حرب الريف وانتفاضات «الأوباش»: تاريخ المغرب المجهول
شارك الآلاف من سكان الريف في جنازة محسن فكري، بائع السمك الذي قُتل سحقًا داخل شاحنة لنقل النفايات، بعدما اعترض على إتلاف بضاعته ومصدر رزقه الوحيد، مساء الجمعة 28 أكتوبر، في مدينة الحسيمة الريفية بشمال المغرب. هذه الجريمة المرتكبة من طرف السلطات أثارت موجة من الحزن والغضب في أنحاء المغرب، إلا أن سكان الريف تصدَّروا المسيرات والاحتجاجات لأيام، ورفعوا الأعلام الأمازيغية كطريقة للتشبث بهويتهم، وربما هذا ما يشكل خصوصية سكان منطقة الريف، بالإضافة إلى الحفاظ على لهجتهم الأمازيغية.
هؤلاء «الأوباش» خاضوا حروبًا وانتفاضات، وعايشوا أحداثًا بشعة لا زالوا يتذكرونها حتى اليوم، بينما يُتعَمَد التعتيم عليها.
مع تصاعد الأزمة الأخيرة، وصفت برلمانية مغربية سكان الريف بـ«الأوباش» في تدوينة لها، معلقةً على تظاهرة في مدينة الحسيمة، واضطرت إلى حذفها بعد ردود فعل غاضبة. الوصف نفسه أطلقه على الريفيين الملك الراحل الحسن الثاني في خطابٍ قديم له أثناء انتفاضة 1958. لكن هؤلاء «الأوباش» خاضوا حروبًا وانتفاضات، وعايشوا أحداثًا بشعة لا زالوا يتذكرونها حتى اليوم، بينما يُتعَمَد التعتيم عليها. فمن هم سكان الريف؟ وما هو تاريخ صراعاتهم مع الدولة؟
أمازيغ المغرب
ينتمي أهل الريف إلى أمازيغ المغرب، والأمازيغ، حسب المعطيات التاريخية، هم سكان شمال إفريقيا الأصليون، ويمتد تاريخهم منذ ثلاثة آلاف سنة. وقد استوطنوا في جزر الكناري والمغرب والجزائر وتونس وليبيا وواحة سيوة في مصر، وعُرفوا قديمًا بالبربر أو البرابرة «Barbares» (اسم لاتيني أطلق على الهمجيين والبدائيين)، لكن تسمية الأمازيغ تعود إلى كلمة «إِمّازيغن»، وتعني بالأمازيغية الإنسان الحر النبيل.
ذكرت آخر الإحصائيات في المغرب أن عدد السكان الأمازيغ لا يتجاوز 27% من مجموع سكان المغرب، الذين يزيد عددهم عن 32 مليون نسمة، ما أثار غضب النشطاء الأمازيغ؛ إذ أكدوا أن نسبة الناطقين بالأمازيغية تفوق 60%، كما يشير بعض الباحثين إلى أن الأمازيغية هي صُلب الهوية المغربية. لغتهم غير كتابية لكنهم ابتكروا أبجدية «تيفيناغ»، ويروى أنها فينيقية الأصل.
ينتشر أمازيغ المغرب في منطقة الأطلس المتوسط (افران وخنيفرة واموزار) ولهجتهم تسمى بـ«تاقبايليت» (نسبة إلى قبائل هذه المناطق)، ومنطقة سهل سوس ويتحدثون اللهجة السوسية أو المعروفة بـ "تاشلحيت"، وهي أكثر اللهجات الأمازيغية انتشارًا في المغرب، ثم مناطق الشمال (مدن الريف)، ويتحدثون الريفية (تاريفيت).
أهلًا بك في الريف المغربي
تمتد سلسلة جبال الريف على شكل قوس في أقصى شمال المغرب من مضيق جبل طارق إلى الحدود المغربية الجزائرية، وتضم مدن الحسيمة والناظور وبركان. سكانها يتحدثون أيضًا اللهجة المغربية واللغة العربية، بجانب الريفية التي تتفرع من اللغة الأمازيغية.
يُشاع عن أهل الريف أنهم متشددون دينيًا ومتعصبون، وبخاصةٍ بعد التحاق بعض الشباب الريفي المقيم ببلجيكا بداعش.
يُشاع عن أهل الريف أنهم متشددون دينيًا ومتعصبون، وبخاصةٍ بعد التحاق بعض الشباب الريفي المقيم ببلجيكا بداعش، وتكرر ذكر ذلك في مقالات فرنسية، أثناء تفجيرات فرنسا الأخيرة. تنطبق هذه الصفات على أغلب من التحقوا بالجماعات الإسلامية الإرهابية. وربما يكون أهل الريف متعصبين بالفعل، لكن بغرض الحفاظ على هويتهم الأمازيغية من الاندثار، ودفاعًا عن حقوقهم منذ الاستعمار.
