«نيوم» وأخواتها: هل ينجح نموذج «تسليع المدن» في الخليج؟
كتب هذا المقال سالم سيف، ونُشِر على موقع «Jacobinmag»، وترجمه لـ«منشور» أحمد حمدي مسلم.
«ستكون أول مدينة رأسمالية في العالم، ستُطرح نيوم في الأسواق كما لو أنك تَطرح مدينة نيويورك في الأسواق».
بهذه الكلمات وصف ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، مشروع مدينة «نيوم» العملاق، الذي سُيبنى على مساحة 30 ألف كيلومتر مربع في الصحراء الممتدة بين مصر والأردن، بتكلفة تصل إلى 500 مليار دولار. ومن المخطط للمدينة أن تعمل بالطاقة الشمسية المتجددة، وتعتمد على السيارات ذاتية القيادة والروبوتات المتكلمة لأداء كثير من أعمالها.
أتى تصريح ولي العهد خلال «مبادرة مستقبل الاستثمار»، وهو اجتماع عُقد في الرياض وأُطلق عليه «دافوس في الصحراء»، لأنه جمع أكثر من ثلاثة آلاف من كبار رجال الأعمال في العالم، بلغت قيمة الثروات التي يتحكمون فيها نحو 20 تريليون دولار. وكان من ضمنهم وزير الخزانة الأمريكي «ستيفن منشين»، وسَلَفه «لاري سامرز»، بالإضافة إلى رئيسة صندوق النقد الدولي «كريستين لاغارد».
ويعتبر نيوم واحد فقط من المشاريع الملفتة التي أُعلن عنها كجزء من «رؤية السعودية 2030». تهدف هذه الرؤية، التي تصممها وتنفذها جزئيًّا شركتا «ماكينزي» و«BCG» لاستشارات الأعمال، إلى تقليل اعتماد المملكة العربية السعودية على النفط، وتحويلها إلى مركز جذب سياحي وتجاري ولوجستي. ومن المشروعات الأخرى التي سُلط عليها الضوء ضمن الرؤية، منتجع فاخر تبلغ مساحته 50 ألف كيلومتر مربع على البحر الأحمر، بالإضافة إلى خصخصة شركة «أرامكو»، أكبر منتج للنفط في العالم، والممول الرئيسي للحكومة السعودية ومعظم الأنشطة في المملكة.
فرصة نجاح نيوم ضئيلة، وإن كانت ليست مستحيلة كليًّا. فأغلب الشركات في الخليج تفتقر إلى الابتكار في عملية الإنتاج، إذ لا زالت كل شركات المنطقة عاجزة عن إنتاج سيارة بمفردها، ناهيك ببناء وتشغيل مدينة ترتكز إلى الروبوتات والمركبات ذاتية القيادة. وبالتالي، ستحتاج المملكة إلى استيراد كل التكنولوجيا الضرورية لتحويل نيوم إلى واقع، وهو أمر مكلف من شأنه اقتطاع جزء كبير من عوائد صادرات النفط إلى البلاد، في مقابل مخاطرة عالية ذات منفعة غير واضحة المعالم. وهذا بطبيعة الحال يطرح تساؤلًا عما إذا كانت هذه هي الاستراتيجية المثلى لحكومة يُفترض أنها تعمل على تقليل اعتمادها على الواردات وعوائد النفط.
رغم ضآلة فرص نجاحها، جذبت فكرة نيوم، كمدينة رأسمالية بالكامل تستخدم أحدث التقنيات، انتباه كثير من حضور المؤتمر. فقد أبدى «ريتشارد برانسون»، مؤسس مجموعة «فيرجن»، انبهاره بمشروعات المملكة، وتبع ذلك التصريح إعلانه أن السعودية استثمرت مليار دولار في شركته.
