تجربة شخصية: جيل الألفية والاتجاه يسارًا
ما الذي يجعل اليسار جذابًا للجيل الذي وُعد بنظام دولي جديد، بالسوق الحرة والديمقراطية وتحقيق الذات؟ ما الذي يجعل تلك الأفكار الماركسية الماضوية تتسرب إلى جيل المستقبل، جيل الألفية الثالثة؟ ما الذي أعاد التاريخ للوراء بعد التبشير بنهايته؟
أهدف في هذه التدوينة إلى عرض أجوبة لهذه التساؤلات من خلال تجربتي الشخصية في اليسار. لن يكون الأمر بحثًا علميًا رصينًا أو استبيانًا لشريحة عمرية ما، بل تجربة شخصية أرى أنها تقدم اتجاهًا من الاتجاهات البارزة لدى جيل الألفية، وتبرز الصوت الغائب لهذه الحقبة العمرية. لعلي أبالغ في تقديم تدوينتي، لكن هذه تجربتي الشخصية، تجربة شخص ينتمي لجيل من أكثر الأجيال تمركزًا على الشخصي والذاتي.
سياق شخصي
أنا مشاري، وُلدت في مارس 2001 في الكويت، في العالم العربي، أو كما تسميه الأدبيات الغربية «الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» (MENA).
ولدت في منطقة عربية تزداد تمزقًا منذ طفولتي حتى مراهقتي القريبة، بسياسات عسكرية وعقوبات تستهدف الدولة الوطنية كما حدث باحتلال العراق وتدخل الناتو في ليبيا، وسياسات تفكيك نظم الرعاية الاجتماعية منذ الانفتاح الاقتصادي في عقدي الثمانينيات/التسعينيات، وتزداد وتيرةً بدعم المؤسسات المالية الدولية وضغط المجتمع الدولي، وصراع طائفي مستعر بين الشقين الشيعي والسني وصراع عربي صهيوني يديم حالة العسكرة وحالة اللااستقرار والركود.
لطالما كان الدافع رغبة في تغيير العالم، رغبة في الحلم برؤية ما هو أبعد من المفروض علينا، خارج المنظور الرسمي والاستشراقي الغربي حول العالم وخياراتنا.
كبرت في منطقة حُكم عليها بقدرية التخلف والانحطاط، بلا تفسير غير التفسيرات التي تنحو نحو الثقافوية (رد التخلف إلى الثقافة والدين والتاريخ) وأحيانًا بشكل مستتر نحو العرقانية، التي تعيد إنتاج السرديات الاستعمارية حول الرجل الأبيض والرجل الملون والثنائيات التي تحكم العلاقة. لم أرَ نفسي إلا بين من يدعو المارينز للقدوم لإتمام مهمة الرجل الأبيض الحضارية، ومن يتحسر على الماضي ويحن إليه، سواء كان الماضي ليبراليًا يتمثل في الملكيات الهاشمية والعلوية بمصر، أو سلفيًا متخيلًا يريد الرجوع إلى مملكة الله.
من هذا السياق نشأ فشل الدولة الوطنية، واستنفاد الحركات الإسلامية قواها وجاذبيتها، واحتضار الحركات القومية، وتجذر اللامساواة الاجتماعية والتفكك الطائفي والاجتماعي والإمبريالية الغربية. لم يبقَ لي كشاب إلا الفراغ. لا شيء أمامي لأؤمن به أمام احتضار كل المثل والأفكار الكبرى: الدين، والعائلة، والوطن. لم يعد شيء يتصل بواقعي وآمالي في ألفيتنا الثالثة.
من هنا بدأت بوصلتي تتجه إلى اليسار.
أي يسار؟
هذا ما يمكنني قوله حول ما أعنيه باليسار: انعكاس لحالة شعورية بالإقصاء، وفقدان الاتصال بالمؤسسات القائمة، واليأس. ولذلك لطالما ارتبط الشخصي بالسياسي.
لكن لطالما كان الدافع رغبة في تغيير العالم، رغبة في الحلم برؤية ما هو أبعد من المفروض علينا، خارج المنظور الرسمي والاستشراقي الغربي حول العالم وخياراتنا. البذرة دائمًا كانت شعورًا بالغربة وعدم الانتماء، كشاب في عالم لم يُخلق لي ولم أشارك في خلقه.
لذلك هذا ما يمكنني قوله حول ما أعنيه باليسار: انعكاس لحالة شعورية بالإقصاء، وفقدان الاتصال بالمؤسسات القائمة، واليأس. ولذلك لطالما ارتبط الشخصي بالسياسي.
ما الذي رأيته؟
كنت أبحث عن تفسير لحقيقة أننا متأخرين أمام تقدم الغرب، ذلك الهم الذي شغل العرب منذ النهضة العربية. وجدت الأجوبة المعتادة محبطة أو تثير صراعات مضجرة: الابتعاد عن الدين وتطبيق الشريعة، أو الاستبداد والانعزال، أو الانغلاق الفكري الذي بدأ بضرب المعتزلة وبروز الخطاب اللاعقلاني السلفي.
