حلم السلطان العادل: هل نحتاج إلى عودة الخلافة الإسلامية؟
في عام 1924، ألغى الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك الخلافة العثمانية رسميًّا، وبعد أكثر من 91 عامًا على ذلك التاريخ، تتواصل المناقشات في الغرب بشأن تنظيم «داعش» الذي أعلن الخلافة في معظم أنحاء العراق وسوريا، إذ ربما يُشكِّل هذا الحدث نقطة تحول عميقة في التاريخ الإسلامي بحسب بعض المراقبين.
لكن من بين هؤلاء تصدر أصوات تحاول توجيه النقد لأُسُس هذا النقاش، ومن بين هذه الأصوات الصحفي وخبير الشؤون التركية «نيك دانفورث»، الذي كتب مقالًا نشرته مجلة «فورين أفيرز»، ذهب فيه إلى أن الإسلاميين ونقادهم على السواء يتبنون أفكارًا أسطورية ومغلوطة عن الخلافة.
بحسب دانفورث، يخطئ المراقبون الغربيون مثل الإسلاميين عندما يعتقدون في أهمية مفهوم الخلافة كأداة لفهم الوضع في الشرق الأوسط، رغم أن هذا التشديد نتج عن خلط بين العائلة المالكة العثمانية في القرن التاسع عشر، والخلفاء الذين حكموا قبل ألف عام أو أكثر، والذين يدَّعي الإسلاميون أنهم يحاولون استعادة عهودهم.
الخلافة وفقًا للظروف
لما غزا محمد الفاتح القسطنطينية، فاز بلقب «قيصر روما» لا خليفة المسلمين.
يرى الكاتب أن النقاد الغربيين والمفكرين المسلمين أسَّسوا مفهوم الخلافة كمؤسسة دائمة ومحور للإسلام والفكر الإسلامي بين القرنين السابع والعشرين.
بحسب دانفورث، الخلافة فكرة سياسية ودينية تزداد أهميتها أو تقل وفقًا للظروف، ويبين تاريخ الخلافة المعاصر تحت حكم العثمانيين أنها ليست أكثر من خيال سياسي، أو لائحة سياسية فارغة وغامضة مثل فكرة «ديكتاتورية البروليتاريا» (ديكتاتورية الطبقة العاملة في المذاهب الماركسية)، يختلقها الإسلاميون المعاصرون ويعيدون تأويلها مع استمرارهم على الساحة السياسية.
إضافةً إلى ذلك، تشير قصة الخلافة العثمانية أيضًا إلى أن الإسلاميين المعاصرين قد يواجهون نفس التناقضات التي أسقطت العثمانيين قبل قرن من الزمان عندما حاولوا تحقيق الخلافة.
اقرأ أيضًا: الرئيس المعتصم والخليفة بوش: هل يروي التاريخ الحقيقة أم وجهات النظر؟
كيف تأسست الخلافة العثمانية؟
يحكي الكاتب أنه عندما ضمت الإمبراطورية العثمانية مصر وشبه الجزيرة العربية في عام 1517، نصَّب السلطان سليم نفسه خليفةً للمسلمين، وأورث هذا اللقب لمن يأتي بعده من سلاطين آل عثمان، وعزز دعواه، إضافةً إلى سيطرته على مدينتي مكة والمدينة، بجلب مجموعة من ملابس الرسول وشعر لحيته إلى إسطنبول.
بعد قرون، رأى العثمانيون أنهم بحاجة لجعل العملية كلها تبدو أكثر احترامًا، لذا بدأ المؤرخون يؤكدون أن الوريث الأخير للخلافة العباسية، الذي كان يعيش منفيًّا في القاهرة بعد أن خسرت عائلته الحكم، منح لقبه طوعًا للسلطان سليم. كذلك، دعم العثمانيون ادعاءهم بالقيادة الإسلامية عن طريق الوصاية على الحج، وإرسال كسوة مُذهبة ومزينة لتغطية الكعبة كل عام.
