديمقراطية. النخبة الحاكمة تعيش حالة توازن في القوى، بمعنى أنه لا يوجد منتصر في الصراع، الذي بدأ منذ رحيل الأمير السابق الشيخ صباح الأحمد الصباح. وبسبب هذا الصراع، يصعب بروز نماذج قيادية جديدة نتيجة لانسداد الأفق والتهديد الدائم من مجلس الأمة، الذي يستخدم أداة الاستجواب وسحب الثقة كوسيلة لترهيب الشيوخ ودفعهم نحو التعاون.
في رأيي، النخبة الحاكمة أمامها ثلاثة خيارات لتتمكن من الاستمرار في الحكم وتجديد ذاتها عبر الأجيال المتعاقبة. أولها المحافظة على المنظومة السابقة، عبر التحكم في مخرجات مجلس الأمة من خلال منح الواسطة والامتيازات والدعم المالي وشراء الولاءات لسياسيين حكوميين لضمان وجودهم في البرلمان، ويحدث أن يُحل البرلمان ويتغير النظام الانتخابي في حالة فشل هذا المسار بفعل تطور المعارضة واستعادة أعضائها فور ترتيب صفوفها في عملية الانتخابات والنظم التصويتية المستحدثة، ويمكن معرفة ذلك بمقارنة مراسم حل البرلمان وتغيير النظام الانتخابي كلما كان المجلس بأغلبية معارضة.
الخيار الثاني هو طريق البطش والقوة لبناء الجديد من خلال هدم القائم، وهو ما لم تعتده النخبة الحاكمة في الكويت بسبب طبيعتها السياسية والاجتماعية وظروفها الإقليمية في محيط غير مريح. أما الخيار الثالث فهو طريق المؤسسات، أي من خلال احترام الدستور وآلياته والعمل عبر أدواته، وذلك بصعود الشيوخ كوزراء أو اختيار ولي للعهد وفقًا للمادة الرابعة من الدستور.
ما نفهمه هنا هو التالي: النخبة الحاكمة استنفذت أحد الخيارات الثلاث، وهو المحافظة على الوضع القائم، ولديها خياران إما القسر أو التعاون.
الحقيقة وراء هذه المشكلة هي أزمة توازن القوى وعدم القدرة على المحافظة على الوضع القائم، أي الخيار الأول. وهذا الفهم كفيل بأن يزيل الغمامة عن أعيننا ويجعلنا نفهم الواقع كما هو، أي أن السلطة في مأزق وتريد معالجته، وستفعل ذلك بأحد الخيارين، وهو ما يختلف عما يتخيله البعض من رغبة ذاتية في الإصلاح والتعاون لمجرد الإصلاح والتعاون. فراغ القوى أو تساويها الذي يمنع ظهور شخصيات شابة تطمح للقيادة داخل الأسرة الحاكمة هو الهاجس الفعلي للقيادة السياسية، ويمكن معالجة هذا الهاجس عبر صفقة سياسية تحل مشاكل الشعب المتعلقة بعدم الاستقرار السياسي وقمع الحريات والتهديد بالمواطنة وحل البرلمان وآلية اختيار الحكومة.
إلا أن غياب المشروع السياسي الذي يمكن أن يقدم بوصفه تنازلًا من السلطة مقابل تعاون البرلمان في تسمية ولي العهد أو السماح بظهور نخبة حاكمة جديدة من الشيوخ دون محرقة الاستجوابات، هو ما يجعل الأزمة قائمة. وما لم تكن هناك مبادرة من أحد الطرفين لحل الأزمة، فإنها ستبقى لسنوات قادمة. ففي غياب المشروع السياسي نكون أمام مشهدين: أولهما أن تتفكك القوى الإصلاحية، ومن ثم تجد السلطة طريقها للخيار الأول وإعادة ملء البرلمان بالأعضاء الحكوميين، ونكون بذلك قد عدنا إلى المربع الأول وأغلقنا باب الفرصة السانحة، وهو ما سيعيد إنتاج الأزمة فور عودة المعارضة بأغلبية في البرلمان.
المشهد الثاني هو تفعيل دور النخب الديمقراطية لتطوير النظام السياسي نحو مزيد من الديمقراطية، من خلال تقديم مشروع سياسي شامل يغير المعادلة السياسية بدرجة تقبلها السلطة. بدءًا بتشريع قوانين تحمي الحريات، وتعديل النظام الانتخابي نحو الحزبية وإشهار الأحزاب، وحماية الصحافة والإعلام الحر، وإصلاح القضاء من خلال تعزيز استقلاليته وقدرته على النظر في مسائل السيادة وخصوصًا سحب الجنسية، وتعديل اللائحة الداخلية للمجلس في ما يخص حضور الحكومة، وانتهاء بتعديل بعض مواد الدستور التي تمنح الأمير سلطة حل البرلمان وتشكيل الحكومة من خارج البرلمان، وغيرها من المطالب المتراكمة منذ 2012.
إن استغلال الفرص السانحة هو عمل السياسي، وما يحقق انتصارات سياسية تغير الواقع هو القدرة على فهم الصراع ومحاولة استغلاله استغلالًا إيجابيًا لحل الأزمات المتكررة. الفارق بين السياسي الجيد والرديء هو القدرة على تحقيق التفاهمات من جهة، ومن جهة أخرى حل المشاكل المتكررة حلًا دائمًا ينظر لجذور الأزمة وليس سطحها. يمكن تحقيق هذا من خلال النقاش والحوار مع القوى السياسية والمجتمع المدني، أي النخب السياسية، مع ضرورة أن يكون هذا النقاش عامًا ومفتوحًا للجماهير على اختلاف أجناسها وأنواعها.
عمر العبدلي