لمع بريق في عيني لمَّا قرأت عن المادية التاريخية: فكرة أن أساس البنى الاجتماعية ودرجة تطورها هو قضية الإنتاج، أن الثقافي والسياسي والشخصي وما نراه معياريًا وطبيعيًا يكون نتيجة مباشرة لكيف يتم إنتاج السلع وتبادلها، والعلاقات والبنى التي تدعم العملية هذه، وأن التطور يكون من خلال تطوير نمط الإنتاج وخلق الظروف المادية لهذا التقدم، وكيف أن الظروف المادية للإنتاج هي ما يحدد أزمات وتحولات وتناقضات أي مجتمع/فرد.
لم تعد المسألة قضية ثقافية أو إيمانية أو ذاتية، ولم يعد لوم الذات وكراهيتها ما يشغلني. لم نكن نحن السبب في كل هذا الدمار، كان هناك ما يعلو الثقافي والاجتماعي: الاقتصادي. وجودي يتمركز في بنى طبقية محددة قائمة على موقع كل فئة في بنى الإنتاج، القائمة على خلق اللامساواة والاستغلال.
وجدت الماركسية نموذجًا يرى العلة لما نلاحظه ونعيشه لكن لا نعي ما هو: البنى والقوى والقوانين التي تحكم وجودنا ومعاناتنا ومآزقنا الشخصية والمشتركة.
اللامساواة: هذا هو ما يثير شغفي تجاه الماركسية. كمنتمٍ إلى جيل الألفية الذي شهد الأزمة المالية والخطط التقشفية وازدياد تراكم الثروة وتفكيك دول الرفاه، اللامساواة هي ما يهمني. نحن جيل لم يجنِ الكثير ولم يورَّث أي مكتسب، ويبدو أننا سنشهد سوق عمل تضطر تبعًا للظروف إلى خفض تكلفتها وزيادة استغلال العمال على مستوى وطني ودولي. اللامساواة جُل ما يهم.
الصراع: فكرة أن الصراع هو جوهر التاريخ فكرة منعشة وتجعل الإنسان بطريقة ما سيد تاريخه وقدره، وهي الإطار الذي من خلاله نفهم العلاقة الطبقية الداخلية وعلاقتنا بالغرب، صراع اقتصادي لا اقتتال حضاري ولا حرب دينية، وضمانة لعلاقة تتجاوز ما دون الوطني، كالطائفي والقبلي والمناطقي، إلى ما هو أعلى.
الإمبريالية: عرفها لينين بأنها مرحلة احتكارية للرأسمالية، تتمثل في تركيز احتكاري للإنتاج ورأس المال على مستوى دولي، وتكوين أرستقراطية لرأس المال التمويلي وتمدده. ما يحمي هذا التركيز الاحتكاري هو النزاعات والحروب.
كان هذا هو التفسير الذي يمكن أن يجعلني أفهم سر التفاوت بين الشرق والغرب وما يديمه، فكرة أننا لم نعد البرابرة على أسوار الحضارة الغربية، بل هم البرابرة الذين يستغلون منطقتنا بتخفيض شروط عملها، وتقسيم العمل الدولي الذي يحصرها كمصدر رخيص للمواد الأولية، وتقويض أي محاولة للنهوض والتقدم إلى الأمام. وذلك بدأ منذ إفشال التجربة النهضوية لمحمد علي ومعاهدة بلطة ليمان حتى الحرب المستمرة على الإرهاب.
مع كل هذه الأفكار، رأيت أن الماركسية تقدم لي نموذجًا لما يجب أن أرى من خلاله العالم، بعيدًا عن الجدالات الثقافوية المملة المرتكزة على كراهية الذات والذيلية الحضارية. وجدتها نموذجًا يرى العلة لما نلاحظه ونعيشه لكن لا نعي ما هو: البنى والقوى والقوانين التي تحكم وجودنا ومعاناتنا ومآزقنا الشخصية والمشتركة.
لربما يجب أن يسأل جيل الألفية سؤال «ما العمل؟»، في ظل اقتتال أهلي، ومستويات متزايدة من اللامساواة، وتغير مناخي قاسٍ يتعلق بالنموذج الاقتصادي المدفوع بالربح والجشع، ووضع سائد لا يتصل بنا ولا يثير إلا ضجرنا وكراهيتنا لذاتنا واغترابنا المستمر. «ما العمل؟» هو سؤالنا الذي يجب أن نمتلك الحق في طرحه، والحلم خارج ما قيل لنا ألا نتعداه. نريد الوعد بالجنة، ونريد أن نمتلك الإرادة لنحقق الوعد، فما العمل؟
مشاري المطيري