صُنَّاع الإعلام: كيف سحروا أعين الناس واسترهبوهم؟
حينما تنزل ضيفًا عند إنسان بسيط الحال قد يختصر سؤاله في كلمتين: «شاي أم قهوة؟». العرض بهذه الطريقة فيه نوع من الذكاء الفطري، إذ هو محصور بين شيئين يمكن تلبية أحدهما بسهولة.
قريب من هذا ما تفعله ابنتي ذات السنوات الستة، عندما تسألني ابتداءً عن لون شَعر «العروسة» التي سأشتريها لها، في حين أني لم أعِدها بشرائها من الأساس، لكنها تطرح السؤال بما يجعل الشراء أمرًا متَّفقًا عليه، ويحصر نقطة النقاش في لون شعرها!
إذا كانت العملية اللغوية لا يمكن إتمامها دون استكمال شروطها الأربعة: المرسِل والمستقبِل والوسيلة والسياق، فهل يمكن التحكم في الوسيلة والسياق لصياغة اللغة في حوار ما، لنحصل على استجابة «فاقد الوعي» كما يحلو للبعض أن يسميها، أي الحصول على الإجابة التي نريدها تمامًا؟ وهل يمكن التأثير في تفكير الطرف الثاني بحيث يتوجه إلى ما يريده الطرف الأول؟ بمعنى آخر: هل يمكن للصياغة اللغوية أن تبني علاقة مباشرة بين المرسِل والمستقبِل، تجعل أحدهما يتحكم في ردود أفعال الآخر؟
إن هذا الأمر ذو أثر عظيم في المفاوضات السياسية والقانونية والأعمال التجارية (المبيعات والتسويق)، وفي وسائل الإعلام، وحتى في أي حوار بين طرفين، لكنه ربما يظل مثار جدل وخلاف مدةً طويلةً بسبب ندرة ما أُجرِيَ من دراساتٍ حوله حتى الآن، ولأنه في كثير من الأحيان يُعد «غير أخلاقي».
أدوات لغوية وشروط سياقية
هناك عناصر ضمن هذا الأمر يمكن تأكيد وجودها بحكم الواقع، بعضها يتعلق بشروط العملية التواصلية، والآخر يتعلق بالوسائل، فمن ضمن شروطها على سبيل المثال أن يخاطَب المستقبِل بلغته الأصلية، وأن يكون المستوى اللغوي المستعمَل في الحوار موحَّدًا بين الطرفين، وليس أعلى من المستوى المألوف لدى المخاطَب.
المطلوب في تلك الحالة أن يقفز العقل إلى الاستجابة المباشرة دون بذل كثير من المجهود، فذلك المجهود ينقله إلى حالة اليقظة التي ربما تحبط محاولة التأثير في وعيه، ولذلك كانت المنشورات التي وُزِّعت على الجمهور في 25 يناير 2011 في مصر باللهجة العامية البسيطة (إلى درجة التفكك أحيانًا)، وبعبارات شعبية يفهمها كل إنسان، على غرار: «تثور بحدائة كذا، والمقصود المقابل العامي لكلمة (حذاقة) أي إتقان»، «حكومة يكون قلبها على الشعب المصري، عشان حق الشهدا، انزل خد حقك... إلخ»، كما ترى في هذا الكتيب الذي انتشر قبل الثورة.
ومن ضمن الوسائل المستعمَلة في وسائل الإعلام على سبيل المثال: الاستبدال، بمعنى إحلال لفظ محل آخر، لرسم صورة ذهنية معينة، ويختلف ذلك باختلاف مصدر الخبر وتنوُّع المخاطَبين به، ويمكن رؤية كثير من الثنائيات مثل: «المقاومة الوطنية/ الإرهابيين، شهداء/ قتلى، هجوم مسلح/ عمل إرهابي، قوات/ مليشيات، زعيم الأغلبية/ المسؤول الكبير في الحزب، جيش الدفاع/ قوات الاحتلال».
قد يعجبك أيضًا: إنهم يخدعوننا: الإرهاب ليس خطيرًا كما نظن
مع الاختيار من بين هذه الكلمات والتعبيرات يتأثر القارئ تعاطفًا وشماتةً، تشجيعًا وتثبيطًا، فخرًا وشعورًا بالعار، وقد تجد الخبر نفسه على موقعين مختلفين، وكلاهما يستخدم قاموس ألفاظ خاصًّا، يوافق توجُّه الجهة المصدِرة والجمهور المستهدَف.
ترجمة الصورة إلى معلومة داخل المخ تستغرق وقتًا أقل بكثير من ترجمة النص، فالنصوص تستغرق 100 جزء من الثانية، أما الصور، فلا تستغرق إلا 13 جزءًا من الثانية.
على مستوى أعلى قليلًا نجد الدعابة، أو التورية والتلاعب بالألفاظ، والتي تحمل قدرًا غير يسير من تشتيت الانتباه لما تُحدثه من إجهاد للمخ، فوفق دراسة بجامعة وندسور في أونتاريو، يجري إدراك المعنى الأصلي المتوقع للكلام من خلال النصف الأيسر للدماغ، ثم يحدث التواصل مع النصف الأيمن الذي يرشد إلى معنى آخر مناقض لم يكن متوقعًا، وهذا المزيج من التوقع والتناقض، يُحدِث التواصل بين نصفي الدماغ، فتأتي «إعادة التفسير المفاجئة»، كما في المثال الذي ذكرته الدراسة: لقد أحلوا برتقالة محل كرة البيسبول لإضافة بعض الشهية إلى اللعبة.
