العزلة والاستقلالية والحياد: لماذا تختلف عُمان عن محيطها الخليجي؟
عادةً ما يُطرح السؤال حول أسباب اختلاف سلطنة عُمان عن محيطها الخليجي سياسيًا وثقافيًا، بل وحتى نفسيًا من حيث الميل للعزلة أو النزعة الاستقلالية بتأويل آخر. وهو ما يمثل حالة فريدة من الخصوصية، لا تقتصر على المواقف السياسية مثل رفض الانضمام للاتحاد الخليجي والحياد تجاه كثير من القضايا التي تجمع عليها أو تتصارع حولها بقية دول الخليج، بل تشمل التعددية الدينية والرؤية المذهبية (الإباضية تحديدًا)، وشكل نظام الحكم تاريخيًا (الإمامة)، ونمط الحياة والظروف الاقتصادية التي لا تقوم على البداوة والترحال، وإنما غالبًا الزراعة والاستقرار الحضري والتجارة مع الشعوب الأخرى، خصوصًا شرق إفريقيا وشبه القارة الهندية وبلاد فارس.
هنا في هذا المقال أحلل جذور النزعة الاستقلالية في تاريخ عُمان وجغرافيتها وتركيبتها الثقافية والدينية، وأعرض الأسباب التي جعلت العُمانيين مختلفين عن بقية شعوب الخليج، وأطرح رأيي محاولًا الالتزام بالموضوعية بعيدًا عن النظرة الأسطورية المختلَقة والمبالغات الوطنجية المتهافتة. ورغم كل شيء يبقى ما أطرحه هنا مجرد محاولة للفهم والتحليل لا أكثر، وهدفها فتح باب النقاش لفهم أنفسنا كعُمانيين.
العزلة الجغرافية وغياب الذاكرة الجمعية المشتركة
ظلت الجغرافيا محددًا رئيسيًا لشكل الدولة وطبيعة حركتها ونمط الحياة في المجتمع والأنشطة الاقتصادية التي يعيش من خلالها العُمانيون. وبرز الكثير من الكتب والأبحاث التي تركز على هذا الجانب، مثل مقال المحور الجغرافي للتاريخ لهالفورد جون ماكيندر، وكتاب سجناء الجغرافيا لتيم مارشال وانتقام الجغرافيا لروبرت كابلان.
وقد يكون أهم ما كتب بالعربية في حقل الدراسات الجيوسياسية كتاب شخصية مصر... دراسة في عبقرية المكان، للمفكر الاستراتيجي المصري جمال حمدان في 1967. وإن كانت «مصر هبة النيل» حسب توصيف المؤرخ الإغريقي العظيم هيرودوت، فعُمان هبة الجبال والبحار.
لقد كان الموقع الجغرافي وطبيعة تضاريس عُمان مكونًا مؤثرًا ورئيسيًا في سلوك الفرد والجماعة العُمانية. شكلت الجبال في شمال عُمان (جبال الحجر الشرقية والغربية) وفي جنوبها (سلسلة جبال ظفار) حواجز جغرافية بين عُمان وبقية شبه الجزيرة العربية، وقد تعمقت هذه المسافات أكثر بسبب طبيعة صحراء الربع الخالي التي تفصل عُمان عن بقية دول الخليج.
هذه العزلة الجغرافية منعت تشكل حالة من «الذاكرة الجمعية المشتركة» مع بقية شعوب المنطقة، باستثناء الإمارات التي كانت تشترك مع عُمان في التاريخ إلى حد كبير. هذه الذاكرة هي ما يوحد الشعوب ويجعلهم أكثر قبولًا لإمكانية الدخول في مشاريع سياسية مشتركة، ولذلك غيابها كان يعني بالضرورة أن تبقى عُمان (كحكومة وشعب) تنظر لنفسها على أنها كيان مستقل وله خصوصيته وذاكرته التاريخية المختلفة وعلاقاته الخارجية الخاصة.