راقت للمسلمين فكرة وجود زعيم تقي وقوي مثل السلطان العثماني، يتحدى الإمبريالية الغربية في العالم الإسلامي.
يشرح دانفورث أن السلطان العثماني محمد الثاني لمَّا غزا القسطنطينية، عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، قبل 64 عامًا من غزو السلطان سليم لمصر، كان قد فاز بلقب «قيصر روما»، إلا أن لقب الخليفة كان أهم للعثمانيين من لقب القيصر في تلك الفترة من أواخر القرن التاسع عشر، إذ كان يأتي في إطار حملة سياسية قادها السلطان عبد الحميد الثاني لحشد مشاعر وطنية مناهضة للاستعمار في جميع أنحاء الدولة العثمانية، ولتعزيز شرعيته الداخلية.
شملت أساليب عبد الحميد الثاني السعي إلى تثبيت قراءة اسمه في صلاة الجمعة، وتوزيع المصاحف في جميع أنحاء العالم الإسلامي من إفريقيا إلى إندونيسيا.
كيف استقبل المسلمون إعادة إحياء الخلافة؟
بحسب الكاتب، راقت لكثير من المسلمين، الذين واجهوا انتصار الاستعمار الأوروبي في بلدانهم، فكرة وجود زعيم تقي وقوي مثل السلطان العثماني، يتحدى الإمبريالية الغربية نيابةً عن العالم الإسلامي بأسره، وكذلك أعرب مسؤولون بريطانيون وفرنسيون عن مخاوفهم من قوته المحتملة على مستعمراتهم الإسلامية في شمال إفريقيا والهند.
رغم حماسه للاستفادة من هذه المخاوف الغربية، كانت لدى السلطان عبد الحميد مخاوف كثيرة حول مدى تأثير جهوده في هذه البلدان النائية، بحسب دانفورث.
كان السلطان العثماني قلقًا من عدم قبول الجميع لتوليه الخلافة، وبغض النظر عن أولئك الذين التفوا حوله بسبب التضامن الديني، دفعت القومية العربية وعدم الرضا عن الطغيان آخرين إلى التشكيك في الأساس الديني لحكمه.
برر هؤلاء المفكرون، ومنهم اللبناني رشيد رضا، إنشاء خلافة عربية مختلفة عن طريق الاستشهاد بقول النبي: «الأئمة من قريش، ما حكموا فعدلوا ووعدوا فوفُّوا واستُرحموا فرحموا».
أدى تراجع السُّلطة العثمانية في الحرب العالمية الأولى إلى زيادة مصداقية فكرة وجود خليفة غير عثماني.
سرعان ما هزمت السياسة العنيفة في أوائل القرن العشرين مؤسسة الخلافة. ورغم جهوده الكبيرة بصفته مدافعًا عن العقيدة، استمر عبد الحميد في فقدان الأراضي والسُّلطة السياسية لمصلحة قوى استعمارية مسيحية. ويرى الكاتب أن هذا ساعد القادة العلمانيين في حركة «تركيا الفتاة»، مثل أنور باشا، على تهميش السلطان والاستيلاء على السُّلطة لأنفسهم عشية الحرب العالمية الأولى.
حين استمتعت الإمبراطورية العثمانية ببعض النجاح العسكري في حرب البلقان الثانية، أصبح أنور باشا مصدر إلهام للعالم الإسلامي، وضمت قائمة الأطفال الذين سُمُّوا على اسمه في ذلك الوقت أنور خوجة، الذي أصبح رئيس ألبانيا، وأنور السادات، الذي حكم مصر لاحقًا.
الوريث العربي للخلافة
خَفَت بريق أنور باشا مع هزيمة الدولة العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، وسرعان ما سطع نجم أتاتورك كبطل جديد بقيادته لحملة ناجحة لإخراج الجيوش الفرنسية والإيطالية والبريطانية واليونانية من الأناضول، بحسب ما يورد دانفورث.
حظي أتاتورك بإعجاب بعض المسلمين المتفهمين سياسيًّا، الذين دعموا خلافة عبد الحميد المناهضة للإمبريالية، فانضموا إليه في تحدٍّ مسلح ضد القوة الأوروبية.
