ما بعد المنحنى: خارطة طريق للتعايش مع «كورونا»
متى تعود الحياة إلى طبيعتها؟ يدور هذا السؤال في ذهن كل محجور ومحظور ومعزول، وتدور معه مفارقة أن إجازة العيد وسفرات الصيف التي اعتاد الكثير من الناس التخطيط لها في هذا الوقت من كل عام، حلت محلها مشاعر التوق إلى الدراسة والدوام والصالون والمقهى والنادي.
ويزداد السؤال إلحاحًا مع ترقب أرقام الإصابات التي يعلنها يوميًا الدكتور عبد الله السند المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة الكويتية، وقرارات مجلس الوزراء أسبوعيًا، دون أن يصاحبها أي بوادر انفراج، لتستمر الأزمة الصحية مفتوحة دون نهاية معلومة، خاصة مع استمرار تصاعد الإصابات بفيروس كورونا المستجد «كوفيد-19».
تسوية المنحنى: الإنسان أم الاقتصاد؟
يبدو المنحنى في مرحلة الصعود مع ارتفاع وتيرة الإصابات الجديدة مؤخرًا، إذ بلغ إجمالي الإصابات في الكويت 3740 إصابة، آخرها 300 إصابة جديدة سجلت في يوم كتابة المقال في 29 أبريل 2020.
ويبين الشكل تصاعد إجمالي الحالات التي تتلقى العلاج في وحدات العناية المركزة حاليًا لتبلغ 66 حالة، وهي المؤشر الموضوعي للضغط على المنظومة الصحية. وشهد الأسبوعان الماضيان تسجيل حالة وفاة أو أكثر كل يوم لتبلغ 24 حالة.
ربما تكون مبهجة حالة التعطيل، والمكوث بالبيت ومعاودة التعرف إلى قاطنيه واكتشاف أركانه، وقراءة الكتب المؤجلة وتعلم الطبخات الجديدة، لولا حالة القلق وعدم اليقين الناتجة عن الكبت وتقييد الحركة والتباعد الاجتماعي، وانقطاع الرزق وسبل الوفاء بالالتزامات المعيشية، وهذا هو صلب المحنة، فالمعروف أن طبيعة النشاط الاقتصادي هي المخالطة بين الناس، إذ يتفاوض البائع والمشتري وتنتقل النقود والسلع من يد لأخرى، ويتحرك الناس والبضائع بحرية، وتنتشر المعلومات وتتلاقى الأفكار وتتشكل الشراكات، وحدها الأوبئة القادرة على قلب قوانين الاقتصاد رأسًا على عقب، ليصبح التباعد والتعطيل وتقييد الحركة هي السياسة الاقتصادية الأحصف.
ولما غدت «تسوية المنحنى» هي صيحة الحرب ضد فيروس كورونا المستجد، لعله مناسبٌ أن نستعين بالمنحنيات لشرح العلاقة العكسية بين الأزمتين الصحية والاقتصادية المتلازمتين كما هو مبين في الرسم البياني الافتراضي، إذ تعمل إجراءات الحجر والتباعد الاجتماعي والتعطيل على تسوية منحنى الوباء، لكن على حساب تعميق منحنى الضرر الاقتصادي بإطالة الأزمة، بينما تبطئ معاودة النشاط النزيف الاقتصادي، لكنها قد تعرض المنظومة الصحية للإجهاد.
تتضح من الرسم المفاضلة بين المنحنيين، ولأن حياة الإنسان وصحته فوق كل اعتبار تجد حتى الاقتصاديين ينادون بتعطيل الاقتصاد لاحتواء الوباء في بدايته، لكن ماذا بعد ذلك؟ الفيروس باقٍ معنا إلى أن يتوفر له لقاح في منتصف 2021 حسب التقديرات المتفائلة.
ماذا لو لم نتمكن من احتواء كورونا؟ ماذا لو اندلعت موجات تفشٍ جديدة؟ أو اشتد المرض مجددًا في الشتاء تزامنًا مع الإنفلونزا؟ تلك احتمالات لا يستبعدها علماء الوبائيات حتى وإن اجتزنا المنحنى الأول، فهل ستغلق البلد وتعطل مؤسساته واقتصاده مع كل موجة؟ وهل سيحتمل الناس الكلفة الاقتصادية لذلك؟ وهل نحن مستعدون للعيش بحالة الاضطراب هذه لمدة طويلة؟ أم يوجد طريق آخر للتكيف مع تلك الاحتمالات؟
الإجابة على هذه الأسئلة تتطلب فهمًا للآثار الاقتصادية للإجراءات الصحية، لذا سنركز على الجوانب الاقتصادية والإحصائية لتلك الإجراءات لوقوعها ضمن اختصاصنا الأكاديمي.
