«كل كويتي رأس»: هل نحن مستعدون للأحزاب السياسية؟
تشكل الكويت حالة فريدة ضمن محيطها الخليجي والغرب آسيوي، بصفتها «شبه ديمقراطية» بالمقارنة مع المقاييس العالمية، أي أن نظامها السياسي لا يلبي إلا بعض اشتراطات الأنظمة الديمقراطية، من نظام سياسي ومسار صناعة القرار ومستوى حرية التعبير. وقد وصلنا إلى الذكرى العشرين لتصريح رئيس مجلس الأمة الأسبق جاسم الخرافي، الذي قال إن «الأحزاب لم يحن وقتها، وكل كويتي يعتبر نفسه رأسًا» في أول صفحة على جريدة القبس في عددها 9990 لسنة 2001، وكان ذلك ردًا على تشكل تكتلات سياسية واستقطابات داخل البرلمان حينها، في ظاهرة عكست أهم التيارات الفكرية والسياسية في البلاد.
يكمل المجتمع الكويتي هذا العام قرنًا كاملًا على بداية سعيه للتوافق على صيغ التمثيل السياسي، فمن الممكن اعتبار مجلس الشورى الذي تأسس عام 1921 أولى المحاولات الجادة لتنظيم السياسة المحلية. أما منذ كتابة الدستور، فقد ترك المشرع قضية الأحزاب دون تقنين، الأمر الذي انتهى إلى نزول المرشحين السياسيين فرادى في كل انتخابات، وذلك بالرغم من وضوح التوجهات الفكرية والأيديولوجية لدى بعضهم، فضلًا عن تمثيل البعض الآخر لخلفيات اجتماعية معينة. بل إن تنظيم العمل السياسي كان محصلة لظروف المنطقة من تصاعد الحركة القومية وتزايد اهتمام العامة بالوعي السياسي، إلا أن هذا التسييس جرى التنفيس عنه عبر قنوات مختلفة مثل الصحافة والاتحادات العمالية وجمعيات النفع العام، دون الدخول في مخاضات العمل الحزبي.
إذا كان التصريح مثيرًا للجدل في حينه، فإنه أكثر إثارة للجدل اليوم، بعد عشرين سنة، وبعد مرور الكثير من الأحداث على الساحة السياسية الكويتية التي تعيد طرح أسئلة مثل: ما الثقافة السياسية في الكويت؟ وما مدى قابليتها للحياة التعددية الحزبية؟
الأحزاب كسلطة جماعية
«ثمة قوة جمعية في الأحزاب السياسية»، هذا ما ذكره الباحث البريطاني «آندرو هيوورد» في كتابه عن السياسة. وذكر ايضًا أن هذه القوة تستمد سلطتها في العادة من تركيبة جماعية وكوادر تُراكم طاقاتها حتى تصل إلى المناصب السياسية. إلا إن قاعدة الأحزاب عادة ما يعجزون عن الحصول على سلطة بمفردهم، كونهم ليسوا من تجار المجتمع ووجهائه القادرين على حشد الجماهير خلفهم، مما يتطلب العمل الجماعي والقدرة على الإقناع بالحجج وحشد العامة خلف الخطاب السياسي.
تصريح رئيس مجلس الأمة الأسبق، وهو من ذات الطبقة الاجتماعية والتجارية التي تتمتع بسلطة اجتماعية، يمثل جدلية تعكس تعارض المصالح بين فئة وأخرى من الشعب، وتكشف بعض مضامين الثقافة السياسية والبنية السياسية المحلية. فما يجعل أحد ممثلي طبقة التجار ينفرد بقيادة سياسية دون مزاحمة من أحزاب هو قدرته على إدارة حملته السياسية وتمويلها، وإدارته لشبكة علاقاته.
متى يحين الأوان المناسب لإشهار الأحزاب؟
هناك عدة إشكاليات تصطدم بها محاولات تحديد توقيت مناسب لاتخاذ قرار سياسي يؤثر على بنية المجتمع والنظام السياسي في البلاد، كقرار إشهار الأحزاب، أولها أن الضوابط التي تحدد الوقت المناسب لهذا التغيير مبهمة، سواء بالاستناد إلى النظريات السياسية في هذا المجال أو التجارب التاريخية التي خاضتها الدول الأخرى في الإقليم والعالم للوصول إلى نظام سياسي حزبي ذي صفة تعددية وديمقراطية. بل إن العديد من تجارب التحولات السياسية فُرضت كأمر واقع ولم تكن اختيارًا شعبيًا أو حكوميًا. أما الحديث عن أن مثل هذا التطور السياسي يتطلب تغييرات قانونية ودستورية فليس مانعًا من العمل عليه، بل إنه قد يدعو إلى المبادرة بالبدء في مرحلة التقييم والدراسة لإحداث مثل هذا التغيير.
منذ وضع الدستور مرت الكويت بمراحل من التغير السياسي الذي لم يسبق لها أن خاضته من قبل، مثل فصل منصب رئاسة الوزراء عن ولاية العهد، ثم الاستجواب البرلماني لرئيس الوزراء للمرة الأولى، ثم تطبيع هذه العملية عبر استجواب رئيس الوزراء لأكثر من مرة. فالانتقال نحو حياة سياسية منظمة حزبيًا ليس فضيلة بحد ذاته، بقدر ما هو ظاهرة تحول سياسي لا بد منها.