حرب التحرير وتأسيس جمهورية الريف
كانت هذه المنطقة مُستعمرة إسبانية بموجب اتفاقية مع فرنسا عُقِدت في عام 1906، ونصَّت على احتلال إسبانيا لمنطقة الشمال بهدف حماية مصالحها في الجنوب، على أن تستعمر فرنسا باقي المدن. وقد استطاعت إسبانيا السيطرة على معظم مناطق الريف، لكن سكانه رفضوا تقديم الولاء لها، وتولى «عبد الكريم الخطابي» قيادة المقاومة.
مَن هو عبد الكريم الخطابي؟
«أمير الريف»، أو قائد المقاومة، أو «مولاي محند» كما يناديه سكان الريف حتى اليوم، كان يعمل صحافيًا عام 1906 في الجريدة الناطقة باللغة الإسبانية «Telegramma del Riff» (تلغرام الريف) في مدينة مليلية المحتلة، ثم قاضيًا بها في عام 1914؛ إذ كان معارضًا للحكم الإسباني وتسبب ذلك في اعتقاله ما بين العامين 1915 و1916. استقال بعدها من القضاء وعاد إلى أجدير مسقط رأسه (بلدة تقع قرب الحسيمة في الريف)، حيث سيخوض حرب الريف بعد ذلك بسنوات.
ضمت حرب الريف معارك عديدة أشهرها معركة أنوال، التي خاضها الخطابي وقواته وقتلوا ما يقارب الـ14 ألف جنديًا إسبانيًا واعتقلوا ألفًا من ضمنهم الجنرال مانويل فرنانديز سلفستر، وهو جنرال عسكري إسباني وقائد قطاع سبتة ومليلية، وحسب الروايات التاريخية، فقد انتحر بعد هذه الهزيمة.
اعتبر العالم الإسلامي هذه الحرب مثالًا للكفاح ضد المستعمر، ورأى في الخطابي رمزًا للمقاومة. وقد استفاد هذا الأخير من هزيمة العدو وأنشأ جمهورية الريف في فبراير 1923، متخذًا نموذج الدولة الحديثة في أوروبا، والتي كان الاسم الدارج لها «Ripublik» (الجمهورية باللغة الفرنسية)، لكن السلطان المغربي، مولاي يوسف آنذاك، لم يقبل بهذا الوضع ورفض وجود معارض مثل الخطابي.
من اﻻستقلال إلى سقوط الدولة
أعلن «مولاي محند» استقلال الريف عند قيام الجمهورية، وأقام حكومة دستورية جمهورية، كما وضع دستورًا مبدأه سلطة الشعب، كما تقول بعض الروايات. وقد نص هذا الدستور أيضًا على إنشاء وزارات المالية، والعدل، والشؤون الخارجية، والحرب. وقد أعلنت هذه الحكومة عن ميثاق قومي يفيد عدم الاعتراف بالحماية الفرنسية، وجلاء الإسبان عن أراضي الريف، والاعتراف بالاستقلال التام لها، ومطالبة إسبانيا بتعويض أهل الريف عن الخسائر التي تسبب فيها الاحتلال، ثم إقامة علاقات جيدة مع كل الدول.
لكن هذه الجمهورية، التي كان لها علمها الخاص وعاصمتها أجدير، شكَّلت خطرًا واضحًا على فرنسا ومصالحها في المغرب والجارة الجزائر، فهاجم الأسطول الفرنسي أمير الريف وقواته خلال العام 1925، وسلَّم الخطابي نفسه لفرنسا، ثم سقطت الجمهورية في 27 مايو 1926.
إذا لم تستطيعا الدفاع عن استقلال الريف وحقوقه فغادراه إلى مكان غيره.
بعدها نُفي الخطابي إلى جزيرة «لا ريونيون» الفرنسية، لكنه أثناء نقله إلى فرنسا في عام 1947، وجد طريقة للهروب واختار مصر منفى، حيث توفي في العام 1963. قبل موته، دعا ابنه وأخاه وقال لهما: «إذا لم تستطيعا الدفاع عن استقلال الريف وحقوقه فغادراه إلى مكان غيره». (نُشرت الوصية في أحد أعداد جريدة «Le Matin الصباح» في 1926)
ويبدو أن أهل منطقة الريف قد نفذوا وصية أميرهم وانتفضوا وثاروا من أجل حقوقهم، ويظهر ذلك في أحداث أخرى عرفتها هذه المنطقة بالذات.
انتفاضة 1958: هجوم المخزن* ضد الريف وأحداث دامية
المخزن* مصطلح بالدارجة المغربية يطلق على النخبة الحاكمة في المغرب.
