كيف ستتعامل أمريكا مع السباق النووي الجديد؟
وقّعت الولايات المتحدة أول معاهدة أسلحة مع الاتحاد السوفييتي في عام 1972. ومنذئذ، دائمًا ما كان هناك ترقب أنه ما إذا أخفق خصمها في موسكو في الالتزام بشروط المعاهدة، فإن الولايات المتحدة عليها حفظ قدرتها على توسيع الردع النووي الأمريكي.
يحذر بيتر هويسي، رئيس مركز التحليل الجيو استراتيجي في بوتوماك بميريلاند، في مقاله المنشور بمجلة ناشيونال إنترست، من تلاشى قدرة واشنطن على الحيلولة دون انهيار المعاهدات الداعمة لخفض أسلحة روسيا والدول الأخرى.
محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية
رغم الزيادة الضخمة المسموحة من الصواريخ متعددة الرؤوس ذات القواعد الأرضية، فإن المسؤولين الأمريكيين وصفوا اتفاق محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية، بالانسجام مع الحقبة الجديدة من الانفراج الدولي والتعايش السلمي.
يضيف هويسي أن معاهدة محادثات الحد من الأسلحة الاستراتيجية الثانية تابعت على هذا، غير أنها وضعت حدًا متواضعًا لمركبات التسليم النووي الاستراتيجي عند 2250، لكنها سمحت بزيادة في منظومات الصواريخ الاستراتيجية أو طويلة المدى إلى ما يقرب من 1200 رأس حربي. ويوضح أنه في نفس الوقت لم توضع الذخيرة المرافقة ذات القدرة الأقل والمدى الأقصر أو الأسلحة النووية الميدانية تحت أي قيود، نظرًا للصعوبات الشديدة في التحديد الدقيق لمواقع تلك الذخائر وعددها.
ولذلك، وكما يفسر هويسي، قدر كاسبار واينبرغر وزير الدفاع اﻷمريكي في ذروة الحرب الباردة كل الأسلحة النووية السوفييتية عند نحو 35 ألفًا، ومع تفكك الإمبراطورية السوفييتية، كشفت الأرشيفات في موسكو ومسؤولون روس عن حقيقة أن الرقم الحقيقي كان يناهز 45 ألفًا.
معاهدات الحد من الأسلحة الاستراتيجية 1993/1991
يشير المقال إلى أنه كان من الملحوظ أن مسار معاهدتي الحد من الأسلحة الاستراتيجية الأولى والثانية (ستارت 1، ستارت 2) قد خفض عدد الرؤوس الحربية النووية الاستراتيجية في الاتفاقيتين اللتين أبرمتا في 1991 و1993.
وعليه أصبحت مسألة «الاختراق»، المصطلح الذي يطلق على الوصول إلى القدرة النووية، أكثر جدية. ويضيف أن إدارة ريغان وضعت في كثير من التوجيهات للأمن القومي، الإطار لعملية خفض الأسلحة الاستراتيجية والمسار المرافق لتحديث الذخيرة النووية الأمريكية مبكرًا في 1981.
يقول هويسي إنه «بعد نهاية الإمبراطورية السوفييتية، دخلت الولايات المتحدة عطلة توريدات طويلة، والتي خلالها لم تستبدل أدواتها النووية أو تحدثها».
ويوضح أن الغواصة ترايدنت خرجت من الخدمة في 1992، وقاذفة القنابل بي 2 خرجت من الخدمة وتوقف عددها عند 20 طائرة فحسب في 1997 بقرار من الكونغرس، وصواريخ بيسكيبر ذات العشرة رؤوس وقاعدة الإطلاق الأرضية توقف عددها عند 50 صاروخًا، وخرجت من الخدمة الصواريخ الباليستية عابرة القارات المحمولة الصغيرة من طراز ميدجيتمان.
في نهاية الأمر، كان الرئيس الروسي آنذاك بوريس يلتسن والرئيس بوش الأب اتفقا على تخفيضات كبيرة في معاهدة ستارت 2 في يناير 1993.
وتحدث يلتسن في الأمم المتحدة مؤيدًا لتسريع خفض الأسلحة النووية في الولايات المتحدة وروسيا، ونشر منظومة دفاعية صاروخية عالمية بالتعاون مع الولايات المتحدة.
ولكن مجلس الدوما الروسي رفض معاهدة ستارت 2، وخسرت الولايات المتحدة فرصة تطبيق حظر المعاهدة على الصواريخ متعددة الرؤوس الثقيلة ذات القواعد الأرضية. وأضاف مجلس الدوما شرطًا للاتفاقية أن تبقى كل أعمال منظومات الصواريخ الدفاعية الأمريكية في المختبر، في ما يصفه هوسي بأنه حيلة جُربت طوال تاريخ الحرب الباردة، أولًا من السوفييت ثم الروس.
ويضيف أن الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف جرب الحيلة في عدد من القمم مع الرئيس رونالد ريغان، وحاولت القيادة الروسية التالية مرة بعد أخرى وقف الدفاعات الصاروخية الأمريكية، سواء المنظومات الصاروخية الدفاعية التي تحمي قارة الولايات المتحدة أو التي تحمي حلفاءها في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.