قبل البدء يجدر التنويه إلى فكرة يرددها خبراء الصحة العامة وعلماء الوبائيات، وهي أن الإجراءات الشرسة لمواجهة الأوبئة تبدو مبالغًا بها أحيانًا، إلا أن المفارقة تكمن في أنها تبدو كذلك فقط عندما تنجح في درء الخطر الذي وضعت من أجله، ذلك لأن المواجهة هي ضد فيروس، أي كائن حي، يستجيب لتدابيرنا ونستجيب بدورنا لاستجابته، وهكذا، لذا فمن الطبيعي أن ينحسر إذا كانت المواجهة معه فعالة.
المقصد هو أن بعض الإجراءات التي نتناولها قد تبدو متطرفة ومبالغة، فإذا ما انحسر الوباء دون الحاجة لتفعيلها (وهو سيناريو نتمناه) فقد يكون ذلك بسبب عوامل طبيعية لا يمكن التنبؤ بها، أو بسبب نجاح تلك الإجراءات المبالغة في كبح جماح الوباء، وإذا كانت بالفعل متطرفة فعلى الأقل أسهمنا بخلق حالة نقاش حول الأزمة، وفي ذلك قيمة.
اقتصاد في غيبوبة
يشبّه الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل «بول كروغمان» إجراءات الحجر والتعطيل بإدخال الاقتصاد في غيبوبة اصطناعية، للحد من الأضرار الأولية وإعطائه الفرصة لتعزيز دفاعاته المناعية ضد الصدمة الاقتصادية المرتقبة.
تتمثل هذه الإجراءات بإحداث صدمة سلبية متعمدة في العرض الإجمالي جراء تعطيل عمليات الإنتاج والبيع، بهدف تجنب المخالطة في السوق ومقار العمل، يصاحب ذلك انكماش في الطلب الإجمالي بسبب تباطؤ الشراء نتيجة بقاء المستهلكين في المنازل.
ما يخشاه الاقتصاديون أن يطول أمد التعطيل وبالتالي تلجأ الشركات إلى تسريح موظفيها بسبب جفاف السيولة، فتنقطع أجورهم وقدرتهم على الشراء والوفاء بالتزاماتهم، مما يضاعف الانكماش في الطلب، ولهذا السبب تتدخل الحكومات عن طريق حزم الإسناد الاقتصادي بهدف مساعدة الشركات على الاحتفاظ بعمالتها خلال التعطيل.
هذه الغيبوبة هي التي تتيح تسوية منحنى الوباء بإبطاء انتقال العدوى، وما الضائقة المالية التي يتحملها الناس والخسائر التي يتكبدها الاقتصاد خلالها سوى الثمن الذي يدفعه المجتمع لشراء الوقت المطلوب لتعزيز إمكانيات المنظومة الصحية تأهبًا لتسارع التفشي وصعود المنحنى. ويعول الاقتصاديون على السلطات الصحية للإسراع برفع جاهزيتها بهدف معاودة النشاط الاقتصادي ولو جزئيًا في أسرع وقت ممكن، قبل أن يتفاقم النزيف الاقتصادي وتتحول الغيبوبة الاصطناعية إلى عميقة ترتفع تكلفة الإفاقة منها.
عدو خفي: الحاجة لتوسيع دائرة الفحص
الدافع من وراء اتخاذ إجراء متطرف كإدخال الاقتصاد في غيبوبة تامة هو طبيعة انتشار الفيروس الذي نحن بصدد مواجهته، إذ يخترق كورونا الجسد خفية، وينتقل من جسد لآخر قبل أن تظهر أعراضه، وقد لا تظهر أبدًا. إنه أشبه بعدو خفي يخوض حرب عصابات سلاحها التغلغل خلسة بين الناس، يكر ويفر بموجات متفرقة، وما أن تخمد شرارته بمكان حتى تشب أخرى. الحرب ضده غير متكافئة، إذ يكشف مكامن ضعفنا بانتهازية أكثر مما نحن نكشفه، ويباغتنا في أبسط أنشطتنا كالمصافحة والعناق ولمس الأوجه والأسطح، ويزدهر في التجمعات العامة والعائلية والمساكن المكتظة، يتفشى فيها بتسارع يزرع الهلع في نفوس الناس.