الأحزاب الأولية
تحمل التكتلات السياسية في البرلمانات أكثر من مقاربة وتفسير، ويمكن اختزال تلك المقاربات في ثنائية.
في الحالة الأولى، أن تكون مؤشرًا على تكوين رؤى حزبية وبلورتها، مثل الأحزاب الأولية (Proto-Party)، والتي ذكرها الباحث الأمريكي «جون إيشياما» في أبحاثه. هذه الأحزاب الأولوية تزداد انقسامًا مع مرور الزمن، إلى أن تصل لمرحلة التعددية الحزبية. ونجد ذلك ينعكس على الثقافة السياسية في الكويت، التي لا زلنا نشهد شيئًا منها اليوم في وجود بعض الكيانات الأولية مثل الحركة الإسلامية الدستورية والحركة التقدمية الكويتية والمنبر الديمقراطي وغيرها، وهي ظاهرة طبيعية في أي برلمان تمثيلي لشعب لا يُحكم بطريقة شمولية.
أما الحالة الثانية فهي تلك التكتلات التي تؤسَّس داخل البرلمان وبعد الانتخابات، وتأتي بشكل مختلف عن التنظيم السياسي الذي يحمل صفة الحزبية، بمراحل شاسعة على مستوى التنظيم والاتفاق حول المفاهيم والأفكار الأساسية التي ينطلق منها السياسي. وبالإضافة لذلك، نجد أن هذه التكتلات لا تزال خارج الإطار الدستوري، ولا تزال تفتقد الاستمرارية في عملها، ولا تملك البنية التكوينية للأحزاب. ومن أمثلتها: كتلة العمل الوطني، أو كتلة العمل الإسلامي.
ولعل من الدقة الفصل بين التكتلات التي تنشأ بين الحين والآخر في البرلمان، والجماعات السياسية في المجتمع الكويتي التي تصطبغ بصفات الأحزاب الأولية. وكذلك هذا الفصل في الغالب متذبذب، إذ تكونت بعض الأحزاب الأولية من داخل المجلس ككتلة، ثم تبلورت لتكوِّن حزبًا أوليًا على الساحة السياسية مثل حركة العمل الشعبي.
الصراع على السلطة
يذكر «هندريك كراتشمار»، أستاذ السياسة المقارنة لمنطقة الشرق الأوسط في جامعة ليدز البريطانية، أن السؤال الأكثر أهمية من مدى جاهزية المجتمع الكويتي للأحزاب السياسية هو مدى جاهزيتهم لمزيد من التحرر السياسي، فضلًا عن مدى جاهزية الحكومة الكويتية لمنح مثل تلك الحريات.
ويضيف كراتشمار لـ«منشور» أن الحكومة الكويتية تحوز في العادة توازنًا جيدًا، فهي قادرة على العمل بفعالية مقبولة مقارنة ببلدان أخرى، فالحكومة تَظهر أمام العالم بمقدار جيد من حرية الرأي والتعبير مقارنة بدول الجوار، الأمر الذي يمكنها في العادة من التعامل مع أي معارضة سياسية دون إحداث ضجة.
ويوضح أن «تقنين الأحزاب لن يختلف عما هو موجود في المنطقة، من ناحية تمويل الأحزاب وتحالفاتها وبيروقراطيتها وعدم فاعليتها»، فالسؤال عن مدى جاهزية المجتمع للأحزاب السياسية مرتبط بمدى حضور مفهوم المواطنة وقوة الهوية الوطنية التي تضمن انتخاب السياسيين ذوي الكفاءة، فحتى في حالة توفر المناخ الدستوري المناسب سيبقى التشكيل النيابي مرتبطًا بأجندة قبلية وطائفية.
وعليه، فإن طبقة التجار ستبقى دائمًا فاعلة في عملية السلطة، لكن المهم أن يكون الصراع على السلطة بالطريقة السليمة عبر خلق المناخ الدستوري المناسب لصعود الأحزاب، مع مراعاة ألا تنتهي هذه الأحزاب إلى صيغة «أوليغاركية»، حين يتحكم فيها شخص أو عائلة أو عدد محدود من الأشخاص، فسياسة الأحزاب لا تزال فعالة، بل إن الأحزاب كمؤسسات سياسية تلعب دورًا أساسيًا في تشكيل الديمقراطية.
التحول في النظام السياسي إلى النظام الحزبي ينبغي أن يُنظر له في إطار الثقافة السياسية السائدة في البلاد، وضمن سياق التحولات الداخلية والمحيطة. فقرار بحجم إشهار الأحزاب لن يكون بلا ثمن سياسي يبطئ سرعة صناعة القرار، وقد يستمر عقودًا لحين انتشار ثقافة سياسية تؤمن بالآخر في المجال السياسي، وإتاحة المجال للمعارض والمختلف.
الظاهرة الحزبية لها مقدرة فريدة على التمثيل الشعبي المنظم وصناعة القيادات السياسية والنخب الواعية بالقرار السياسي والفاعلة له، والقدرة على رسم الأهداف والعمل المنتظم على تحقيقها، كبديل ناجح لحكم المشيخة وسياسات الهويات الطائفية والقبلية. أما التحدي فهو مدى استيعاب الشارع ووعيه بهذه المقدرة، ومدى الثقة في الثقافة السياسية السائدة التي قد تنزلق نحو الاستقطاب وإقصاء الآخر وإلغائه.
حسين سنا