تم تغييب هذه المرحلة الهامة من المناهج الدراسية، وتجاهلها الباحثون والمعنيون بالأمر.
وكانت منطقة الريف مهمشة من طرف الدولة، فثار بعض أبنائها ودعوا باقي سكان الريف إلى عصيان الدولة، ثم مواجهة الجيش، الذي استعمل القنابل من خلال طائرات فرنسية وأمريكية والرصاص الحي لإخماد هذه الثورة. وبحسب تقرير لشكيب الخياري، وهو ناشط حقوقي وباحث مغربي، فقد تم تغييب هذه المرحلة الهامة من المناهج الدراسية، وتجاهلها الباحثون والمعنيون بالأمر، فنتج عن ذلك اعتبار «حدو عبد السلام أمزيان»، الذي هرب من الحسيمة حينذاك، مثل أحد الرموز التاريخية بالريف ومقارنته بالأمير الخطابي، إلا أنه كان مفتشًا للشرطة بالحسيمة، وكان مضطهِدًا للمواطنين في المنطقة، حسب رواية من عايشوه في تلك الفترة. أما البطل الحقيقي فكان، للمفارقة، والده محمد الحاج سلام أمزيان وقائد هذه الانتفاضة.
واجهت القوات المسلحة الملكية هذه الأحداث، بقيادة ولي العهد الحسن الثاني آنذاك والجنرال أوفقير، لينتهي الأمر ببحر دم وثمانية آلاف قتيل، ولم يخلُ الحدث أيضًا من اعتقالات وتعذيب المتمردين على النظام واغتصاب نسائهم ودفن الشهداء في مقابر جماعية.
في 11 نوفمبر 1958، قدَّم المقاوم «محمد الحاج سلام أمزيان»، برفقة شقيق وابن عبد الكريم الخطابي، برنامجًا للملك محمد الخامس، عن الريف والمخاوف من استعمار جديد، وطالبوا فيه بعودة آل الخطابي، وبخلق فرص عمل لساكنة المنطقة، وخفض الضرائب عليهم؛ كانت الساكنة قد وقتها بدأت تتمرد، لكن النظام الملكي رد بالقمع وتصفية المتمردين.
كانت هذه الأحداث الأكثر دموية في تاريخ الريف، وبعدها سيطر الحكم العسكري عليها، ما دمر إرثها وزاد من تهميشها، فعرفت أكبر موجة لهجرة الريفيين إلى بلدان أوروبا خاصة هولاندا والدانمارك، واستمرت إلى يومنا هذا.
انتفاضة 1984: «الأوباش» يثورون مرة جديدة ضد النظام
عٌرِفت انتفاضة 1984 بانتفاضة «الخبز»، وقد قامت في أنحاء المغرب جراء الأزمة الاقتصادية التي عرفها المغرب في تلك الفترة، فقد ساءت الظروف الاجتماعية للمغاربة، وارتفع معدل البطالة والفقر، نتيجة لسياسة الملك الحسن الثاني وإنفاقه على حرب الصحراء، وأفلس المغرب فبلغت ديونه ما يقارب 7 مليار دولار.
لكن أهل الريف كانوا يعانون من أزمة أخرى مرتبطة بتهريب السلع والبضائع من مليلية المحتلة، والذي كان مصدر رزق سكان مدينة «الناظور»، لكن النظام فرض عليهم رسومًا للدخول لمليلية، كما فرض رسوم تسجيل إضافية على طلاب الباكالوريا (الثانوية) والجامعات، ما أدى إلى تردي الوضع واحتداد الانتفاضة في الناظور على الأخص. مظاهرات طلابية وعمالية أطلقت الشرارة الأولى للانتفاضة في 19 يناير 1984، انتهت بقمع دموي من طرف النظام، استٌخْدِم فيه الرصاص الحي لتفريق المظاهرات، فأسفر عن عشرات القتلى ومئات الجرحى في كل من الناظور والحسيمة وتطوان.
في 22 يناير 1984، ألقى الملك الحسن الثاني خطابه الشهير المعروف بـ«خطاب الرعب»، فوصف فيه سكان هذه المدن بالأوباش، واحتدمت لغة خطابه الذي كان بالدارجة المغربية على عكس المعتاد، ووجَّه فيه تهديدًا صريحًا لهم مذكرًا إياهم بأحداث 1957.
هؤلاء «الأوباش» هم من كتبوا تاريخهم بتحرير مناطقهم من الاحتلال، فلم يقبلوا باستعمار أو أسياد، وثاروا من أجل الحرية والحياة الكريمة، ربما لم يتحقق ذلك واستمر الوضع كما هو، لكنهم أثبتوا أنهم لن يخضعوا للظلم دون مقاومته.
سارة الرّايس