هناك استراتيجيتان في مراحل الوباء المبكرة لتوسيع نطاق الفحص الجيني (RT-PCR) الذي يكشف وجود الفيروس باستخدام المسحة المخبرية: الأولى تعتمد على الفحص الميداني الاستباقي من خلال مراكز الفحص المؤقتة في الشوارع ومراكز العمل والتسوق أو استهداف مناطق ومبانٍ سكنية معينة، ويستفاد منها بالكشف عن المصابين لا سيما من لا تظهر عليهم الأعراض بغرض عزلهم مبكرًا وتعقب مخالطتهم لغيرهم، لما لذلك من دور مصيري في إخماد بؤر التفشي قبل اندلاعها، وقد طبقت بعض الدول هذه الاستراتيجية ككوريا الجنوبية وتايوان والإمارات والبحرين.
أما الاستراتيجية الثانية فتقوم على احتساب نسب المصابين في مختلف الفئات الديموغرافية والمواقع الجغرافية لتحديد أي منها أكثر عرضة للإصابة، مما يتيح ترشيد استغلال المرافق والمعدات والكوادر الطبية بتوجيهها إلى تلك الفئات، فما الطريقة المثلى لعمل ذلك؟
بالإمكان بديهيًا احتساب النسب بالضبط (بافتراض دقة الفحص ذاته) بفحص جميع السكان وربط النتائج بالتقسيم الديموغرافي والجغرافي لهم، ولكن ذلك مكلف وليس عمليًا ويفوق سعة المختبرات والأطقم الطبية. البديل هو فحص عينة عشوائية صغيرة من السكان، ولعل من المفيد هنا شرح الأساس العلمي للاستدلال الإحصائي عن مجتمع ما باستخدام عينة عشوائية منه.
الفحص العشوائي
سنستخدم مثالًا مبسطًا: لنفترض أن نسبة المصابين في المجتمع 10% (أي شخص واحد مصاب من كل 10 أشخاص) ولكننا لا نعرفها مسبقًا، بل نود تقديرها باستخدام عينة من 5 آلاف شخص على سبيل المثال. ولأن أخطار المرض ترتبط بعمر المصاب، يهمنا أن تشبه العينة المجتمع بتوزيع الأعمار. للتبسيط، سنقسم المجتمع إلى كبار (45 سنة فما فوق) يشكلون نصف المجتمع (حقيقة نعلمها من تعداد السكان الرسمي فرضًا) وصغار (أقل من 45 سنة) يشكلون النصف الآخر.
تحدث المعاينة العشوائية (Random Sampling) من خلال اختيار أفراد عشوائيًا (بمساعدة الكمبيوتر) من قاعدة بيانات تضم كل أفراد المجتمع المستهدف (نظام البطاقة المدنية مثلًا)، وبحيث تكون فرص الاختيار فيها متساوية. لو وقع الاختيار صدفة على عدد زائد من الكبار يرفع نسبة تمثيلهم في العينة، فإن الاستمرار بالمعاينة يضمن اختيار عدد كافٍ من الصغار يعيد محاكاتها لخصائص المجتمع لا سيما التوزيع العمري. وتخضع العينة للفحص، وإذا ما استوفت شروط المعاينة العشوائية سنجد نسبة المصابين فيها قريبة من النسبة الحقيقية في المجتمع (10%) ضمن هامش مقبول من الخطأ. هذه النتيجة ليست محض صدفة أو حظ، بل تستند إلى نظريات وتجارب أساسية في علمي الإحصاء والاحتمالات تعود إلى قرون من التاريخ.
ماذا لو زاد تمثيل شريحة ما في العينة بمحض الصدفة، كأن تفوق نسبة الذكور فيها نسبتهم في المجتمع؟ أو ماذا لو تعذر الوصول إلى كل أفراد العينة (بسبب ارتفاع التكلفة أو غياب معلومات الاتصال)؟ هناك أساليب معاينة مناسبة لكل ظرف، كالمعاينة الطبقية (Stratified Sampling) التي يقسم فيها المجتمع إلى شرائح يختار منها عشوائيًا لضمان التمثيل الصحيح، أو المعاينة العنقودية (Cluster Sampling) كاختيار المساكن عشوائيًا (باستخدام قاعدة بيانات البلدية مثلًا) وفحص قاطنيها.
