الحياة كفيلم خيال علمي: يوميات العيش مع «كورونا» 

أحمد محمدي
نشر في 2020/02/25

الصورة: pixabay

تبدأ معظم أفلام وكتب الرعب والخيال العلمي بخطر داهم يهدد حياة ملايين البشر. يحاول الأبطال النجاة من الموت، وإنهاء الخطر والعودة للحياة الطبيعية مرة أخرى. يبدأ الأبطال المواجهة والهروب وتظل النتائج معروفة: إما الموت، أو النجاة، أو المواجهة في أجزاء قادمة.

يتخلل تلك الكتب والأفلام الكثير من العبر والحكم عن التضحية والشجاعة والسذاجة والجبن والخسة، لحظات الضعف ومواجهة الموت. لا أكترث أنا ولا محبو ذلك النوع من الكتب والأفلام بتلك الحكم والعبر كثيرًا، نكترث فقط بالمتعة والإثارة، نشاهد بانتظار دفعة الأدرينالين، نتماهى مع الأبطال وانتصاراتهم.

أتذكر الآن خيبة الأمل التي أصابتني بعد انتهائي من مشاهدة فيلم «The Mist» المقتبس عن إحدى روايات ستيفن كينج، ظللت طوال اليوم أردد: «كان يصبر شوية وكان كله هيعيش، ما أنا كنت غالبًا هعمل زيه لو كنت مكانه بس الفيلم حلو، الفيلم حلو».

أعيش كما تعيش مدينة ووهان الصينية ظروفًا تبدو كأحد سيناريوهات أفلام الرعب أو الخيال العلمي، المدينة تحت الحجر الصحي، لا أحد يستطيع الخروج، والدخول مسموح لعدد قليل من الأشخاص، المواصلات العامة مغلقة، والشوارع فارغة، والخوف يسيطر على الجميع.

تسلمنا نحن المغتربين كباقي مواطنين المدينة رسائل هاتفية تنصح بعدم الخروج من المنزل إلا للضرورة، تجلس في منزلك طوال اليوم، لا تخرج إلا حين تنفد المواد الغذائية، حينها ترتدي الكمامة لتشتري ما يبقيك على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة، فالخروج من المنزل يزيد فرص الإصابة بالفيروس الغامض. مع الوقت، يتحول المنزل من مكان آمن إلى سجن. 

مواجهة الموت

سمعت لأول مرة بالمرض في نهاية ديسمبر 2019، لم أهتم كثيرًا بالموضوع حتى بدأت الأخبار تتوالى عن الإصابات وانتشار المرض الغامض، وفي نفس التوقيت كان عدد كبير من الأصدقاء يعودون إلى بلدانهم وكذلك الطلبة الصينيين إلى مدنهم بمناسبة إجازة منتصف العام واحتفالات رأس السنة الصينية.

كعادتي، أبقى في المدينة في هذا التوقيت، وكالعادة تهدأ المدينة وتخلو الشوارع من المارة في الأسبوع الأول من العيد، هذا العام تخلو شوارع المدينة لسبب مختلف: فيروس كورونا المستجد «كوفيد-19».

أقف في أحد ممرات المستشفى ممازحًا عمي الذي يسكن ويعمل في نفس المدينة: «هنموت كلنا ولا إيه؟». يرد وعلى وجهه علامات القلق: «ربنا يستر، أنا بفكر أرجع مصر، تيجي ننزل؟».

كنا في المستشفى بسبب مرض ابنه الصغير بالتهاب رئوي اعتدنا إصابته به، وكانت هذه سنتي الدراسية الأخيرة، تصعب العودة، أجبته باسمًا بأن ننتظر حتى نرى ما سيحصل.

على مدار ثلاثة أيام متتالية تغير الوضع. بدأ الجميع في ارتداء الكمامات، وقل عدد القادمين للمستشفى في اليوم الرابع، وعادت عائلة عمي للمنزل.

في ظهيرة اليوم الخامس، أُعلن عن وضع المدينة تحت الحجر الصحي وإغلاق كل منافذ الخروج والدخول. عُلقت كل رحلات الطيران من وإلى مطار ووهان تيان الدولي، وبدأ الجميع في شراء المواد الغذائية، فمعظم المحلات تغلق غدًا. حاول كثير من سكان المدينة الخروج منها تلك الليلة، فقد منحت الحكومة مهلة حتى العاشرة صباح اليوم التالي للسفر لمن كان قد حجز تذاكر بالفعل. بالطبع لم يمنع هذا من لا يحمل تذكرة من محاولة الخروج. أجريت الكثير من الاتصالات للاطمئنان على اصدقائي، ووصلني الكثير في محاولة لفهم وضعنا والتطورات التي قد تحدث. نحن تحت الحجر، لا مفر الآن.