هذا المفهوم يعود للفيلسوف وعالم الاجتماع الإنجليزي موريس هالبواكس في كتابه الذاكرة الجمعية عام 1950، إذ «لا ذاكرة بدون جماعة أو بمعزل عنها، ولا جماعة واعية بذاتها بدون ذاكرة جمعية مشتركة.. والهوية هنا تتشكل عبر فعل التذكر» وهذه الذاكرة تؤثر بشكل كبير على السلوك والعادات والتقاليد ونظرة الجماعة لذاتها وللآخر.
لكن مع هذا لا بد من الاعتراف بأن عُمان ليس بها ذلك التجانس المتخيل الذي تروج له الحكومة، فهي بلد متعدد مذهبيًا (إباضية وسنة وشيعة) وعرقيًا (عرب وبلوش وسواحيليين وفرس وهنود وأفارقة)، إذ كانت وجهة للهجرات، وقد يكون ما يميزها قدرة مجتمعها على التسامح، ولكن ذلك لا يعني الذوبان في الآخر وإنما القبول بالعيش المشترك، وحتى بيئيًا من حيث وجود أهل بادية وحضر وجبال وساحل وسهول زراعية. شكلت هذه البيئات تعددًا في أنماط العيش، وهو ما انعكس على مسائل الانفتاح أو الانغلاق والمواقف من السياسة وغيرها.
لكن مع كل هذا التعدد والاختلاف، يبقى هناك قدر لا يمكن تجاهله من الهوية المشتركة والمرتبطة بالجغرافيا، وثقافة سائدة ظلت مهيمنة على التاريخ السياسي على الأقل، وقادرة على احتواء المكونات الأخرى أو تحييد الهويات الصغرى وإبقائها في الحيز المحلي لا الوطني، مما أدى لتشكل «ذاكرة جمعية» رسختها الجغرافيا وحافظت على استمراريتها الدول، ولا بد من تحليل خلفياتها الفكرية والمذهبية وتحولاتها في أشكال أنظمة الحكم والإدارة.
توافق النزعة الاستقلالية مع الإسلام
يقول العوتبي أن الأزد سمت عُمان «عُمانًا» لأن منازلهم كانت على واد لهم بمأرب يقال له عُمان فشبهوها به.
تحتاج الأوطان لأسطورة وطنية توحدها وتمنحها المعنى المشترك لوجودها. وهذه التصورات عن الماضي قد لا تكون بالضرورة مختلَقة، ولكنها لا تخلو من مبالغات، وبقدر اعتمادها على تأسيس ذاكرة مشتركة إلا أنها تقتضي حتمية نسيان جزء كبير من تاريخ الجماعات المختلفة على أي أرض. وهذا الأمر حصل في عُمان، فالأسطورة الوطنية هنا مرتبطة بمالك بن فهم وهجرة قبائل الأزد إلى إقليم عُمان بعد انهيار سد مأرب.
يقول عالم اللغة والأنساب سلمة بن مسلم العوتبي في كتاب الأنساب إن الأزد سمت عُمان «عُمانًا» لأن منازلهم كانت على واد لهم بمأرب يقال له عُمان، فشبهوها به. والروايات تذكر أن الفرس كان لهم وجود وسطوة في عُمان قبل ذلك، وحينها كانت تسمى مزون ومجان، ولكن الأسطورة الوطنية لا تصورهم كجزء من التاريخ العُماني، وإنما يلعبون دور العدو والخطر الأزلي المهدد لعُمان ووحدتها.
هذا الفهم يلغي كل وجود على هذه الأرض في المرحلة التي سبقت هجرة الأزد، بمعنى أن التجربة التراكمية لنا كعُمانيين (لنا ذات وهوية مشتركة) بدأت فقط بعد هذه الهجرة. إضافة لهذا، تقلل هذه القراءة للتاريخ من قيمة المكونات الأخرى، فليس كل العُمانيين من الأزد، وهنالك سياقات مختلفة لمجتمعات عُمانية متنوعة قد لا تكون بالضرورة معنيّة بهذا الحدث، مثل ظفار في الجنوب. الإشكالية هنا أن اختزال الأسطورة الوطنية في حدث واحد واعتباره نقطة انطلاقة لعُمان كدولة ومجتمع يحمل في طياته الكثير من الإلغاء والإقصاء.