يعتبر نهج الاستدلال الإحصائي جزءًا من حياتنا اليومية، إذ يكفي مثلًا تذوق ملعقة من الشوربة لتقدير ملوحتها بدلًا من شرب الوعاء كله، لأن أي ملعقة من الشوربة المخلوطة جيدًا تعد عينة تمثيلية تشبه بطعمها الوعاء كله. حتى لو لم تخلط، فبالإمكان نظريًا الحصول على عينة تمثيلية عن طريق غرف عدد كافٍ من القطرات عشوائيًا. مثال آخر: يكفي الطبيب فحص عينة دم صغيرة لمعرفة خصائصه، بدلًا من سحب دم جسم المريض كله.
هل الفحوصات التي تجريها الكويت عشوائية؟
استراتيجية وعدد الفحوصات المخبرية التي أجريت في الكويت يحيطهما الغموض مقارنة بالدول الأخرى التي تفصح عنها بشفافية، ولكن حسب ما يتداول في الإعلام يبدو أن الكويت تتبنى أسلوبين للمعاينة:
- فحص القادمين من السفر ومخالطيهم: تسمى «عينة غير احتمالية» (Non-Probability Sample)
- تطوع الأفراد للفحص عند ظهور أعراض أو مخالطة مصابين: تسمى «عينة تطوعية» (Voluntary Sample)
كلتا العينتين ليست عشوائية، فالمسافرون ومخالطوهم مستهدفون تحديدًا وفرص اختيارهم أعلى من بقية أفراد المجتمع، ومرجح اختلاف أفراد العينة التطوعية جذريًا عن باقي المجتمع بارتفاع وعيهم الصحي أو قدرتهم على الحضور. إذًا، يتوقع أن تكون نسبة الإصابة في العينتين أعلى منها في المجتمع نتيجة لما يسمى إحصائيًا «التحيز الانتقائي» (Selection Bias).
وبدأت مؤخرًا حملة للفحص الميداني في المناطق المكتظة بالعمالة الوافدة، إلا أن وصفها بالعشوائية خاطئ لأنها بالأساس تستهدف مناطق ومبانٍ وفئات محددة مسبقًا بما يخالف شروط العشوائية، وقد تسهم في رصد بعض المصابين بين هذه الفئات، لكن لا يصح الاستدلال بها على معدل الانتشار في المجتمع ككل.
نماذج الاحتواء
إلى جانب إجراءات الحجر والتباعد الاجتماعي، باتت استراتيجيات الفحص هي الأساس الذي تقيَّم على أساسه تجارب الدول في تسوية منحنى الوباء، وبمقارنة تلك التجارب يبرز نموذجان:
- النموذج الناجح: دول مبادرة مثل كوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة ونيوزيلندا فرضت الحجر والتباعد الاجتماعي مبكرًا لتسوية المنحنى، وفي الوقت ذاته أجرت فحوصات استباقية واسعة النطاق استطاعت من خلالها كشف المصابين وعزلهم مبكرًا، وبدأت الآن باستئناف النشاط الاقتصادي تدريجيًا مع استمرارها في الفحص
- النموذج الفاشل: دول تجري خلف المنحنى بأسلوب رد الفعل مثل إيطاليا وأمريكا، إذ تلكأت في الحجر والتباعد الاجتماعي، وقصرت الفحص على مظهري الأعراض وتأخرت في تعميمه، فأخذ الوباء يتفشى خفية وتزايدت أعداد الإصابات اليومية حتى أرهقت منظوماتها الصحية وتصاعدت حالات الوفاة
انتهجت دول عدة مزيجًا من النموذجين، منها الكويت التي فرضت التعطيل والحجر والحظر مبكرًا لكن الفحص فيها ما زال محدودًا، مع الإقرار بسوء حظ الكويت لتزامن ظهور الفيروس مع عطلة الأعياد الوطنية، مما ترتب عليه أولوية إجلاء المواطنين المسافرين التي جعلت الناس تبدي تفهمًا لتأخر الفحص، بيد أن الفيروس مع الأسف لا يبدي نفس التفهم والتعاطف، وبالتأكيد لن ينتظر عودة المسافرين حتى يتفشى في المجتمع.