جسم يفترش الأرض

الصورة: health.mil

أتابع أعداد الإصابات بالمرض وأعداد الوفيات التي تزداد يوميًا بشكل كبير، لا شيء يوقف عمل الفيروس حتى الآن.

كلنا نعلم حقيقة الموت، لكن الإحساس به يختلف حين تعلم أنه حولك، قريب فعال قد تقابله في أي لحظة. أرى ذلك في كل مكان أذهب إليه في المدينة، أشياء بسيطة مثل كحة عادية تتبعها نظرات ريبة، أو محاولة زيارة صديق يتبعها اعتذار واهٍ، أو مشاركة صورة على وسائل التواصل الاجتماعي يتبعها سيل من الرسائل تنصحك بعدم الخروج والعودة للمنزل.

حاولنا أنا وصديق لي الذهاب للسوق العربي لشراء بعض الحاجيات، ذهبنا سيرًا على الأقدام وفي الطريق رأيت سيارة إسعاف تقف في الشارع المقابل، بعدها بخطوات شاهدت ثلاثة أشخاص يرتدون تلك البدلة الواقية البيضاء التي رأيتها من قبل في مقاطع فيديو التُقطت من أماكن مختلفة داخل المدينة، رجل شرطة يصيح في المارين ليبتعدوا عن المكان، يتحرك الرجال الثلاثة تجاه جسم يفترش الأرض، يغطيه أحدهم بكيس، نتحرك أنا وزميلي ويظل نظرنا على ما يحدث، لم أستطع أنا أو هو تحديد ماهية الجسم.

تناولنا الطعام في أحد المطاعم الإسلامية في طريق عودتنا للسكن، ولم نخبر أحدًا بما شاهدنا، ولم نتحدث عنه مرة أخرى، باستثناء مرة واحدة كمزحة بعد أن قررنا أننا لن نعود إلى مصر وسنظل في المدينة. 

محاولات النجاة 

بعكس ما توقعت، بعد فرض إجراءات الحجر الصحي عاد معظم الطلبة الأجانب إلى بلدانهم، وبقي عدد قليل ممن اختار البقاء أو ممن رفضت بلاده إجراء الإخلاء كباكستان. نحاول أن نمارس حياتنا بشكل طبيعي قدر الإمكان، من لم يتملكهم الخوف بعد يتنقلون من دور لآخر في زيارات متبادلة داخل السكن الجامعي لقتل الملل.

يطبخ الطلاب الباكستانيون كل يوم تقريبًا مرتدين الكمامات، رائحة البرياني (أكلة باكستانية) تسبح في المبنى خاصة في أوقات الغداء والعشاء. وفجأة، يطالب بعض الطلبة في مجموعة السكن على هواتفنا بتوفير الطعام للطلبة ومنعهم من الخروج أسوة بجامعات أخرى في نفس المدينة. يحتد النقاش، ثم ينتهي ويعود الهدوء. نتشارك اخبار الفيروس، المزاح بشأن حياتنا، السؤال عن خدمات غابت بعد فرض الحجر الصحي. تظل مياه الشرب والغسيل أزمة، لك أن تتخيل أن الغسيل أكبر مشاكلنا الآن. حاولت إدارة الجامعة توفير مياه الشرب دون جدوى، كل شركات المياه مغلقة الآن، يحاول بعضنا استخدام مياه الصنبور (الحنفية) لكنها لا تصلح على الأقل بالنسبة لي. هكذا تصبح أمور عادية جدًا أزمات تحت الحجر الصحي، لا بديل، عليك أن تتأقلم.

بعد إغلاق المدينة وفرض الحجر الصحي توقف كل شيء، احتاجت المدينة يومين تقريبًا لاستيعاب ما يحدث. خلال وقت قصير، دُعيت لمجموعة على برنامج وي شات، النسخة الصينية من واتس آب، يحاول جمع كل المقيمين في المدينة من المصريين، يعرّف شخص من أعضاء المجموعة عن نفسه ويشير إلى أنه يمثل السفارة المصرية في الصين، يطلب من كل الأعضاء إرسال بياناتهم للسفارة لمحاولة معرفة عدد المصريين للتواصل معهم والاطمئنان عليهم.