مدن الحداثة النفطية
هناك تاريخ طويل من بناء المدن الضخمة في الخليج، وقد يكون أولها «الكومباوندات» التي بنتها شركات النفط الأمريكية والبريطانية لإيواء قوتها العاملة الوافدة، في مجتمعات مغلقة بعيدًا عن السكان المحليين. لكن مع تدفق أموال النفط إلى خزائن الدولة، شرعت حكومات الخليج أيضًا في بناء مشروعات مدن ضخمة طموحة.
في البداية، كانت معظم عائدات النفط تذهب كمخصصات إلى الحاكم وأسرته. وقد يكون أكثر مثال تطرفًا لذلك ميزانية قطر لعام 1949، حين خُصص للحاكم 84% من نفقات الدولة، بينما كان على الباقي أن يغطي المصروفات العامة، وبالتالي ذهب 0.3% فقط لمصروفات الصحة.
كان الشيخ عبد الله السالم، أمير الكويت من 1950 إلى 1965، أول من غير هذه المعادلة. فبدلًا من منح معظم عائدات النفط لأفراد الأسرة، وزع جزء كبير منها على المواطنين عبر الأجور، ووفر خدمات اجتماعية شاملة ومجانية مثل التعليم والصحة. بالإضافة إلى ذلك، بدأت حكومات الخليج بإنفاق المليارات على بناء مدن حديثة باستطاعتها استيعاب ملايين البشر، وحلَّت هذه المراكز الحضرية الجديدة محل المدن التاريخية، التي كان أكبرها بالكاد يسع 50 ألف نسمة.
أطلقت الكويت خطتها التنموية في أوائل خمسينيات القرن العشرين، فهُدمت المدينة التاريخية بأكملها، وفي مكانها وضع مستشارو التخطيط البريطانيون «مينوبريو» و«سبنسلي» تصميمًا لمدينة جديدة، ستصبح واحدة من الأمثلة الأكثر شهرةً للمدن المبنية على نمط الحداثة العالية، ليس فقط في الخليج، بل في العالم ككل.
تتميز «مدن الحداثة العالية» هذه بأن نموها لم يكن عضويًّا، بل كان مرسومًا ومخططًا له بالكامل من مهندسين معماريين. ففي أعقاب الحرب العالمية الثانية، لجأت الحكومات في جميع أنحاء العالم إلى المخططين والمهندسين والتقنيين لحل المشاكل الاجتماعية والتنموية التي تواجه سكانها، معتقدين أن «العلم» و«التكنوقراطيين» بإمكانهم تصميم المجتمع ككل وإدارته بشكل أفضل. وامتد «حكم الخبراء» هذا ليشمل جميع جوانب الحياة، من الاقتصاد إلى المدرسة إلى المنزل، وبالتأكيد كان من أهمها تصميم وإدارة المدينة.
سرعان ما اتبعت دول الخليج الأخرى نموذج الكويت. ففي الستينيات، صمم المهندس المعماري المصري عبد الرحمن حسين مخلوف المخطط الهيكلي لمدن جدة والمدينة المنورة ومكة المكرمة في السعودية، وتبع ذلك بتصميم المخطط الهيكلي للعاصمة الإماراتية أبو ظبي. في المقابل، وضع المهندس المعماري اليوناني الشهير «كونستانتينوس أبوستولو دوكسياديس»، مصمم مدينة إسلام آباد في باكستان، المخطط الرئيسي للرياض عام 1969. اختلفت هذه المدن في تفاصيلها، لكنها تشابهت جميعًا في الاعتماد على مبادئ «الحداثة العالية» ذات التصميم المركزي.
مدن الخليج خير تجسيد لمبدأ «مدن الحداثة النفطية»، فهي تعتمد اعتمادًا شبه كلي على تكنولوجيا «الحداثة» لتلبية حتى أبسط احتياجاتها.
على أرض الواقع، بُني هذا التوسع المديني على نمط استهلاك عالي «فوردي» مشابه لذلك في مدن الحزام الشمسي في الولايات المتحدة الأمريكية، مثل هيوستن ولوس أنجلوس. وكانت الوحدة الرئيسية التي بُنيت حولها هذه المدن بيوت الضواحي «الفيلات»، بينما أصبحت السيارة الوسيلة الرئيسية للتنقل.