جدير بالذكر أن بعض دول الخليج قطعت أشواطًا في التوسع بالفحص، فعلى سبيل المثال تعلن قطر والإمارات دوريًا عن إتمام أعداد كبيرة من الفحوصات واسعة النطاق، وأعلنت البحرين كذلك في منتصف أبريل عن إطلاق حملة تغطي كل المجمعات السكنية في المملكة لإجراء 9600 فحص عشوائي في 12 يومًا، لذا يمكننا الاستفادة من التجارب الخليجية لتشابه الظروف والتركيبة السكانية مع الكويت.
ويتطلب ذلك معرفة معدل الانتشار الحقيقي للفيروس في كل مراحل الوباء منذ بدايته، وهو ما لا يوفره الفحص الجيني (RT-PCR) كونه مقتصر على الإصابات النشطة فقط، بينما المطلوب هو كشف كل من حمل الفيروس سواء الآن أم من أصيبوا في وقت سابق وتعافوا خارج نطاق المراكز الصحية، وهذا ما يتيحه فحص الأجسام المضادة (Antibodies) في الدم، رغم أن فعاليتها المناعية ما زالت قيد البحث، ويتوجب الحذر في تفسير نتائج الفحص إذا كان معدل النتائج الإيجابية الكاذبة False Positive عالٍ نسبيًا مقارنة بمعدل الانتشار المقدّر. وقد شرعت بعض الدول والمدن في تطبيقه على عينات عشوائية تمثيلية، منها خطة ألمانيا لفحص عينة من 15 ألف شخص الشهر المقبل.
حتى لا نطير في الظلام
غصنا في تفاصيل استراتيجيات الفحص لغرض إيصال النقطة التالية: التوسع في الفحص لفهم مدى انتشار الفيروس في المجتمع ضروري لبدء التفكير في إخراج الاقتصاد من غيبوبته.
إن التعجيل بفحص الأجسام المضادة لعينة عشوائية تمثل المجتمع الكويتي بمواطنيه ومقيميه، وربط النتائج بتقسيماته الديموغرافية والجغرافية والاقتصادية، مع استمرار فحوصات الإصابة (RT-PCR) استباقيًا وعلى نطاق واسع وبموجات متتالية، يمكننا من تقدير معدل الانتشار ووتيرته بدقة، مما يسهل على الباحثين الاقتصاديين تقدير أمد تعطيل النشاط الاقتصادي وكلفته، ورسم سياسات الإنقاذ والتحفيز الاقتصادي المناسبة، بالإضافة إلى الشروع في وضع خطط إعادة تشغيل مؤسسات الدولة والقطاعات الاقتصادية الأقل قابلية لتفشي الفيروس فيها، وإرجاء تشغيل الأخرى الأكثر قابلية إلى مرحلة لاحقة. بالإضافة إلى أن كل ذلك من شأنه أن يزيل حالة القلق وعدم اليقين عند الناس، ويبشر بعض من هم في ضائقة مالية بقرب الفرج.
لا شك في أن عملًا بهذا الحجم تحدٍّ جسيم لكنه ليس مستحيلًا، فالإدارة المركزية للإحصاء تجري المسوحات العشوائية بشكل اعتيادي، وبالإمكان تشكيل فريق عمل بقيادة الإدارة وعضوية أكاديميين متخصصين في علوم الوبائيات والإحصاء لتصميم خطة الفحص العشوائي، مع الأخذ في الاعتبار إمكانيات المنظومة الصحية المتاحة. ولعل تطبيقها بينما الحظر الجزئي قائم أمر ملائم، لضمان وجود الناس في مساكنهم، لا سيما المقيمين غير المسجلين أو الذين يصعب الاتصال بهم. وبالإمكان اتباع أسلوب المعاينة العنقودية لاختيار عينة عشوائية من المساكن بدلًا من الأفراد لتسريع العملية وتقليل كلفتها.
الإفاقة من الغيبوبة
مثلما شهدنا جرأة في القرارات وحشدًا للجهود الصحية والأمنية والتنظيمية لاحتواء الوباء في البداية، ستتطلب عودة العمل والنشاط الاقتصادي تخطيطًا وتنفيذًا لا يقلان دقة وأهمية عنها. ناهيك بأن لكل من المؤسسات والقطاعات خصوصية تتطلب خطة ملائمة تحدد نسب الإشغال الدنيا المسموح بها بما يحقق التباعد البدني (في المطاعم ووسائل النقل العام كمثالين).