بريجنيف يدعو نيكسون لحظر الدفاعات الصاروخية
كان ليونيد بريجنيف رئيس الاتحاد السوفييتي وقتها هو الذي هاتف الرئيس المنتخب حديثا آنذاك ريتشارد نيكسون في 1968، واقترح ملحًا أنه ينبغي على البلدين حظر الدفاعات الصاروخية. السبب أن الزعيم السوفييتي كان مقتنعًا بأن الدفاعات الصاروخية «النحيلة» المقترحة من إدارة جونسون وقتها للتعامل مع الصين، كانت تنمو، ولكن الذخيرة النووية التي لا تزال الصغيرة كانت موجهة في الحقيقة ضد الردع النووي السوفييتي، ومن ثم يجب أن تختفي.
مع معاهدة موسكو لعام 2002، ومعاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية الجديدة لعام 2010، خفضت الصواريخ الأمريكية والروسية المنشورة من ستة آلاف إلى 2200 ثم 1550.
يذكر هويسي أنه «بالطبع استمرت هذه المحادثات، لتتوج بمعاهدة الصواريخ المضادة للباليستية التي منعت الولايات المتحدة فعليُا من نشر الدفاعات الصاروخية».
سمحت المعاهدة لكل طرف بنشر مئة صاروخ اعتراضي لحماية العواصم أو قاعدة نووية صاروخية. غير أنه بالنسبة للولايات المتحدة، لم يكن كلا الأمرين ممكنًا سياسيًا. فحماية واشنطن فقط وليس كل الأراضي الأمريكية لم يكن انطلاقة جيدة سياسيًا.
معاهدات حديثة
يقول هويسي إنه مع معاهدة موسكو لعام 2002، ومعاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية الجديدة لعام 2010 (ستارت الجديدة)، خفضت الصواريخ الأمريكية والروسية المنشورة من ستة آلاف (حد معاهد ستارت 1) إلى 2200 ثم 1550، ومركبات التسليم النووي الاستراتيجية خفضت إلى ما لا يتجاوز 700. ويساوي هذا خفض يقرب من 90% عن مستويات الذروة التي وصلت إليها الذخيرة النووية للبلدين في أواخر الثمانينيات.
والمفارقة، كما يصفها هويسي، أنه في عام 2002 تركت الولايات المتحدة معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية، ولا سيما في ضوء التهديدات الصاروخية من دول مثل كوريا الشمالية وإيران.
غير أن الكاتب يشير إلى أنه مع ذلك فقد استمرت موسكو في هاتين المعاهدتين مع واشنطن لخفض القوة النووية الاستراتيجية بما يناهز 75%.
ومع مستويات الرؤوس الحربية النووية الأقل كثيرا (مستويات لم نشهدها منذ الخمسينيات)، فإن «الاختراق» من قبل الروس يمكن أن يغير التوازن الاستراتيجي كثيرًا، بيد أن الروس لا يزال لديهم صواريخ ذات قواعد أرضية قادرة على حمل آلاف من الرؤوس الحربية الإضافية.
يلفت المقال النظر إلى أن كل رئيس أمريكي منذ نهاية الإمبراطورية السوفييتية قد شدد في أربع مراجعات متتابعة للوضع النووي، على أن الولايات المتحدة ينبغي أن تكون لديها قدرة دفاعية كافية وتامة، بما في ذلك بنية تحتية استجابية، لتكون قادرة على مجابهة أي اختراق مستقبلي للمعاهدة من قبل روسيا.
التهديد الصيني
يحذر هويسي من خطورة تحديات إضافية تواجهها الولايات المتحدة، أحدها من صنعها والآخر من صنع الصين.
فكما تلفت باتي جين جيلر محللة السياسات، فإن الأدميرال تشارلز ريتشارد قائد القيادة الاستراتيجية للولايات المتحدة، قال إن الجيش «يشهد اختراقًا استراتيجيًا من قبل الصين». وحذر أن الصين قادرة على التعامل «بأي مستوى من العنف، في أي نطاق، في أي موقع جغرافي، في أي وقت»، كما صرحت جين جيلر في تحليل نووي صادر عن مؤسسة هيريتيج.
أسلحة الصين النووية المستقبلية يمكن أن تصل إلى 400% من الأسلحة النووية الأمريكية المتأهبة اليوم.
ويستطرد قائلا: «هذه القاذفات الباليستية الجديدة العابرة للقارات مصممة لحمل صواريخ من طراز DF-41، والذي يحمل 10 رؤوس حربية. وفي حال جمعها معًا، فإن السعي الصيني الحثيث نحو التفوق النووي ربما يتحقق، فما يُحتمل أنه يصل إلى أربعة آلاف رأس حربي يساوي 266% من إجمالي الرؤوس الحربية المنشورة حاليًا في الذخيرة النووية للولايات المتحدة».
ويضيف أن «الأكثر إثارة للقلق، هو أن أسلحة الصين النووية المستقبلية يمكن أن تصل إلى 400% من الأسلحة النووية الأمريكية المتأهبة اليوم».