ساعدت برامج الإسكان الحكومية الأسر على بناء مساكن خاصة كبيرة، وبلغ معدل حجم المنزل في الكويت سبعة أضعاف حجمه في أمريكا، فيما أصبحت نسبة امتلاك السيارات في كل أسرة هي الأعلى على مستوى العالم.
أتاحت «الحرية» في التنقل، التي وفرتها السيارات ذات الملك الخاص، للمواطنين أن يقطعوا في بضع دقائق مسافات كان من شأنها أن تستغرق عدة أيام سيرًا على الأقدام. وهكذا، توسعت المدنية أفقيًّا بناء على مبدأ «الفيلات والسيارات»، فهُمِّشت المواصلات العامة إلى حد أقرب إلى الاندثار، وطغت الطرق السريعة ومواقف السيارات والفيلات وناطحات السحاب حتى سيطرت على المشهد العمراني، الأمر الذي خلق مستويات عالية من الاستهلاك، ضَمِن تدوير أموال النفط في الاقتصاد المحلي.
بناء على ذلك، غدت مدن الخليج أعلى مستهلِك للفرد في العالم من ناحية المياه والكهرباء والبنزين، وحتى مستحضرات التجميل، فتضاعف استهلاك الكويت الكلي للمياه 12 ألف مرة في الفترة بين عامي 1939 و1985، وبلغ نصيب الفرد من استهلاك الماء أكثر من ثلاثة أضعاف ما كان عليه في بريطانيا.
أضحت مدن الخليج خير تجسيد لمبدأ «مدن الحداثة النفطية». فهي مدن تعتمد اعتمادًا شبه كلي على تكنولوجيا «الحداثة» لتلبية حتى أبسط احتياجاتها، بما فيها المياه والغذاء والطاقة والتنقل، حيث استقطبت هذه المدن تكنوقراطيين وخبراء من جميع أنحاء العالم، من أجل الحصول على أحدث التكنولوجيا المتوفرة في القرن العشرين، وبُنيت عشرات من محطات تحلية المياه وتوليد الكهرباء، فضلًا عن المواني والمطارات لتزويد هذه المدن بمستلزماتها.
اعتمدت هذه الحداثة بشكل حاسم على النفط باعتباره أهم عنصر مكون فيها. فإيرادات تصدير النفط هي التي مولت التكنولوجيا والواردات لمدن الخليج، ووفرت صناعة النفط ومشتقاتها أولى الوظائف الصناعية لعديد من المواطنين.
إلا أن التجلي الأكبر لأهمية النفط كان الدور الذي لعبه كـ«وقود مجازي وفعلي» للحياة اليومية في هذه المدن، شاملًا من أقصى ضرورياتها إلى أفخم رفاهيتها. فاستهلاك النفط (والغاز) هو ما شغل محطات الكهرباء ومرافق تحلية المياه، ووفر الطاقة لتكييف الهواء، بالإضافة إلى وقود السيارات، والأسفلت للطرق، ومبيدات الحشرات في الإنتاج الزراعي.
بالتالي، فإن وفرة النفط عنت وفرة المياه والغذاء والطاقة، بعدما كانت المنطقة تعاني سابقًا من شحها. وبذلك، بدا وكأنه بإمكان النفط أن يروِّض الطبيعة، وأصبحت مدن الخليج تعتمد بشكل شبه كلي على إنتاجه وتصديره واستهلاكه، حتى في أدق تفاصيلها. وبذلك، تسرب النفط إلى جميع الأنشطة فيها بشكل استثنائي على مستوى العالم، كأنه الدم الذي يغذي عروق حياتها.