تقول لي صديقتي الصينية: «أنا خائفة ومصدومة مما يحدث».

بدأ بعضنا يحاول طلب الرجوع لمصر نظرًا للحالة الحالية، فأتى الرد سريعًا بأن لا رحيل عن المدينة وأن كل الجاليات الأجنبية باقية. زاد الضغط مع كل يوم جديد، فالغالبية تطالب بالرحيل، ويأتي الرد حاملًا نفس الإجابة.

أحاول استخدام تويتر وفيسبوك لمعرفة الأخبار باستخدام VPN لدخول تلك المواقع الممنوعة في الصين، وأتابع التعليقات من أرجاء العالم. ووهان أصبحت مركز الحدث، يشتعل تويتر بالإشاعات والتعليقات العنصرية وأتابعها بصمت، حتى قررت أن أكتب عما نمر به وأوثق اللحظة لدحض بعض تلك الشائعات.

كنت أطمئن على أصدقائي الووهانيين من خلال الرسائل والأحاديث اليومية. تقول لي صديقتي الصينية: «أنا خائفة ومصدومة مما يحدث»، فأرد عليها: «نعم، الوضع صعب والكل خائف». ترسل لي صورة كلبها مرتديًا كمامة، فأضحك وينتهي الحوار مع رسالة اخيرة منها: «حافظ على نفسك وارتدِ الكمامة حين تخرج. تبدو مرتاحًا وهادئًا وهذا جيد. إلى اللقاء».

أتساءل: هادئ أم غير مبالٍ؟ هل أنا فعلًا غير مبالٍ لهذه الدرجة؟ لدرجة مواجهة المرض والموت؟ كيف لي أن أقصر حدثًا بهذا الحجم على نفسي؟ هل أنا أناني؟ أسئلة تظل معي وأطرحها على نفسي كل يوم.

الإجلاء التام أو الموت الزؤام: البقاء والمغادرة كدافع للحياة

توالت الأخبار بعد إجلاء الجالية الأمريكية من ووهان، الآن إجلاء باقي الجاليات وارد وممكن، لم أصدق أن الصين ستسمح بخروج الجاليات الأجنبية خصوصًا بعد فرض إجراءات الحجر الصحي في المدينة لاحتواء المرض، بدأت مناشدات الطلبة لبلادها في لقاءات تلفزيونية، ومشاركة فيديوهات تصف الوضع في المدينة، لا يخلو بعضها من المبالغة عبر فيسبوك.

استجابت الأردن وأعلنت إرسال طائرة من خطوطها الجوية لإجلاء الطلبة الأردنيين والفلسطينيين، وأشعل هذا الخبر المجموعة المصرية. لم يتوقف أعضاؤها عن إرسال رسائل تلح على طلب الإجلاء، فأتى الرد هذه المرة بأن السفارة المصرية تسعى للإجلاء لكنها تعمل في صمت، ولن يُصرّح بشيء إلا إذا كان مؤكدًا.

لم أشترك في التعليقات على صفحة المجموعة، كنت قد اتخذت قرارًا مبدئيًا بالبقاء حتى لو حدث الإجلاء، لأسباب عدة ومنها بالطبع عدم ثقتي في السلطات المصرية لتجاربي السابقة معها. اتصلت بأحد أصدقائي الأردنيين للتأكد من الخبر: «مظبوط مظبوط هالحكي»، هكذا تأكدت. 

أحد أصدقائي المقربين من بنغلاديش، والذي التقيت به في فصول تعلم اللغة الصينية وتوطدت صداقتنا واستمرت، وقد كان حاصلًا على تدريب مدفوع الأجر في مدينة شنغهاي وسافر قبل انتشار المرض وإغلاق المدينة، يخبرني أنه قد استُدعي لمكتب العاملين وسُؤل عن مكان إقامته الدائم في الصين، فأجاب بأنه من مدينة ووهان، فنُقل إلى السكن في مبنى خاوٍ من الموظفين وصار الكشف الطبي بالنسبة له إجراء يومي.