تحدٍ من صنع الولايات المتحدة
يتابع هويسي أن التحدي الثاني الذي تواجهه الولايات المتحدة هو من صنعها. ويقول إنه كما توضح جين جيلر، فإن «إدارة بايدن ورد أنها تنظر في تأخير خطة البنتاغون لتحديث قدرات الولايات المتحدة من حقبة الحرب الباردة. وهناك ما هو أسوأ، فقبل أيام قليلة فقط، أرسل آدم سميث رئيس لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ خطابًا يطلب فيه من بايدن خفض الأسلحة النووية الأمريكية».
يشير هويسي إلى أن سميث يريد من الإدارة الأمريكية التخلي عن كل الصواريخ ذات القواعد الأرضية، خاصة صواريخ الردع الاستراتيجي الجديدة المعروفة باسم GBSD. ويوضح أن المقترحات السابقة لفعل ذلك فشلت بعدد أصوات 13 مقابل 42 في لجنته، وفي مجلس الشيوخ 166 مقابل 266.
وبالرغم من هذه الأصوات (في المجلس تحت سيطرة الديمقراطيين)، فإن الإدارة قد رضخت للضغط الذي مارسه السيناتور إليزابيث وارن والسيناتور جيف ماركلي، لتدرس مرة أخرى ما إذا كانت هناك حاجة إلى صواريخ الردع الاستراتيجي الجديدة GBSD، وما إذا كان يمكن أن يكون هناك بديل استراتيجي متاح أقل تكلفة من تمديد عمر صاروخ مينوتمان 3، أو ربما التخلي عن الصواريخ الباليستية عابرة القارات كلية.
في الحالتين، فإن تكلفة تمديد عمر صاروخ مينوتمان ورد أنها تصل إلى نحو 38 مليار دولار، أكثر من البديل صواريخ الردع الاستراتيجي الجديدة، ولا سيما بالنظر إلى نقص بائعي تكنولوجيا أواخر الستينيات للصاروخ مينوتمان. ويشير هويسي إلى معارضة الجنرال تشارلز براون رئيس أركان القوات الجوية ذلك، ودعوته للمضي قدمًا في برنامج صواريخ الردع الاستراتيجي الجديدة دون إبطاء.
يذكر هويسي أن هناك أكثر من 10 دراسات على الأقل قد خلصت إلى أن الطريق السليم هو المضي في صواريخ الردع الاستراتيجي الجديدة، موضحًا أنها أرخص، وأكثر قابلية للتطبيق كثيرًا من الناحية التقنية، وتقابل متطلبات الردع لدى القيادة الاستراتيجية، التي لن يفي بها مينوتمان.
خيار حرج يواجه الولايات المتحدة
يرى هويسي أن هناك تحديًا استراتيجيًا كبيرًا أما الولايات المتحدة، وهو حائط الصد. فيقول إن سميث أقر أن صواريخ الردع الاستراتيجي الجديدة أرخص بـ38 مليار دولار. ويتساءل: لماذا إذًا من الضروري المضي في برنامج صواريخ GBSD الباليستية عابرة القارات ذي التكلفة القياسية؟ فكما اقترحت كثير من مجموعات نزع السلاح، فإن الولايات المتحدة يمكنها الاحتفاظ بالغواصات والقاذفات فحسب.
ويوضح أن الافتراض هو أنها إذا فعلت ذلك، فإن رؤوس مينوتمان يمكن أن تضاف إلى الغواصات، لو كان ذلك ضروريًا. ولكن هذا يكون بافتراض أن الرؤوس الحربية طراز D-5 متاحة في مخزون الولايات المتحدة.
غير أن قدرة الولايات المتحدة على الصد ستتلاشى إذا أزيلت الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، فقد أعيد تصميم الصاروخ D-5/2، لكنه يحمل ما لا يزيد عن ثمانية رؤوس حربية للصاروخ الواحد. هذا يعني أن إجمالي قدرة الغواصات الأمريكية تصل إلى نشر 1535 صاروخًا، بينما تبني البحرية الأمريكية غواصة طراز كولومبيا جديدة، والتي يمكنها حمل 16 صاروخًا.
يوضح هويسي أن إجمالي الـ1536 صاروخًا هذا أكثر بقليل فحسب من الـ1490 صاروخًا التي نشرتها الولايات المتحدة بموجب معاهدة ستارت الجديدة، ومع هذا فهو أقل بآلاف مما يمكن لروسيا نشره إذا خرجت من معاهدة ستارت الجديدة. ويخلص هويسي إلى أن «العدوان النوويان لأمريكا سيكون معهما مجتمعان نحو 600% أكثر من الولايات المتحدة. وإذا ما قورن هذا برقم الأسلحة النووية التي في حالة التأهب على أساس يومي، فإن اختلال التوازن يصل إلى 1000%».
يشكك هويسي في أنه يمكن للولايات المتحدة أن تثق في التزام الروس بمعاهدة ستارت الجديدة، أو أن يتخلى الصينيون فجأة عن سعيهم الحثيث للتفوق النووي، ويقول إن هذا هو الخيار الحرج الذي تواجهه الولايات المتحدة الآن.
محمود رشاد