للقطاع الصحي الخاص دور مهم في إجراء الفحوصات وعلاج الإصابات لتخفيف الضغط على المرافق الصحية الحكومية.
إذًا، لن ننتقل من التعطيل إلى التشغيل بضغطة زر، بل هي عملية تدريجية ومتفاوتة تتسم بالحذر والتردد والكثير من التجربة والخطأ لتقليل فرصة ظهور بؤر جديدة، فاليابان وسنغافورة على سبيل المثال نجحتا في تسوية المنحنى الأول، لكنهما تكافحان الآن ضد منحنى ثانٍ بعد ظهور موجة تفشٍّ جديدة.
حتى وإن نفذت تلك الخطط بإحكام، فلا يتوقع أن تعود الحياة كما كانت قبل الوباء، بل يتوجب المضي بحذر شديد تأهبًا لموجات تفشٍّ أخرى محتملة، يصاحبها تكثيف الفحص المتكرر في مقار العمل والمدارس والأسواق لرصد الإصابات وعزلها مبكرًا وتعقب مخالطيها. تشبه العملية إفاقة مريض من غيبوبة، وتتطلب وضعه تحت الملاحظة اللصيقة وفحصه مرارًا وتأهيل جسده تدريجيًا للعودة لنشاطه الطبيعي.
من الحصافة البدء من الآن بالتخطيط لعودة النشاط، فالطلب العالمي على مستلزمات الفحص والوقاية في تزايد بسبب تسابق الدول على شرائها، لذا فإن التأخر في شرائها أو توفيرها في السوق المحلي من شأنه أن يؤجل عودة النشاط دون داعٍ. وللقطاع الصحي الخاص دور مهم في إجراء الفحوصات وعلاج الإصابات لتخفيف الضغط على المرافق الصحية الحكومية.
افحص وافحص وافحص.. ثم افحص
سيستمر هاجس إجهاد المنظومة الصحية في مرحلة إعادة التشغيل، لذا يجب اتخاذ خطوتين الآن تقللان فرص تحقق الهاجس: الأولى تشكيل فرق عمل متخصصة تضع خطط إعادة تشغيل كل قطاع رسمي واقتصادي، والثانية تشكيل فرق مساندة وتطوعية تعنى برصد البؤر الجديدة وتعقب المخالطين ومتابعة المعزولين، لكي تتفرغ الكوادر الطبية للفحص والعلاج والعناية.
بعد ذلك، يمكن تلخيص الملامح العامة للمرحلة القادمة في التالي:
- فحص استباقي واسع النطاق لكشف الإصابات وإخماد أي بؤر تفشٍّ جديدة، خصوصًا مع عودة المسافرين واكتظاظ المساكن العمالية
- فحص الأجسام المضادة لعينة عشوائية تمثيلية، وتصنيف الفئات الديموغرافية والمواقع والقطاعات حسب مخاطر تفشي الوباء فيها
- الإعداد لعودة العمل والنشاط الاقتصادي بالتوعية بخطط التشغيل ونصب مراكز الفحص في مقار العمل والدراسة والأسواق
- إرخاء قيود الحجر تدريجيًا، والتشغيل الجزئي والتدريجي للقطاعات بدءًا بأقلها مخالطة وعرضة لتجدد العدوى فيها
- فحص العائدين إلى العمل والدراسة، ثم فحصهم مرة ثانية، ومرة ثالثة، ومرات أخرى
- عزل المصابين، وتعقب مخالطيهم، ومتابعة التزامهم بالحجر من قبل فرق الرصد المساندة
- تعريف المتعافين ممن اكتسبوا المناعة، والسماح لهم الاستمرار في العمل في حال استدعى الأمر تعطيل قطاعاتهم من جديد (بافتراض صحة وجود ارتباط جازم بين التعافي واكتساب المناعة وفعاليتها في منع الإصابة من جديد، وهو ما لا يزال قيد البحث العلمي)
مع التشديد على استمرار الالتزام بالسلوك الوقائي، كغسل اليدين ولبس الكمامات والتباعد البدني والعمل عن بعد متى أمكن ذلك، والاستئناس برأي السلطات الصحية في كل خطوة، فهي الأدرى بقدرتها على التعامل مع كل الاحتمالات.