«يفضل عدم خروجك»، قالها ساخرًا وأضاف: «كيف سأعيش هنا وحدي يا صديقي؟ يعاملونني كالوباء. أتفهم دافعهم، لكني معافَى». يستشعر أني لن أضيف جديدًا فيتابع كلامه: «أحاول الخروج حين يحل الليل، لكنك تعرف، هناك كاميرات مراقبة في كل مكان، فيعلمون بخروجي».

في محادثة أخرى قال لي بأن الشرطة الصينية أرسلت ضابطًا لغرفته أهداه طعاما وسجائر وبيرة، ثم أعطاه رقم هاتف وطمأنه: «إذا أردت شيئًا من الخارج، اتصل بهذا الرقم».

تقرر موعد إجلاء الجالية الأردنية والفلسطينية فقابلت صديقي وودعته، وشاركت الخبر على تويتر مع الأخبار التي أشاركها يوميًا عن أعداد الإصابات والوفيات، لكني قابلته بعدها إذ تأجل موعد السفر.

في نفس اليوم اجتمع ممثلو سفارات الجاليات الأجنبية في ووهان مع ممثل وزارة الخارجية الصينية، وازدادت الرسائل على مجموعة الجالية المصرية ولم تتوقف لأيام: طلب إجلاء، سخط على الحكومة المصرية، طلب إجلاء آخر.

أرسل السفير المصري رسالة صوتية في محاولة لتهدئة الوضع، مؤكدًا استمرار محاولات السفارة. بعد أيام سافرت جاليات الأردن وتركيا والهند وكوريا الجنوبية وسريلانكا وألمانيا، وأرسل ممثل السفارة في المجموعة المصرية أكثر من طلب لإرسال بيانات الجميع، واستمر ماراثون الطلب والرجاء والسخط.

قررت أن أسأل الدكتورة المشرفة على رسالة الماجستير، فطمأنتني وأخبرتني أن أي قرار أتخذه لن يحول دون مساعدتها، وأنها تتفهم خطورة الوضع.

مرت أيام على هذا الحال، وأخيرًا أرسل ممثل السفارة رسالة بأن عملية الإجلاء ستحدث قريبًا، وأرفق معها استمارة توجب على كل شخص كتابة بياناته وتحديد رغبته في السفر من عدمها. أرسل الملف في وقت متأخر من الليل، مع تنويه بأن التسجيل سيتوقف في الثانية ظهر اليوم التالي.

سهرنا أنا وزميلي في الجامعة في غرفتي تلك الليلة، نصحني عمي بإعادة التفكير في قرار عدم السفر، لم أتخيل أني سأحتار هكذا. في الصباح الباكر قررنا النزول لشراء بعض الطعام، وظللنا نناقش الموضوع حتى توقف عقلي عن العمل. كنت أميل إلى قرار البقاء، لكن التفكير في عائلتي ووالدتي بالتحديد أتعبني.

حاولت الاتصال بعائلتي أكثر من مرة، لم يرد أحد ففارق التوقيت ست ساعات تقريبًا، وعلى الأغلب الكل نيام. قررت أن أسأل الدكتورة المشرفة على رسالة الماجستير، فطمأنتني وأخبرتني أن أي قرار أتخذه لن يحول دون مساعدتها، وأنها تتفهم خطورة الوضع.

أتحدث مع صديقي لمحاولة التوصل لقرار نهائي. كانت أسباب عودتنا لمصر واضحة، المرض ينتشر بشكل سريع وكلنا عرضة للإصابة به. كل أسباب عدم السفر كانت تبدو واهية في مقابل خطر الإصابة بالفيروس والموت المحقق. قررنا السفر، وفي اللحظات الأخيرة سجلنا الاستمارة. حاولت إنهاء كتابة أوراق التقديم إلى إحدى الجامعات الأوروبية للحصول على منحة الماجستير في القانون، لكني وصديقي أعدنا التفكير مرة أخرى وقررنا التراجع.

لن نسافر، البقاء في مصر دون عمل قد يقتلني. نقلُ المرض لأي شخص في مصر قد يقتلني. نعم أنا غير مصاب، لكن قد يصاب أحدنا لا قدر الله. سنظل معزولين 14 يومًا لكن كل الاحتمالات واردة، خاصة أن السلطات المصرية لا تعلم الكثير عن المرض.