في فلسطين على سبيل المثال، بدأ المسلمون الذين اتجهوا في السابق للخليفة العثماني لحمايتهم من المستوطنين الصهاينة والمحتلين البريطانيين، بالهتاف لأتاتورك، وتسبب هذا في قلق بريطانيا من أن هذا الرمز التركي أصبح «المنقذ الجديد للإسلام».
في الوقت نفسه، يرى الكاتب أن تراجع السُّلطة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى وفي أثنائها وبعدها أدى إلى زيادة مصداقية فكرة وجود خليفة جديد غير عثماني في المنطقة العربية، لكن لم يكن واضحًا تمامًا من سيكون هذا الخليفة.
كانت النتيجة أن إلغاء أتاتورك لمؤسسة الخلافة في عام 1924 لم يلقَ أي احتجاج واضح أو متماسك من العالم الإسلامي بأسره، لكنَّ كثيرًا من المسلمين الذين رأوا أن الرموز الإسلامية مثل الخليفة كانت جزءًا مهمًّا من فكرة الدولة الإسلامية، لا سيما في الهند، احتجوا على ما فعله أتاتورك، في حين كان آخرون أكثر اهتمامًا بالمناورة للحصول على لقب الخليفة لأنفسهم.
خلافة الحسين بن علي شريف مكة
كان أشهر من حاولوا اقتناص لقب الخليفة، بحسب دانفورث، الحسين بن علي شريف مكة، الذي يعرفه كل من شاهد فيلم «لورانس العرب» لدوره البارز في الثورة العربية. وبصفته القائد المحلي لمكة والمدينة، ولأنه ينحدر من قبيلة النبي محمد، اعتقد الحسين أنه بعد طرد العثمانيين من المنطقة سيصبح ملك العرب، وسيتمتع بكل الصلاحيات الدينية والسياسية للخليفة.
سعيًا لتحقيق هذا الهدف، دعى حسين السلطان العثماني إلى مكة بعدما نفاه أتاتورك من تركيا، وبعد عدة سنوات أعلن نجل الحسين، الملك عبد الله مؤسس الأردن، أن الأتراك «قدَّموا أكبر خدمة ممكنة للعرب» بإلغاء الخلافة، وأنه يجب «إرسال برقية شكر لمصطفى كمال أتاتورك».
لكن خطط حسين لم تؤتِ ثمارها بالضبط كما يوضح الكاتب، فرغم دعم بريطانيا لمخططه في وقت مبكر من الحرب، عارض بشدة اتفاقية «سايكس بيكو» لتقسيم الدولة العثمانية، ثم أخرج الفرنسيون ابنه من سوريا، قبل أن يطرده السعوديون من شبه الجزيرة العربية.
بحلول الوقت الذي أعلن فيه الحسين نفسه خليفةً للمسلمين، بناءً على إصرار مجموعة مختارة من القادة المسلمين، كانت سلطته قد تضاءلت إلى النقطة التي بدا فيها الإعلان كأنه يأس تام من جانبه.
طمع مصري وليبي.. زُهد سعودي.. صعود ليبرالي
الملك عبد العزيز آل سعود أحد القادة القلائل الذين لم يطالبوا بالخلافة، رغم مناقشة الفكرة بالتأكيد.
كان للمَلَكية المصرية طموحاتها الخاصة للمضي قُدمًا آنذاك، فطالب الملك فؤاد بخلافة العثمانيين رغم تحالفه الوثيق مع البريطانيين وانحداره من أسلاف ألبانيين دون نسب مع أهل بيت النبي.
في كلمة لأحد العلماء المسلمين يوردها المقال، كانت مصر في وضع أفضل من الحسين لإقامة الخلافة، لأنها «أخذت زمام المبادرة في التعليم الديني، وكانت تمتلك عددًا كبيرًا من المسلمين المتعلمين والنابغين».