عودةً للأزد وصراعهم مع الفرس، فقد ظل مستمرًا بين مد وجزر وحرب وتفاوض، في حالة ملحمية انتهت بانتصار مالك بن فهم عليهم وحكمه لعُمان والمناطق المحيطة بها. لكن بحسب الأسطورة الوطنية، ظلت بلاد فارس مهددًا لكل الملوك الذين حكموا عُمان من بعده وبقي لهم وجود في مناطق شمال عُمان، وقد تطرق لهذه التفاصيل العلامة الشيخ نور الدين السالمي في كتابه تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان. وهذا الصراع خلق نوعًا من الوحدة بين العُمانيين العرب، فالشعوب تتوحد عندما تشعر بالخطر وتنقسم على نفسها بعد زواله غالبًا، ولذلك تظل الحكومات عبر التاريخ تبحث عن أعداء خارجيين لتبرر هيمنتها على الداخل. وقد يكون من الجيد استحضار هذا الأمر في التحولات التي ستحصل بعد ذلك مع قدوم الإسلام، الذي مثل للعُمانيين شيئًا من اللاهوت السياسي يوحدهم ويعينهم في حروبهم مع الفرس.
ظلت النزعة الاستقلالية حاضرة في الشخصية العُمانية، فهي كانت موجود كدولة مستقلة ولها كيانها منذ ما قبل الإسلام. ودليل ذلك أنه مع بداية الدعوة للدين الجديد قبل 14 قرنًا، وُجهت الرسائل والسفراء لدول مختلفة مثل بلاد الروم والفرس والحبشة ومصر واليمن وحضرموت والغساسنة في الشام، وعدد قليل من الدول أو التنظيمات السياسية التي تتجاوز في تركيبتها العصبية القبلية. وحسب الروايات المتواترة، فإن عبد وجيفر أبناء الجلندى تلقوا رسالة تدعوهم إلى قبول الإسلام دون أن يؤثر ذلك على ملكهما، وكان السفير الذي حملها شخصية مهمة وهو عمرو بن العاص، مما يعني وجود دولة أو مملكة عُمانية قبل الإسلام.
نص الرسالة: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله (رسول الله)، إلى جيفر وعبد ابني الجلندى، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوكما بدعاية الإسلام، أسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيًا، ويحق القول على الكافرين، وإنكما إن أقررتما بالإسلام ولّيتكما، وإن أبيتما إن تقرا بالإسلام، فإن مُلككما زائل عنكما، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما».
وهنالك تفسيرات مختلفة لأسباب التجاوب العُماني السريع وقبول الدعوة بشكل طوعي، والظاهر أن الدوافع بالنسبة للسلطة السياسية تتجاوز الاقتناع الروحي بالدين، وهو ما قد يكون موجودًا على المستوى الفردي، إذ أن أول من أسلم من أهل عُمان لم يكن من أسرة الملك وإنما من عامة الشعب، وهو مازن بن غضوبة، ولكن الحديث هنا ليس عن حالات الإسلام الفردي بل السياسي، المتمثل في عبد وجيفر كملوك لهم شعب يتبعهم.
تشير المعطيات إلى حضور بُعد جيوسياسي يتعلق بالوجود الفارسي في شمال عُمان، والتهديد الذي كان يمثله بشكل مستمر بين كل فترة وأخرى. ولذلك تبنى العُمانيون الدين الإسلامي الجديد كنوع من اللاهوت السياسي في مقاومتهم للخطر الفارسي، الذي كان موجودًا شمال عُمان وخصوصًا في المناطق الساحلية، ولديه مشروع عقائدي متمثل في المجوسية الزرادشتية. وبهذا يمكن فهم الموقف الجيوسياسي من حيث ضرورة التحالف مع مشروع عقائدي مناوئ يصب في مصلحة النظام السياسي ولا يتعارض معه. وما يؤكد هذه الفرضية أن عبد وجيفر استمرا في حكم عُمان حتى بعد الإسلام، ولم يغير النبي أو أي من الخلفاء الراشدين نظام الحكم في عُمان، فالمهم بالنسبة لهم كان قبول الدعوة وجمع الزكاة والمشاركة في الجهاد، وهذا ما لم يتردد فيه العُمانيون طيلة فترة الخلافة الراشدة.