طمأنتني الدكتورة المشرفة، لكن هذا هو آخر عام لي في الجامعة ومن المفترض أن أتخرج في شهر يونيو، ولا أضمن الجامعة ولا قرارتها. هكذا قررت التراجع والبقاء في المدينة، وأرسلنا طلب عدم الرغبة لممثل السفارة وانتهى الأمر.

على مر ثلاثة أيام طلب مني عمي إعادة التفكير أكثر من مرة، لم أتراجع، تابعت إجراءات تحضير سفر أعضاء المجموعة وترتيبات الانتقال للمطار. لم تتوفر معلومات كثيرة عن مكان الحجر الصحي في مصر. حاول بعضنا معرفة المكان، ثم انتشر الخبر في القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي: مدينة مرسى مطروح هي إذًا مكان الحجر الصحي للعائدين من الصين. سافرت الجالية المصرية ووصلت بسلام.

لعل الأبطال ينجون

الصورة: Pau Colominas

اتصلت بي والدتي التي لم أكن أدري بمعرفتها تفاصيل ما يحدث في ووهان، نهرتني على قرار عدم السفر: «أنا مش عارفة أنا ربيتكم ليه على إن كل واحد يعمل اللي في دماغه، تعبتوني والله يابني». 

حاولتُ تلطيف الأجواء: «معلش ماهو أنا عارف ظروفي إيه، وبعدين ما إحنا كده كده هنموت»، ردت: «يابني انت مستبيع كده ليه؟ يعني تروح للموت وبعدها تقول كده كده هنموت؟».

استمرت المكالمة على هذا المنوال وانتهت بـ«قلبي وربي راضيين عنك يابني، ربنا يحميك يا حبيبي».

أعدت التفكير في الأسئلة التي أطرحها على نفسي: هل أنا أناني لاختياري البقاء؟ هل أنا مستهتر ومتهور كما اتهمني أحد أصدقائي حين أخبرته بالقرار؟

أتخيل الآن كم القرارات والاختيارات التي اتخذها سكان المدينة، أكره التفكير في حسابات المكسب والخسارة لكني أستخدمها، نختار ما نراه صحيحًا: المكسب، وننتظر نتيجة الاختيار لعلها تكون النجاة.

أشغل نفسي بمتابعة الأخبار يوميًا لمعرفة ما يحدث حولي، ووسط محاولة إنهاء رسالة الماجستير، ومشاهدة الأفلام والمسلسلات، عوضًا عن مقابلة بعض الأصدقاء الباقين في السكن الجامعي، فأسمع كل يوم عن جالية جديدة تغادر ووهان، حتى قررت أن أقرأ عن الموت أكثر وأعيد مشاهدة محاضرات شيلي كاجان عنه.

أبقى هنا مع من تبقى في مواجهة المرض، ولا أنظر للموضوع كحرب بل أتعامل مع المرض على أنه أمر طبيعي، ومعادلة النصر والهزيمة لا أراها يصح استخدامها معه. أشعر بالحزن لحال المدينة التي أحبها، ولآلاف الوفيات والإصابات، وللخسائر التي تكبدها سكانها، وللصين عمومًا. تتحمل الحكومة الصينية مسؤولية كل ما حدث، ولكني أعلم أني اتخذت قرار الدراسة في الصين لا سويسرا.

في بعض الأحيان أستغرب التعليقات على الصور من ووهان: «تبدو كأفلام الخيال العلمي». هكذا يرى كثير من الناس ما يحدث هنا، ألم نرَ انتشار مرض سارس في الصين من قبل، وإيبولا والإيدز وجنون البقر وإنفلونزا الطيور والخنازير، وتاريخيًا الإنفلونزا الإسبانية و الطاعون، كل ما يحدث قد حدث عشرات المرات على الأقل لكنه لم يحدث لي، أعتقد أن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في نشر تلك الصورة، لنقارن صورة من ووهان وصورة من أحد الأفلام، ها هو التشابه. باعتقادي أننا لو احتجنا أن نشبه الوضع بفيلم، فقد أختار الدراما لا الرعب أو الخيال العلمي، فهي أقرب إلى الواقع. مخالفا تلك الفكرة، سأنهي حديثي مستعينًا بنهاية «The Mist» الكتاب لا الفيلم، حين يستمر ديفيد هو ومن معه في قيادة سيارته في الضباب محاولًا الهروب من الوحوش بعد أن استمع إلى نداء على الراديو، لعل الأبطال ينجون وينتصر الخيال.

أحمد محمدي