كذلك، فكَّر الملك إدريس الأول في ليبيا أن يتقدم للحصول على لقب خليفة، لكنه، مثل فؤاد، قرر في نهاية المطاف أن لديه القليل من الدعم لفعل ذلك رسميًّا، بحسب دانفورث.
ورغم استيلاء الملك عبد العزيز آل سعود على الأراضي المقدسة من الحسين بن علي، فإنه كان من القادة القلائل الذين لم يطالبوا بالخلافة، رغم مناقشة الفكرة بالتأكيد. ورغم أنه شارك العرب معارضة وجود خليفة عثماني، فإن نسخته الخاصة في الحكم وفي دور الدين بالدولة كانت متطرفة للغاية، إذ انحاز للحركة الوهابية.
كانت كل هذه المشاحنات السياسية غير المناسبة من العوامل التي ساعدت في إنهاء النقاش بشأن الخلافة لعدة عقود، واستجاب كثير من المسلمين لإلغائها بمضاعفة جهودهم لبناء حكومات دستورية علمانية في بلدانهم. وجاءت أقوى معارضة لتطلعات الملك المصري للخلافة من الليبراليين المصريين، الذين احتجوا على أي خطوات من شأنها أن تزيد قوة النظام الملكي.
كان الباحث المصري علي عبد الرازق من أكثر منتقدي فكرة عودة الخلافة، إلى حدِّ أنه قال إن القرآن «لا يحتوي على أي إشارة إلى الخلافة التي يطالب بها المسلمون».
في تلك الفترة أيضًا، بدأ عدد من المفكرين العلمانيين والمتدينين مناقشة إمكانية أنَّ الخليفة يجب أن يكون شخصية دينية بحتة، مثل «البابا» المسيحي، غير مرتبط بأي سُلطة زمنية.
هل ينجح «داعش» في إحياء الخلافة؟
من الخطأ، في رأي دانفورث، أن نعتقد بأن الحركات الإسلامية في القرن الحادي والعشرين تحاول إحياء الخلافة تحت راية ولاية إسلامية واضحة المعالم، لكن أعضاءها مجرد لاعبين آخرين في نقاش استمر قرونًا حول مفهوم اتخذ أهمية واسعة النطاق في العالم الإسلامي.
لا يزال إرث الجولات السابقة من هذه المناقشات ملموسًا اليوم، ولا يستغرب الكاتب أن ماضي الخلافة العثمانية سيطر على معظم نفوذ الإسلاميين الأتراك، الذين يدينون بالكثير إلى الطريقة التي يمجِّد بها القوميون الأتراك الإمبراطورية أكثر من ولائهم للسلاطين الأتقياء.
قد يهمك أيضًا: خلطة إردوغان لمزج الإسلام السياسي بـ«القومية» التركية
على النقيض من ذلك، فإن الإرث الديني لانتقادات الحركة الوهابية للدولة العثمانية في القرن الثامن عشر، والإرث السياسي للقومية العربية المناهضة للإمبراطورية العثمانية، يعطي كثيرًا من الإسلاميين غير الأتراك سببًا كافيًا لتفضيل النسخة السابقة من الخلافة العربية.
بالتعامل مع الخلافة العثمانية كمرجعية تاريخية نهائية لِمَا يطمح إليه الإسلاميون في الوقت الحالي، يخلط النقَّاد في الغرب بين حلم العرب الحالي بزعيم قوي يحظى باحترام عالمي، وحلم الماضي بوجود سلطان عثماني ليصبح هذا القائد نفسه، رغم أن الظروف التي تجمع هذين الحلمين، والمطالبة بسُلطة دينية قوية في مواجهة قوة الغرب السياسية والعسكرية والاقتصادية، قد تكون واحدة، وكذلك التحديات التي تواجه تحقيق هذا الحلم.
ربما يجد المطالبون بلقب الخليفة الآن أنفسهم في القارب ذاته مع الخلفاء العثمانيين، ولذلك يمكن أن يحقق النجاح السياسي أو العسكري شرعيةً قصيرة الأجل في رأي دانفورث، لكن الفشل في تحقيقها سيجلب متنافسين آخرين على السُّلطة.
ترجمات