بين القابلية للثورة والبحث عن الفكرة
قد يتصور البعض أن قبول الإسلام ينفي بعد ذلك عن العُمانيين صفة الخصوصية ويُسقط الفرضية التي أطرحها في مقالي هذا، ولكن حتى بعد الإسلام عادت الميول الانفصالية لدى العُمانيين للظهور مرة أخرى، خصوصًا بعدما اتجهت الخلافة لتتحول إلى ملك عضوض. وقد شهد هذا التحول كذلك ميل الدولة الأموية إلى إلغاء هامش الحكم الذاتي، الذي كان متوفرًا للعُمانيين في فترة الرسول والخلفاء الراشدين.
ورغم أن المذهب الإباضي نشأ من الناحية الفكرية في العراق، فقد وجد البيئة الحاضنة بين الأمازيغ في بلاد المغرب الكبير (الذين كانوا يبحثون عن نظرية تحقق لهم العدالة بسبب سوء أحوالهم في الدولة الأموية)، وكذلك في عُمان التي اعتادت الاستقلال ولم يتقبل أهلها فكرة أن الخلافة محصورة في قريش. ولذلك كان هنالك نوع من الجاهزية لقبول النظرية من نواح عدة، جغرافية ونفسية وسياسية. وهذا هو ما دفع لما يمكننا تسميته «القابلية للثورة»، فهذه المجتمعات كانت تبحث عن فكرة تتلقفها ونظرية حكم بديلة تنقذها من واقعها السياسي الجديد، ولذلك وجدت الخلاص في فكرة الإمامة الإباضية. وهنا مرة أخرى ظهر ما يمكن تسميته باللاهوت السياسي، بمعنى استخدام النظرية والمشاعر الدينية للإجابة على الأسئلة المبدئية في السياسة، وتوظيفها في مقاومة الواقع وتحشيد المكونات الاجتماعية ضمن مشروع سياسي بديل.
عادت النزعة الاستقلالية للظهور مع بداية العصر الأموي، الذي كان مشغولًا بحروبه مع دولة عبد الله بن الزبير في الحجاز والعراق، ولكن بمجرد وصول عبد الملك بن مروان للسلطة وقضائه على دولتهم عن طريق الحجاج بن يوسف الثقفي عام 73 هجريًا، بدأ يلتفت إلى عُمان. وهنا شرع الحجاج في حروبه لإخضاع عُمان ليجعلها ضمن مناطق نفوذه وسيطرته، واستمر إلى أن قضى على حكم ملوك عُمان والهامش الذي كانوا يتمتعون به، في ما يمكن اعتباره حكمًا ذاتيًا بمعايير العصر الحديث.
بعدها تواصلت التوترات مع الدولة الأموية في معظم الفترات باستثناء عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز. ولكون العلاقة مع مركز الخلافة الإسلامية ظلت تقوم على الصراع، فقد عادت الميول الانفصالية في نفس عام سقوط الدولة الأموية وقيام دولة بني العباس، وهذه المرة من خلال تبني نظرية الإمامة في 132 هجريًا. وحينها اختار العلماء الجلندى بن مسعود ليكون زعيمًا للثوار وإمامًا عليهم، وبهذا استقلوا عن هيمنة الدولة حتى عام 134، حينما أعاد العباسيون سيطرتهم على عُمان بعد معركة جلفار الثانية.