المدن العالمية
وصلت هذه المرحلة الأولى من التوسع العمراني ذروتها خلال الطفرة النفطية في السبعينيات. ومنذ تلك الفترة، بات الإنشاء في دول الخليج يعتمد على ملايين العمال المهاجرين، غالبيتهم من شبه القارة الهندية، قدموا إلى الخليج مدفوعين بندرة الوظائف في بلادهم، والوعد بالحصول على رواتب أعلى نسبيًّا في دول مجلس التعاون.
في نسختها الأولى، هدفت مدن الحداثة النفطية في الخليج إلى توفير السكن ودولة الرفاه للمواطنين، بالإضافة إلى تزويد الشركات المحلية بالفرص الاقتصادية لجني الأرباح عبر تشييد المشاريع والبنية التحتية. بناء على ذلك، بنت دول الخليج المنازل والمدارس والمستشفيات والمطارات والمواني والجامعات على نطاق واسع، إلا أن تراجع أسعار النفط خلال الثمانينيات والتسعينيات أدى إلى توقف هذه الطفرة الإنشائية الأولى.
غير أنه ما لبث أن برزت طفرة نفطية جديدة في مطلع الألفية الثالثة، محققةً عوائد لدول الخليج بلغت أكثر من 2 تريليون دولار بين عامي 2000 و2015، وأصبح الوضع مواتيًا لطفرة إنشائية أخرى.
لكن النمط القديم من مدينة الرفاه الإسكانية لم يعد مغريًا، لا للدولة ولا للقطاع الخاص. فبدلًا من التركيز على توفير المشاريع السكنية والبنية التحتية الاجتماعية للمواطنين، اتجهت الكثير من دول الخليج نحو بناء «مدن عالمية» موجهة أساسًا نحو المستثمر الدولي، فأصدرت قوانين تسمح للمستثمرين من أي مكان في العالم بشراء العقارات مقابل إقامة طويلة الأجل.
بذلك، أسست دول الخليج رؤاها التنموية حول بناء هذه المدن الدولية الموجهة إلى المستثمرين والمستهلكين الأغنياء في جميع أنحاء العالم.
في ذروة هذا النشاط عام 2008، كانت 57% من قيمة جميع المشاريع المعلنة في دول الخليج (1.2 تريليون دولار من أصل 2.1 تريليون دولار) موجهة إلى هذه المشروعات العقارية الدولية العملاقة. وكان أكبر 10 مشاريع في المنطقة (بلغت قيمتها 393 مليار دولار) كلها من نفس صنف هذه المدن العالمية العملاقة.
خطط إبراز «سمعة» الخليج دوليًّا شملت مشاريع ثقافية مثل متحف اللوفر في أبو ظبي، ورياضية مثل استضافة كأس العالم في قطر عام 2022.
ضمت مشاريع البنية التحتية اللازمة لتفعيل هذه الخطط مشروعات طاقة بلغت تكلفتها 134 مليار دولار، بالإضافة إلى مشروعات مياه وصرف الصحي تكلفت 40 مليار دولار أخرى. وقد وصل حجم هذه المشاريع الإنشائية إلى أنها استحوذت على ثلث إجمالي تمويل المشاريع في كل العالم عام 2006.
دبي كانت التجسيد الأكبر لهذه الظاهرة، إذ شيدت مئات الآلاف من الوحدات السكنية الجديدة المخصصة للمبيعات الدولية. وتشير التقديرات المتحفظة إلى أنه في عام 2008، كانت هناك خطط لبناء أكثر من 1.3 مليون وحدة سكنية مخصصة للمشترين الدوليين في الإمارات العربية المتحدة والبحرين وقطر وعمان فقط، تسمح باستيعاب ما لا يقل عن 4.3 مليون شخص. وبذلك، فإن هذه المشاريع كانت تَعِد بإيواء سكان يتعدون إجمالي عدد مواطني هذه الدول مجتمعة.
صاحبت هذه المدن العقارية الدولية خطط إنشائية رنانة أخرى، تهدف إلى إبراز «سمعة» الخليج دوليًّا وتثبيتها على الخارطة العالمية. شملت مشاريع ثقافية كإنشاء متحف اللوفر في أبو ظبي، ومشاريع رياضية مثل استضافة كأس العالم في قطر عام 2022.