نسبق المنحنى.. أو يسبقنا
يدير العالم انتباهه حاليًا إلى احتمالية حدوث موجات جديدة للوباء. وبخلاف الكثير من الدول، لم تعلن الكويت حتى الآن خططًا للمرحلة المقبلة، لذا لا نملك للحكم على استعداداتها سوى ما يُستقى من النهج الذي اتبعته حتى الآن، مثل التأخر في توسيع نطاق الفحص، والغموض المحير حول استراتيجية الفحوصات وعدد الأفراد الذين خضعوا للفحص، علاوة على الغياب التام لأي تصور زمني لعودة العمل والنشاط الاقتصادي.
كل ذلك لا يبعث على الاطمئنان لجاهزية الحكومة للمرحلة القادمة، وهذا لا يعني الانتقاص من التضحيات البطولية التي تبذلها الكوادر الصحية والأمنية والقطاعات الأخرى المساندة، بالإضافة إلى ما أظهره الوزراء المعنيون من قيادية ترقى إلى مستوى الحدث، ومن المرجح أن قراراتهم بالفعل أنقذت أرواحًا كثيرة.
المتابع للتركيز المفرط على الحجر والبقاء في المنزل والتلويح المستمر بالحظر الكلي لا يسعه إلا الاستنتاج أن الحكومة تعامل التعطيل على أنه حل في حد ذاته، وليس وسيلة لشراء الوقت للاستعداد لما بعد كما يجب أن يكون، وهذا النهج مثير للقلق لأن له آثارًا اقتصادية مؤلمة على حياة الناس، منهم من قيدت حركته وحياته في المناطق المعزولة، وعمال وموظفون وأصحاب مشاريع فقدوا أرزاقهم وأصبحوا في ضائقة مالية تحول دون قدرتهم على الوفاء بإيجاراتهم وأقساطهم، وناس بات حصولهم على الغذاء والدواء مشقة، وآخرون صعبت عليهم رعاية مرضاهم ومسنيهم، هذا بالإضافة إلى الآثار النفسية للحجر وتقييد الحركة، والنظام التعليمي المعطل وآثاره على التحصيل العلمي وخطط التخرج.
حياة الإنسان وصحته تبقى الأولوية العليا، ولا يوجد مؤشر اقتصادي يبرر المساومة بهما، لكن القلق يكمن في أن تطول معاناة الناس الاقتصادية لا بسبب الفيروس، بل بسبب نهج التعامل الرسمي معه.
حان وقت تغيير عقلية التعامل مع الوباء بتكثيف الفحص لاستباقه، فالنموذج الهجين القائم على التشدد في الحجر والتلكؤ في الفحص غير مستدام ومن شأنه إطالة أمد الأزمة الاقتصادية وتعميق المعاناة منها دون داعٍ، ولا يزال أمامنا طريق طويل ووعر لمعالجة آثارها، إذ يرتفع في كل يوم الثمن الذي يدفعه الاقتصاد الوطني خلال التعطيل، نتيجة ضياع فرص الكسب والإنتاج وتوقف مصالح الناس في الدوائر الحكومية وحزم الإنقاذ التي تتحمل خزينة الدولة الجزء الأكبر منها.
الفرصة مواتية لأن تبني الحكومة على جرأة قراراتها ونجاحها التنظيمي ورصيد الدعم الشعبي، بأن تتحول بتفكيرها إلى لما بعد المنحنى الأول. ماذا لو جاءت موجة ثانية للوباء بمنحنى جديد؟ عندها ستصبح الحكومة أمام خيارين، الأول أن تكثف الفحص وتكشف بؤر التفشي مبكرًا، بحيث تستبق المنحنى وتستعد لمفاجآته قبل حدوثها، مما يتيح الإبقاء على بعض من الحياة الطبيعية. أما الثاني فهو أن تستمر في الفحص المحدود وتغلق الحدود والمطارات وتعطل المدارس والوزارات والنشاط الاقتصادي وتعيد الحظر من جديد، وبذلك تجري خلف المنحنى وتحت رحمة مفاجآته. ماذا لو جاءت موجة ثالثة؟ ورابعة؟ أي الخيارين ستختار؟
ضاري سليمان الرشيد