لا شك أن التورية تُحدِث تأثير الدعابة، لكنها أيضًا يمكن أن تكون مسرحًا مناسبًا لعملية «تضليل» أو «استدراج» أو «تحذير»، وفق سياقها وما يرتبط بها من أحداث محيطة، كما نجد في حوار للرئيس السابق مبارك مع مذيعة أمريكية حول استرداد طابا، وما إذا كان من الممكن أن تستبدل بها مصر بعض الامتيازات التي تحتاجها، فقال: «هل يمكنكِ استبدال أحد أطفالك؟». وهكذا كان السؤال تورية تحمل الدعابة والتحذير في الوقت نفسه.
التأثير السحري للصور
الصور رغم كونها وسيلة غير لغوية، يُعتمَد عليها في كثير من الأحيان للتأثير في الوعي، ولذلك انتشرت مؤخرًا استعانة بعض المواقع الإخبارية بصور قديمة لأحداث مماثِلة سعيًا لتضخيم صورة حدث جديد ليس لديهم من صُوَرِه ما يكفي، أو هو مختلَق من الأساس، وهذا لأن التأثير الكبير للصور مثبَت علميًّا.
تشير دراسة نُشِرت في معهد ماساتشيوستس للتكنولوجيا (MIT) إلى أن عملية ترجمة الصورة إلى معلومة داخل المخ تستغرق وقتًا أقل بكثير من عملية ترجمة النص، فترجمة النصوص تستغرق قرابة 100 جزء من الثانية، أما ترجمة الصور، فلا تستغرق إلا 13 جزءًا من الثانية. لذلك تمثل الصور 90% من المعلومات التي يخزنها المخ لأنه يميل إلى التقاط المعلومات سهلة الترجمة.
لعلنا ندرك الآن لماذا تمثل الصور جزءًا كبيرًا من الإدارة الإعلامية للحروب والثورات، ونعلم الأهمية الكبرى مثلًا لما تابعناه من خبر القبض على أشخاص يصوِّرون طفلة ترتدي فستانًا ملطخًا بالدماء في منزل متهدم بين بورسعيد والإسماعيلية لفبركة خبر عن حلب وإثارة الرأي العام. إضافة إلى كثير من الصور القديمة لشهداء ومصابين في فلسطين قدمتها بعض المواقع الإخبارية وصفحات فيسبوك على أنها ضمن أحداث سوريا.
العلاقة الجديدة بين اللغة ووسائل الإعلام أنتجت شيئًا يتجاوز توصيل المعلومة بكثير لأنه يستهدف خلق الرأي العام وصناعة التوجه الفكري، أو على الأقل التأثير فيه.
أمرٌ آخر يبرز التأثير في الوعي من خلال الأرقام يتعلق بالتلاعب بانتباه القارئ، وتستغل بعض المواقع ذلك الأمر سعيًا إلى تضخيم بعض الأحداث،
على سبيل المثال يُسفِر حدثٌ ما عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة 68 شخصًا، فيأتي عنوان الخبر جامعًا بين أرقام المتوفين والمصابين في آن واحد ليكون مثلًا: مقتل وإصابة أكثر من 70. وهذا عنوان ليس من الموضوعية في شيء بقدر ما يستهدف الإثارة والتضخيم وجذب الانتباه، وربما يكون العنوان على مواقع التواصل الاجتماعي والتفاصيل على موقع الصحيفة، فيتقاعس القارئ عن فتح الموقع، ويكتفي بهذا العنوان المبتور المضلِّل.
اقرأ أيضًا: إسعاد يونس: إعلام يوافق هوى الدولة
لقد باتت وسائل الإعلام ووكالات التسويق أكثر ذكاءً في استخدام اللغة والأرقام والسياق المحيط من صور ومقاطع فيديو وخرائط وسوى ذلك، وارتبطت التجارة بالإعلام، فصارت لغة الإعلان كذلك صناعة متقنة للتأثير في المجتمع، وخلق القوة الشرائية وتوجيهها، ولذلك بات مفهومنا عن الإعلام وفكرة توصيل المعلومة بحاجة إلى إعادة نظر.
العلاقة الجديدة بين اللغة ووسائل الإعلام أنتجت شيئًا يتجاوز توصيل المعلومة بكثير لأنه يستهدف مباشرة خلق الرأي العام وصناعة التوجه الفكري لدى المتلقي أو على الأقل التأثير فيه، وربما يكون ذلك تفسيرًا لظاهرة أضحت منتشرة أكثر من ذي قبل، وهي أن تجد شريحة كبرى من المجتمع فجأة مقتنعة بفكرة معينة على اختلاف توجهاتها، وكأنَّ سِحرًا قد أثر في الجميع على غير اتفاق، وربما تكون هذه هي الطفرة اللغوية القادمة حتمًا.
صالح الشاعر