كان الوعد بأن هذه المشاريع الإنشائية الضخمة ستجعل دول الخليج «مراكز مالية وتجارية» ذات صيت عالمي على خطى دبي. وقد عكس تشابه اللغة والأفكار والخطط بين دول الخليج اعتمادها على شركات استشارات غربية جُلبت لرسم الخطط الاقتصادية لها، وبدورها أعادت تلك الشركات تدوير أفكار وخطط مماثلة في جميع دول الخليج.
حتى كل هذه المشاريع الإنشائية لم تكن كافية، فبدأ رأس المال الخليجي في التوسع خارج حدود دول مجلس التعاون، وموَّل مشروعات عقارية ضخمة على نفس النمط في جميع أنحاء المنطقة العربية، بما في ذلك بناء عاصمة جديدة في مصر، ومدينة الطاقة في ليبيا، ومشاريع إنشائية كبرى أخرى في لبنان والأردن وفلسطين، وحتى الهند.
«نيوم» آخر مثال لهذه المشاريع العقارية الضخمة، التي تَعِد بأن تكون أول مدينة رأسمالية، ومن المفترض أن تصممها بالكامل وتؤسسها شركة قابضة، ثم تُطرح للبيع في أسواق الأسهم. وبذلك، سيتمكن المستثمرون من شراء أسهم فيها، تمامًا كما في أي شركة مدرَجة أخرى.
«تسليع» المدينة
في العادة، تستخدم الشركة المالية صاحبة المشروع العقاري علاقاتها بشخصيات سياسية أو من الأسرة الحاكمة للحصول على أراضٍ غير مبنية بأسعار رخيصة.
كُتب الكثير عن ظاهرة «تسليع المدينة»، وهي تلك العملية التي يصبح عبرها الفضاء المديني بأكمله سلعة قابلة للبيع، ويكون الغرض الأساسي منه تحقيق الربح بشكل منهجي، ويتحول السكان في المدينة إلى مجرد إضافات ومكملات في هذا العرض العمراني الكبير.
لكن مشاريع مثل «نيوم» تأخذ عملية التسليع إلى أقصى مداها نحو «أَمْوَلة» المدينة (Financialization of the city)، حين تخطط مؤسسة مالية تصميم المدينة بأكملها منذ نقطة الصفر حتى النهاية كمشروع خاص نحو هدف وحيد وواضح: تحقيق الأرباح.
هذه المدن «المخصخصة» بالكامل أصبحت سمة رئيسية في المشروعات العقارية العالمية التي برزت في الخليج في الألفية الجديدة. وعادةً ما تتبع هذه المشاريع العقارية ما أُطلق عليه «نموذج GFH»، تيمنًا باسم البنك الذي كان رائدًا في هذه العملية في العقد الماضي في الخليج.
بموجب هذا النموذج، تستخدم الشركة المالية صاحبة المشروع علاقاتها بشخصيات سياسية مؤثرة، يكونون عادةً أعضاء في الأسرة الحاكمة، للحصول على أراضٍ غير مبنية بأسعار رخيصة. في المقابل، تتعهد الشركة المالية بجلب المستثمرين الذين سيمولون بناء المشروع، وتأسيس شركة منبثقة (Spin off company) تعمل «كمطور عقاري»، وتتكفل بتنفيذ المشروع وإدارته منذ بدايته حتى نهايته.
استنادًا إلى هذا النموذج، خُطِّطت عشرات المدن الضخمة الخاصة في جميع أنحاء الخليج خلال القرن الواحد العشرين، وسُوِّق لكلٍّ منها بناء على «فكرة» ومفهوم جديد، فتارةً تكون «مدينة إعلامية»، أو «منتجعًا سياحيًّا فخمًا»، أو «مرفأ ماليًّا».
