القوة بين يديك: كيف يشترك القوميون الشعبويون في ملامح حكمهم؟
في يوم الأحد 11 نوفمبر 2018، عند قوس النصر على رأس شارع الشانزليزيه، أشهر شوارع العاصمة الفرنسية باريس، وصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين متأخرًا، لينضم إلى ثلة من زعماء العالم يحتفلون بالذكرى المئوية للهدنة التي أنهت القتال بين الحلفاء والإمبراطورية الألمانية في الحرب العالمية الأولى التي خلفت وراءها أكثر من ثمانية ملايين قتيل.
صافح بوتين عددًا من الزعماء، لكنه خصص تحية حارة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وابتسم له، رافعًا إبهامه ومربتًا على كتفيه.
بعدما سار زعماء الدول ببطء لأمتار قليلة تحت المطر المنهمر، متجاورين تحت المظلات السوداء، علامة على الدعوة إلى التمسك بالسلام العالمي، ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطابًا يحذر من خطورة المشاعر القومية الشعبوية المتصاعدة في أنحاء العالم، ورآها معادية لمشاعر الوطنية الحقيقية وخيانة عظمى، داعيًا إلى رفض حالة العنف والهيمنة، وعدد التحديات الأهم التي يجب أن تُواجَه، مثل التغير المناخي والفقر والجهل والجوع واللامساواة.
بدا خطاب الرئيس ماكرون كأنه توبيخ لكثير من الحضور. وعلى إثره، تبادل ترامب وبوتين الابتسام مرة أخرى، بينما كان ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل واجمَين، دليلًا على أن هناك رسالة ما فهمها جميع الحضور.
بعد رسالة ماكرون ضد الشعبويين اليمينيين بأقل من أسبوع، بدأت في 17 نوفمبر 2018 احتجاجات شعبية مناهضة لسياساته الاقتصادية التي تتلخص في فرض ضرائب جديدة على الوقود.
بالرغم من أن الاحتجاجات تبدو كأنها دون قائد أو أيديولوجية واحدة، فإن الرئيس ماكرون اختار الطريق السهل للاتهامات في إطار نظرية المؤامرة، وبدا كأنه يستعير أحد ملامح زعماء الشعبويين: الظهور بمظهر الرجل القوي الحازم في قراراته التي لا يتراجع عنها.
يبدو أن العالم يعيش لحظة صعود القادة الشعبويين، للدرجة التي تدفع رئيس دولة كبرى للحديث عن الظاهرة، خصوصًا أنها لم تعد محصورة في بعض قادة العالم الثالث، بل وصلت إلى قيادات الدول الكبرى مثل أمريكا.
استعراضات القوة العسكرية
منذ أواخر 2017، وعلى مدار شهور عدة، كرر الرئيس الأمريكي طلبه من وزارة الدفاع (البنتاغون) تحضير عرض عسكري يليق بالجيش الأمريكي. وهو ما يعد عودة لذكريات الحرب الباردة واستعراضها، فمنذ بعد انتهاء الحرب الباردة، لم تهتم روسيا بوريس يلتسن ولا أمريكا بيل كلينتون بتنظيم عروض عسكرية.
العروض العسكرية ملمح أساسي لكل الرؤساء الشعبويين القوميين في الشرق والغرب.
ذلك الإلحاح من ترامب ينسجم مع حب القادة الشعبويين للعروض العسكرية، إذ يرونها دليلًا على القوة والسيطرة. ولطالما ميزت العروض العسكرية الأنظمة الدكتاتورية.
بوجود بوتين رئيسًا لروسيا، وترامب رئيسًا للولايات المتحدة، تحولت العروض العسكرية إلى الحدث الأساسي في المشهد السياسي، لتعكس هوية العظمة والتخويف والانتصار.العروض العسكرية ملمح أساسي لكل الرؤساء الشعبويين القوميين في الشرق والغرب. ففي الصين، لا يكتفي الرئيس شي جين بينغ بعروض عسكرية، بل يحتفي بكل أريحية بالأسلحة الحديثة التي يمتلكها الجيش، بعدما كان يكتفي بالاحتفال بكثرة الأعداد في السابق.