ورغم إجهاض التجربة وقصر عمرها، فإنها أحيت الأمل في نفوس العُمانيين بإمكانية الاستقلال، وهذا ما جعل الفكرة كالحلم الذي يراود المخيال الجمعي ويتحين الفرصة ليظهر ويتمرد كلما ضعفت دولة الخلافة المركزية. لم يطل الأمر حتى قامت الثورة في 177 هجريًا، لتعلن قيام الإمامة الثانية التي استمرت قرابة مئة عام بشكل متصل، وبعدها سقطت نتيجة الصراعات الداخلية ودخلت في حالة من الحكم المتقطع إلى أن قامت دولة النباهنة الوراثية لتستمر 500 عام، وهي الأطول في تاريخ عُمان المدون.
بعدها دخلت البلاد في حالة من الصراعات القبلية والحروب الأهلية، قادت إلى فراغ في القوة استفاد منه البرتغاليون ليبسطوا نفوذهم على المناطق الساحلية في عُمان قرابة مئة عام. وبعد انتخاب الإمام ناصر بن مرشد اليعربي في 1033 هجريًا، نجح في توحيد البلاد وطرد البرتغاليين من معظم الأراضي العُمانية، ليستمر الحكم بعد ذلك في قبيلته التي جمعت بين الإمامة والحكم الوراثي، فهي شورى ولكنها ضمن أسرة اليعاربة، وكانت في حالة تزاوج بين ما هو ديني وما هو سياسي بخلاف فترة النباهنة. استمرت الدولة اليعربية إلى 1153 هجريًا، أي ما يقارب 120 عامًا، وانتهت بحرب أهلية وتدخلات خارجية فارسية، لتقوم بعد ذلك إمامة أحمد بن سعيد وأسرته التي لا زالت مستمرة إلى اليوم.
ومن هنا يتبين لنا أن عُمان كانت استثناءً في التاريخ الإسلامي، فالنزعة الاستقلالية بها متجذرة، وخدمها في ذلك موقعها الجغرافي والنظرية السياسية الإباضية في الإمامة، وخبرة أهلها في الحرب والسياسة. ولهذا كانت من أوائل المناطق التي تثور على دول الخلافة الأموية والعباسية، وكانت مستقلة عن بقية الدول الإسلامية التي قامت في العالم الإسلامي مثل الفاطميين والأيوبيين والمماليك والعثمانيين، وغيرها من الدول التي سيطرت على معظم العالم الإسلامي. ولذلك يمكننا القول بما لا يدع مجالًا للشك إن العزلة وفرت بيئة حاضنة للنزعة الاستقلالية، وإن النظرية الإباضية في الحكم جعلت عُمان مختلفة عن كل محيطها في شبه الجزيرة العربية، وإن العلاقات الوثيقة مع دول العالم الأخرى في الهند والصين وشرق إفريقيا وبلاد فارس أدت لتشكل تجربة سياسية واقتصادية فريدة من نوعها.
الهاجس الأمني وتحول العزلة إلى ثقافة
هذه الجبال والصحاري بقدر ما تشكل عامل «عزلة طبيعية» بين عُمان وعمقها الثقافي في شبه الجزيرة العربية، كانت أيضًا تمثل بيئة حاضنة للنزعة الاستقلالية في الشخصية العُمانية، لأن الجبال تعتبر عناصر حماية ليس فقط للجماعات البشرية، فالأفكار والدول والمذاهب المختلفة عن السائد تعتصم وتحتمي بها كذلك. ولهذا تقع معظم العواصم التاريخية لعُمان في أعالي الجبال أو المناطق التي يسهل حمايتها، مثل نزوى وبهلا والرستاق، وحتى مسقط القديمة مدينة بين جبلين ومحاطة بقلعتي الجلالي والميراني ويقابلها البحر من الجهة الأخرى.