لم تكن هذه المفاهيم المبتدعة الهم الرئيسي في كثير من الأحيان، بل كان يمكن لها أن تتغير بين عشية وضحاها اعتمادًا على إملاءات الربح. ففي عام 2012 كمثال، ظهر خبر صغير في الصحف يقول إن بنك «GFH» أعاد تصميم أحد مشروعاته في المغرب، ليتحول من فيلات فاخرة إلى بيوت موجهة لذوي الدخل المحدود، نظرًا «لظروف السوق المتغيرة».
مشروعات مثل مركز الملك عبد الله المالي في الرياض، و«Waterfront» في دبي، والمدينة الزرقاء في عمان، تعثرت بسبب الأزمة الاقتصادية.
هكذا، بينما كانت مدن الحداثة النفطية في حُلتها الأولى موجهة لتوفير السكن والخدمات الاجتماعية والرفاه لمواطني الخليج، فإن القيمة الاستعمالية لهذه المدن الجديدة صارت فقط توليد الأرباح. ولذلك، كلما كانت هذه المشاريع أكثر تكلفة وأكثر طموحًا وأكثر ضخامة، زادت المكاسب المالية. فالمدينة أساسًا للربح، وكل شيء آخر ثانوي: أي «مدينة رأسمالية بالكامل».
لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن. ففي أعقاب الأزمة المالية الأخيرة، تعطل عديد من هذه المشروعات الضخمة وتحول إلى مدن أشباح، وتتناثر على مدى أراضي الخليج الآن مئات المباني غير المكتملة التي يتكاثر عليها الغبار.
تتضمن تلك المشروعات المتعثرة مركز الملك عبد الله المالي في الرياض، و«لوسيل» في قطر، بالإضافة إلى مشروع الواجهة البحرية «Waterfront» في دبي، الذي كان من المزمع أن يبلغ ثلاثة أضعاف حجم مدينة واشنطن في أمريكا، ويستوعب 1.3 مليون شخص. وشملت الإخفاقات البارزة أيضًا مشروع «المدينة الزرقاء» في عمان، التي صُممت لتسع مئتي ألف نسمة، بالإضافة إلى مشروع جُزُر «العالم» في دبي، الذي يواجه خطر الغرق.
كارثة بيئية
تأثير هذه المشاريع العملاقة على البيئة كان كارثيًّا، إذ ضاعف تبعات ما سُمِّي «حقبة الأنثروبوسين»، وهي عصر طغيان النشاط البشري على الكرة الأرضية. خُصِّصت آلاف الأميال من الأراضي الصحراوية لبناء هذه المدن، وحتى البحر لم يسلم من نشاطاتها، فرُدِمت مساحات شاسعة منه لزيادة كمية العقارات التي تطل على الشاطئ.
هكذا، أُعيد تشكيل بيئة الخليج الهشة من صحاري وبحار، التي استطاعت سابقًا الاستمرار وإعالة عديد من الكائنات الحية لملايين السنين. وأضحى بالإمكان تسليع البيئة وتحويلها إلى عقار، أكان ذلك في أراضيها أو بحارها، وعوملت هذه البيئة كأنها ذات مخزون متجدد غير منتهٍ، بالإمكان استهلاكها بشكل متواصل ومتصاعد من دون أي اعتبارات لاستدامتها.
فبالإمكان تحويل الصحراء إلى ملعب غولف أخضر أو منتجع تزلج عن طريق الطاقة والمياه والتكنولوجيا التي يوفرها النفط، بما أن هذا هو شكل «الطبيعة» الجديدة التي تطلبها مشروعات العقار العالمية. وواصلت مئات من محطات التحلية ضخ المياه في منطقة لا يوجد فيها نهر طبيعي واحد. وهكذا، بدا كأنه بإمكان النفط أن يروِّض ويعيد تشكيل البيئة، فيما تواصَل النمو النهم في الإنشاء والاستهلاك من دون أي اعتبارات للاستدامة البيئية.