تطورت العروض العسكرية لتتحول إلى ما يشبه الإنذارت والمساومات والرسائل السياسية بين الزعماء القوميين الشعبويين. فرغم امتلاك كوريا الشمالية رؤوسًا نووية، يحرص رئيسها كيم يونغ أون على عدم تقديمها في العروض العسكرية كي لا يثير حفيظة ترامب، ويكتفي بتكرار أنه قادر على محو أمريكا من على وجه الأرض بضغطة زر.
في المقابل، لم تكن كوريا الجنوبية حريصة مثل جارتها على عدم عرض الرؤوس النووية لعدم إثارة القلق والريبة، بل أقدمت على عرض أكبر صاروخ نووي لديه القدرة على ضرب كوريا الشمالية، إلى جانب أسلحة أخرى متطورة، خلال احتفال عسكري ضخم، وكأن الاحتفال رسالة تهديد بأن أي استفزاز سيقابَل برد انتقامي قوي.
الشعبوية شرقًا وغربًا: قرارات تتخطى أي حدود
يحرص الزعماء الشعبويون على الخروج بمظهر «الرجل القوي الغاضب»، ويحبون لعب دور القائد الحازم، الذي يحمل على عاتقه حماية شعبه من الأعداء. بكل سهولة، يمكن خلق الأعداء على يد الزعيم الحامي، مثل الأجانب أو الأقليات العرقية أو المجموعات الدينية أو القضاة أو السياسيين أو القنوات الإعلامية أو الصحافة على أشكالها.
ربما كان المثال الصارخ لفكرة الرجل القوي الذي سيعيد أمجاد الدولة القوية هو الرئيس الروسي بوتين، الذي غَذَّى المخاوف من الفوضى الاقتصادية والعجز السياسي، ليدعو إلى استعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي السابق، ومناطحة القوى الغربية، وتجسيد صورة الرجل المتعجرف الذي ينضح بالفحولة.
بنفس المنطق، وطد الرئيس الصيني شي جين بينغ فكرة الرعب من نموذج انهيار الاتحاد السوفييتي، مرسخًا إبقاء سيطرة الحزب الشيوعي على الحكم، قابضًا بيد من حديد على المعارضة، مدشنَا فجر حقبة جديدة للصين. وإلى جوار ذلك، أعلن عن حملة لمكافحة الفساد ضد السياسيين المنافسين المحتملين، بهدف تأكيد صدارة بلاده فوق القمة. وبعدها مباشرة، محا حدود الرئاسة بعدما كانت فترتين فقط، عن طريق تعديلات دستورية، وصار بإمكانه البقاء رئيسًا مدى الحياة، مكلِّلًا بذلك فكرة الرجل الذي لا يُقهَر.
على أنقاض انتشار جرائم العنف في الشوارع وازدهار تجارة المخدرات في الفلبين، جاء الرجل القوي «رودريغو دوتيرتي» رئيسًا للبلاد، واعدًا بالقضاء على تجارة المخدرات وإرساء قيم العدالة.
في تايلاند، سمح الخلل السياسي الشديد والمقاومة الشعبية الضئيلة باستيلاء الجنرال «برايوت تشان-أوتشا» على الحكم. ورغم وعوده المتكررة بإجراء انتخابات جديدة نزيهة، فإنه يوطد فكرة الرجل القوي الذي لن يسمح بسقوط بلاده في براثن الفوضى.
الخوف الذي يصدِّره الزعيم الشعبوي يجعل شعبه يظن أنه يحتاج حمايته، فيظهر بكل هيبة لينقذهم ويهدئ من روعهم.
في تركيا، استغل الرئيس رجب طيب أردوغان محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 ليُبطل حكم القانون، واستهدف خصومه السياسيين، وسجن عددًا من الصحفيين، ليبدو بصورة الرجل القوي الحازم الذي لا يتهاون.
في المجر، فاز «فيكتور أوربان» بالرئاسة محتضنا منهج «الديمقراطية غير الليبرالية»، أي إنها ديمقراطية بانتخابات نزيهة، لكن مع قليل من الحريات المدنية، ليبدو كذلك بمظهر الرجل الذي لا يرقى أحد إلى منافسته أو محاسبته أو تقييمه، حتى لا تنهار هالة الاحترام الزائفة.