هذه البيئة ذات التحصينات الطبيعية والموقع الاستراتيجي لم يكن أهلها مجرد قبائل بدوية تبحث عن الكلأ والمرعى كحال معظم العرب، بل كانت شبيهة باليمن (الذي أتت منه قبائل الأزد ومن رافقها بعد انهيار سد مأرب)، وتنظمت في صيغة قرى ومدن مستقرة محاطة بمناطق زراعية وتحصينات عسكرية، مما استدعى وجود دول ومؤسسات تحميها منذ فترة مبكرة. الاختلاف بين عُمان وشمال اليمن (المحصنة أيضا بالجبال) أن طرق التجارة التي تعتمد عليها اليمن كانت بشكل أساسي مع الشام مرورًا بالحجاز، وهو ما عُرف برحلة الشتاء والصيف.
لكن عُمان كانت أكثر اتصالًا في تجارتها مع مناطق غير عربية، مثل الهند وشرق إفريقيا وبلاد فارس، وقد يكون هذا العامل مشتركًا مع حضرموت ذات الطابع التجاري. ولكن تبقى عُمان مختلفة عن حضرموت بتجربتها الدينية السياسية، وخصوصًا في نظام الإمامة الإباضية التي عمقت النزعة الاستقلالية في التاريخ العُماني. ولحماية هذه التجربة الوحيدة من نوعها في العالم العربي، كان الهاجس الأمني يشغل الدول العُمانية المتعاقبة، ولذلك تكثر الحصون والقلاع بشكل لافت للنظر، وهي ظاهرة لا تزال مستمرة إلى اليوم بصور مختلفة، مثل تحصينات الجيش العسكرية في المدن ومراكز الشرطة الهائلة في معظم الولايات الرئيسية.
المنطق خلف ذلك أن عامل الحماية لا يتحقق إلا بتأسيس المدن وتسويرها وتحصينها، وهذا يستدعي أن يكون هناك تحول في نمط العيش، فلا يمكن للدولة السيطرة على ما هو خارج المدينة أو حمايته، ولذلك يمكن القول إن انتشار المدن والقرى ذات البيوت المتلاصقة والمطوقة بالأسوار وأبراج المراقبة هي سمة ظاهرة حتى في أصغر التجمعات السكانية في عُمان. وهذا يخلق شعورًا بالتفوق لدى أهل الحواضر على بقية أبناء شبه الجزيرة العربية من البدو الرحل، وكأنما التمدن يعني بالضرورة التقدم، والبداوة مرتبطة بالتخلف.
ما زال هذا الانطباع حاضرًا في المخيلة العُمانية، ولذلك هنالك حالة نوستالجيا أو حنين عُماني دائم للماضي القديم حتى الآن، بينما في دول الخليج الأخرى الرؤى المستقبلية والمشاريع الحديثة هي ما يشغل الناس. وهذه مفارقة ملفتة للنظر بين عُمان ودول الجوار، وتتجلى في نمط العمران واتجاه مدن الخليج لناطحات السحاب الزجاجية في انبهار واضح بالحداثة، بينما ظلت عُمان محافظة على نمط العمارة التقليدية مع تحديثات بسيطة. وهنا تكون المسألة نسبية وليست مطلقة، فهي تتعلق بنظرتنا وعلاقتنا بالماضي والمستقبل في ذات الوقت.
لذلك ظلت الجغرافيا عبر التاريخ تدفع عُمان بعيدًا عن محيطها العربي، إما لتنغلق على نفسها أو تنطلق في رحاب المحيط الهندي عن طريق موانئ اقتصادية مزدهرة، مثل صحار وصلالة وصور ومرباط وقلهات، وهذه المدن لم تكن تصدر وتستورد السلع والمنتجات فقط، وإنما الأفكار والثقافات والمعتقدات الدينية والحكايات والأساطير، وحتى الإيقاعات الموسيقية.
عُمان مفارقة محيرة ظلت تعيش صراع الانفتاح والمحافظة، حتميات الجغرافيا وفرص التجارة، لتخلق وطنًا متنوعا يعيش حالة من التدافع بين الدخيل والأصيل، القديم والحديث، لينتج عن كل ذلك مجتمعا مترددًا وحذرًا لم يحدد وجهته إلى الآن. وهو ما انعكس على مواقف الدولة الرسمية الحذرة، بل وأدعي أنه أصبح متجذرًا في الشخصية العُمانية من حيث الميل للحذر وعدم اتخاذ مواقف حادة ومحاولة كسب مختلف الأطراف، وهي من صفات الشعوب المنشغلة بالتجارة والمتعددة في تركيبتها، مما يدفعها للحفاظ على التوازنات بين مختلف القوى.