لماذا لم يركز الخليج على تطوير ورفع مستوى المدن الحالية، التي تعاني انقطاع الكهرباء وازدحام الطرق والسيول؟
أصبحت المنطقة في صدارة تبعات التغيرات المناخية والاحتباس الحراري على الكوكب، وتخشى تنبؤات العلماء أن درجات الحرارة ستصل إلى مستويات قاتلة تجعل العيش في المنطقة مستحيلًا. وباتت مياه الخليج من أكثر البحار تلوثًا، أما مخزونات المياه العذبة الطبيعية في باطن الأرض، التي أخذت ملايين السنوات كي تتراكم، فقد استُنزفت في غضون بضعة عقود بشكل شبه كلي.
يبدو أنه لو ولَّى عصر النفط، فإنه حتى نمط الحياة السابق ببساطته وقسوته لن يكون ممكنًا، ذلك لأن البيئة التي اعتمد عليها دُمرت بشكل كبير. وعندها سيكون السؤال المحوري ليس هل ستقود دول الخليج العالم في بناء «مدن الروبوت»، بل: هل من الممكن أصلًا العيش في مدن المنطقة مستقبلاً؟
لا يبدو أن أيًّا من هذه المخاطر أدى إلى مراجعة مبدأ النمو النهم في المنطقة، إذ تستمر دول الخليج في إعلان مشاريع عملاقة على نمط «نيوم» دون هوادة.
لماذا تواصل دول الخليج ذلك حتى بعد كل هذه الكوارث المالية والبيئية الهائلة؟ ولماذا تأخذ هذه المشروعات شكل المدن التي تُبنى كليًّا من الصفر، كل مرة بمفهوم ومحتوى غريب، بدلًا من التركيز على تطوير ورفع مستوى المدن الموجودة حاليًّا، التي يعاني الكثير منها انقطاع الكهرباء والطرق المزدحمة والسيول المتكررة؟ ناهيك بأن هذه المدن لا زالت غير مهيئة للمشي، وتعتمد على السيارات بشكل شبه كلي، وتسبب آلاف وفيات المرور سنويًّا بمعدلات تعتبر الأعلى في العالم.
الجواب، باختصار، هو رأس المال، أو بالأحرى الشكل الذي تجلى فيه رأس المال في الخليج. فمنذ بداية عصر النفط، وجَّه غالبية الفائض من إيرادات النفط نحو أنشطة إنشائية، تركزت في بناء العقارات والبنية التحتية والخدمات المصاحبة لها. وفي ما عدا هذه الأنشطة، افتقرت المنطقة إلى أنشطة إنتاجية أخرى. وهكذا، أُنفقت غالبية إيرادات النفط في بناء المدينة.
تركز غالبية هذا النشاط العمراني والأنشطة التجارية والخدمية المتربطة به في شركات «قطاع خاص» مملوكة لأسر تجارية، اقتصرت خبرتها في مجال الأعمال على هذه القطاعات منذ الخمسينيات. تدنَّت قدرة هذه الشركات الخاصة على التصنيع المعتمد على التكنولوجيا المتقدمة والتصدير، الذي وُكِّل إلى الشركات المملوكة للدولة مثل «سابك». لذلك، تركزت غالبية خبرة الشركات الخاصة في الخليج في النشاطات الإنشائية العقارية، والخدمات وتجارة الواردات المصاحبة لها.
باختصار، يتخصص «القطاع الخاص» في الخليج أساسًا في البناء، ولذلك من الضروري أن يتواصل البناء دون توقف.
قد لا يكون من المستغرب أن الدولة الخليجية الوحيدة التي لم تتبنَّ هذه المشروعات بشكل كامل هي الكويت.