متناسيًا القضايا المهمة ذات الأولوية القصوى، مثل سوء نظام الرعاية الصحية وهجرة الشباب إلى غرب أوروبا هربًا من البطالة، قدَّم أوربان نفسه في هيئة المنقذ الراديكالي الذي يتصدى لجمود المؤسسات الأوروبية والأزمات التي يعاني منها الاتحاد الأوروبي، مثل المشكلات الاقتصادية وأزمة اللاجئين، على الرغم من وجود اتهامات له في الداخل المجري بتقويض الجامعات ومحاربة وسائل الإعلام الحرة والقيم الليبرالية في أوروبا.
من أجل إضافة رتوش تسويقية سياسية، ينشر الزعيم القومي الشعبوي صورًا وأخبارًا تنم عن الفحولة والرجولة. فمثلًا، أصدر الكرملين صورًا للرئيس الروسي عاري الصدر، راكبا جوادًا في نزهة. وحين سُئل بوتين عن سبب نشر الصور، رد بأنه ليس لديه ما يُخفيه.
بتلك الصور، جسَّد بوتين صورة الرجل القوي وحفرها في الأذهان، متخذًا من تلك الصور دعاية سياسية ناجحة على منصات التواصل الاجتماعي، زادت شعبيته إلى نسبة 83%، طبقًا لاستطلاعات رأي دقيقة لمدة عامين متواصلين، نفذها محللون روس عن طريق زيارات ميدانية للمنازل.
صناعة العدو الوهمي
وبالرغم من إصرار «الأعداء» على النيل من نجاحات الزعيم القومي الشعبوي، وإمكانياته التي لا تعد ولا تحصى، فإنهم لا يختفون من المشهد السياسي ويظلون موجودين باستمرار.
خلال حملة دونالد ترامب الانتخابية للرئاسة 2016، كان يستخدم ألفاظًا لا يأبه بنتائجها، مثل «المكسيكيون المغتصبون»، و«المسلمون الإرهابيون كارهو أمريكا»، وأن «ذكاء الملونين أقل من البيض».
كان المعلقون السياسيون حينها يتوقعون موت حملته الانتخابية لأنه لا يراعي أسس النموذج الديمقراطي وقواعده في احترام الآخر، لكنه كان يحصد كثيرًا من الأعجاب بسبب شعور جمهوره بأنه لا يخاف أن يقول ما يؤمن به.
هكذا، بدَّل ترامب فكرة الحرص على استخدام الكلمات التي لا تُزعج الآخرين، إلى فكرة الرجل القوي الذي لا يخاف نتيجة أقواله، وهو نموذج مختلف تمامًا عن هيلاري كلينتون التي كانت تحرص بشدة على اختيار كلماتها في أثناء حملتها الانتخابية.
القومية الشعوبية قائمة على افتراض الشر ومواجهته كرجال أقوياء، ليُجبروا الشعوب على اللجوء إليهم لحمايتهم من الشرور.
بتلك القوة الكلامية التي لا تخشى أحدًا، يُصنَع الأعداء. الرجل القومي الشعبوي لا يحب المكسيكيين لأنهم مغتصبون، بحسب ترامب، والرجل القومي الشعبوي الحازم لا يحب المثليين، بحسب بوتين، والرجل القومي الشعبوي لا يحب المهاجرين، بحسب الرئيس البرازيلي «جايير بولسونارو».
بنفس العقلية، يطلب الرئيس الفلبيني رودريغو دوتيرتي من شرطة بلاده صراحةً قتل أي شخص يُعتَقد أنه مرتبط بتجارة المخدرات، ما أدى إلى قتل أكثر من سبعة آلاف مواطن في ستة أشهر فقط. هكذا كثَّف الرجل القوي كل جهوده لقتل تجار المخدرات، أو من يشك في ارتباطه بطريقة أو بأخرى بأي نشاط تابع لتجارة المخدرات، دون اللجوء إلى حكم القانون وتفعيله، ليظهر أمام الناس أنه قادر على تخطي أي حدود لفعل ما يريد، حتى لو كان سيضطر لمخالفة القانون نفسه.
هكذا صنع الزعماء الشعبويون القوميون أعداءهم، متناسين الأعداء الأهم، مثل البطالة والفقر وانتشار الجرائم والإخفاق في محاربة الفساد والتساهل في إرساء حكم القانون.
محمود سعيد موسى