لا يمكن تجاهل دور الجغرافيا والتضاريس والمناخ في تشكيل سلوك الأفراد والجماعات والقرارات التي تتخذها الحكومات. فتوفر المياه والأراضي الخصبة والجو المعتدل هو ما جعل الإنسان القديم يستقر على ضفاف الأنهار في النيل والسند ودجلة والفرات، وفي نفس الوقت كون هذه المناطق سهلية جعلها عرضة للغزاة وعمليات الاحتلال.
على الجانب الآخر طبيعة بلدان فارس والأناضول المحصنة بجبال زاغروس هو ما مكنها من أن تصبح أوطانًا حاضنة لكثير من الإمبراطوريات عبر التاريخ. وهذا يشمل حضارات الإغريق والروم الواقعة على البحر المتوسط المعروف باعتدال مناخه وهدوء مياهه، مما سهل تأسيس دول مستقرة تقوم على التجارة والزراعة والتبادل الثقافي. والجو البارد المتطرف في شمال أوروبا وجبال الألب في الشتاء أدت لغرس ثقافة التخطيط الاقتصادي والإدارة الجيدة للموارد لدى تلك الشعوب، بحيث تزرع في أوقات اعتدال الجو وتخطط لتأمين احتياجاتها في الشتاء وتخزين الأطعمة لفترة طويلة.
في المقابل، تركن الشعوب التي تعيش في مناطق الاستواء والغابات المطيرة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا إلى منطقة الراحة لتوفر الغذاء طوال السنة ودون حاجة للزراعة أساسا، فالغذاء متوفر إما عن طريق الصيد أو القطف، مما يضعف القدرة التنظيمية لدى تلك الجماعات في إدارة الموارد والتخطيط لها. هذه النظرة التحليلية تطرق لها كثير من علماء الأنثروبولوجيا والمؤرخين وعلماء الاجتماع والاقتصاد، ولكنها في نفس الوقت لا تخلو من نظرة استعلائية غربية تحاول تفسير التاريخ من زاوية محدودة، تتعلق بالجغرافيا والمناخ والظروف البيئية التي تعيش فيها المجتمعات.
رغم كل ما يصاحب هذه الفرضيات من انتقادات، يمكن الاستفادة من بعض أدواتها ومحدداتها لفهم وتحليل الحالة العُمانية، دون تجاهل أو إغفال تأثير العناصر الدينية والتاريخية والسياسية التي سنتطرق لها لاحقا في هذا المقال.
عودةً لعُمان، فهي دولة بيئتها صعبة وإنسانها عركته الحياة، من شح المياه والجبال الحجرية الوعرة والمحيط الذي لا يلبث أن يأتي غاضبًا بأعاصيره وفيضانته، إلى الصحراء الجافة ذات العواصف الرملية. ولكل هذه الأسباب أتقن الإنسان العُماني فن الحياة، لينظم نفسه في قرى ومدن متماسكة يغلب عليها الطابع الأمني والتحصينات، ولذلك لا تخلو مدينة أو قرية من قلاع وحصون أو آثار لها على الأقل. ويبرز إبداع العُماني في تنظيمه لنظام الري من خلال الأفلاج التي توزع المياه بشكل دقيق، وتصل للقرى والمزارع والأرياف وتغطي معظم الاحتياجات البشرية. ولصعوبة الظروف المعيشية في الداخل، كان الحل في استغلال الموقع الاستراتيجي والانفتاح على العالم الخارجي والبحث عن الفرص في الخارج، لتصبح عُمان الدولة التي تلعب دور الوسيط البحري التجاري والجسر الثقافي بين منطقة المحيط الهندي والعالم العربي.