هكذا، تواصل دول الخليج الإعلان عن هذه المشروعات الضخمة الغريبة العجيبة، في حين أن أكبر المستفيدين منها هم ملاك الأراضي ومطوري العقارات وشركات البناء، إلى جانب الشركات الاستثمارية المالية والاستشارية. وبما أن هذه الكتلة هي الأكثر تأثيرًا من الناحية السياسية والاقتصادية في المنطقة، إذ تتضمن العديد من أفراد الأسر الحاكمة، وبما أن معظم خبرتها في الإنتاج الاقتصادي تقتصر على بناء المدن والأنشطة التجارية المرتبطة بها، فليس من المستغرب مواصلة تلك الكتلة منح الأولوية لهذه المشروعات العقارية الضخمة في كل خطة اقتصادية تقودها الدولة، حتى إن أثبتت كارثيتها مرارًا وتكرارًا.
ينحصر القرار السياسي والاقتصادي في الخليج في يد مجموعة صغيرة من المتنفذين، ويبدو الآن أن الشركات العالمية الكبرى تريد أيضًا أن تشاركهم الأرباح وتدخل في غمار هذه اللعبة العقارية.
قد لا يكون من المستغرب أن الدولة الخليجية الوحيدة التي لم تتبنَّ هذه المشروعات بشكل كامل هي الكويت، نظراً لتواجد بعض أدوات المُساءلة والديمقراطية لديها. فرغم أن كبار التجار طالما طالبوا بتبني مشاريع دولية ضخمة، فإن مجلس الأمة المنتخب عمِد إلى تعطيل هذه المشاريع بشكل مستمر، لأنه لم يرَ فائدتها لغالبية المواطنين.
أما في بقية دول الخليج، فإن فشل هذه المدن والأزمات البيئية والاقتصادية التي تخلقها ليس هو الهم الأول لمتخذي القرار. فعند الوصول إلى هذه المرحلة، سيكون أعضاء الكتلة السياسية والاقتصادية المتنفذة قد جنوا أموالهم وانتقلوا لرسم مشروع عقاري ضخم آخر من وحي الخيال.
وقد تتواصل هذه العملية حتى تستنزف كل أموال النفط، وعندها لن يكون بإمكان هذه المدن أن تدفع قيمة تكنولوجيا التحلية التي تحتاجها لتوفير مياهها، فما بالك بتشغيل «مدن روبوت».
عندما سُئل عبد الرحمن مُنيف عن سبب تسمية روايته الشهيرة «مدن الملح» قال:
«قصدت بمدن الملح تلك المدن التي نشأت في برهة من الزمن بشكل غير طبيعي واستثنائي. بمعنى ليست نتيجة تراكم تاريخي طويل أدى إلى قيامها ونموها واتساعها، إنما هي عبارة عن نوع من الانفجارات نتيجة الثروة الطارئة. هذه الثروة (النفط) أدت إلى قيام مدن متضخمة أصبحت مثل بالونات يمكن أن تنفجر، أن تنتهي، بمجرد أن يلمسها شيء حاد. الشيء ذاته ينطبق على الملح».
«فبالرغم من أنه ضروري للحياة والإنسان والطبيعة وكل المخلوقات، فإن أي زيادة في كميته، أي عندما تزيد الملوحة، سواء في الأرض أو في المياه، تصبح الحياة غير قابلة للاستمرار. هذا ما هو متوقع لمدن الملح التي أصبحت مدنًا استثنائية بحجومها، بطبيعة علاقاتها، بتكوينها الداخلي الذي لا يتلاءم وكأنها مدن اصطناعية مستعارة من أماكن أخرى».
«وكما قلت مرارًا، عندما يأتيها الماء، عندما تنقطع منها الكهرباء أو تواجه مصاعب حقيقية من نوع أو آخر، سوف نكتشف أن هذه المدن هشة وغير قادرة على الاحتمال، وليست مكانًا طبيعيًّا لقيام حاضرات أو حواضن حديثة تستطيع أن تستوعب البشر وأن تغير طبيعة الحياة نحو الأفضل».
إن كان بِوِد أهل الخليج أن يتفادوا سيناريو «مدن الملح» المتوقع، فسيحتم ذلك عليهم مواجهة خصمين مترابطين: سلطة سياسية أكثر من مطلقة، ورأس مال نهم أدمن صرف إيرادات النفط في الإنشاء.