العلاقات التجارية الخارجية وأثرها على الداخل
التوتر الذي كانت تعيشه عُمان مع محيطها العربي نتيجة تمسكها بسيادتها واستقلاليتها عبر التاريخ دفعها لتعويض ذلك من خلال التواصل والانفتاح على العالم الخارجي عن طريق التجارة. وكون العُمانيون يميلون للحياة الحضرية والجمع بين الأنشطة الزراعية والحرف والمهن والصناعات التي تزدهر في المدن، فهذا أدى بدوره لانتعاش التجارة مع العالم الخارجي وصولًا إلى الصين شرقًا منذ القرن الثامن الميلادي مع أبو عبيدة عبد الله بن القاسم (ربما تكون المرة الأولى من نوعها عربيًا)، وكذلك أمريكا غربًا منذ 1840 بقيادة الشيخ أحمد بن النعمان الكعبي الذي أرسله السيد سعيد بن سلطان، وبهذا تكون ثاني دولة عربية لها علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد مملكة المغرب.
لا حاجة لذكر العلاقات مع الهند وشرق إفريقيا وبلاد فارس، والتي لم تتوقف منذ ما قبل الإسلام. وصحيح أن عُمان في القرنين الأخيرين اشتركت مع بقية دول الخليج في التأثر بالنفوذ البريطاني، فإنها كانت لها صلات عميقة كذلك بفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا، خصوصا في الجزء الإفريقي من الدولة العُمانية في زنجبار، وهذا أتاح الفرصة للعُمانيين لأن يتعرفوا إلى الثقافات والشعوب الأوروبية المتعددة منذ فترة مبكرة، ونقل إلى زنجبار الكثير من التقنيات والاختراعات الحديثة مثل الطابعة والكهرباء والآلات المتطورة بمقاييس وقتها.
هذا ما يجعل عُمان مختلفة عن كثير من مناطق شبه الجزيرة العربية، إذ أن صلاتها مع الحضارات البعيدة عنها قد تكون أكثر استمرارية، في مقابل عزلة شبه تامة عن العالم العربي، إلى أن ظهرت الدول الحديثة في منتصف القرن الماضي وبدأ العُمانيون يهاجرون لها بأعداد كبيرة بحثًا عن العمل وفرص الحياة، وهذا كسر كل الحواجز بين الشعوب وخلق تواصلًا عميقًا وذاكرة مشتركة، خصوصًا أنه لم يكن لأفراد أو قلة من التجار، وإنما أعداد وجماعات من مختلف المكونات. ما ميز تلك المرحلة في منتصف القرن الماضي أنها كانت متزامنة مع صعود القومية العربية، وهو ما أسهم أكثر في كسر هذه العزلة.
نعم، لا تزال القبائل العربية تشكل أغلبية من حيث العدد والثقافة السائدة، ولكن هنالك مزيج من الثقافات السواحيلية والبلوشية واللواتية والكمزارية، مع ثقافة ظفارية عربية لكنها تتميز بلغاتها النادرة في جنوب عُمان مثل الشحرية (الجبالية) والمهرية. هذه اللغات الأخيرة بالتحديد أسهمت الجغرافيا كذلك في حمايتها من الذوبان والتلاشي، وذلك لأنها تنتشر في جبال وصحاري ظفار، وهي كذلك تعاني من عزلة جغرافية أسهمت في حماية خصوصيتها الثقافية واللغوية.
لا يتحقق فهم واقع اليوم إلا بتحليل السياقات التاريخية والجغرافية والثقافية. ومن هنا يمكن القول إن الظروف التي مرت بها عُمان من عزلة جغرافية، واستقلالية سياسية، وتواصل تجاري وثقافي مع الحضارات الأخرى، أدى لتشكل حالة من الاستثناء العُماني، وهذا ما يمكن تسميته بالخصوصية التي تفسر الاختلاف بين عُمان وبقية دول الخليج والعالم العربي.
علوي المشهور