هل ينجح تقليص الميزانية في إنقاذ الاقتصاد الوطني؟
تلجأ الحكومات في أوقات الأزمات الاقتصادية إلى التفكير في استراتيجيات جديدة لإنقاذ الاقتصاد الوطني وسد العجز المالي، خصوصًا على المدى القصير. وهنالك اتجاهان عادة ما تعتمد الحكومة أحدهما، الأول يتمثل في تقليص حجم الصرف في الموازنة العامة، عن طريق تقليل الاستثمار في المشاريع الرأسمالية أو تخفيض الدعومات أو الرواتب، أما الاتجاه الثاني فيكون برفع الإيرادات، وذلك بفرض ضرائب جديدة أو زيادة رسوم الخدمات أو غيرها.
السؤال في الخليج العربي يختلف عنه في أماكن أخرى، ذلك أن المنظورات المطروحة للاختيار من بينها تختلف في الأنظمة الاقتصادية التي تعتمد على الضرائب، إذ تصبح هذه الأخيرة إحدى أدوات الحكومة التي تكرسها من أجل التحكم في حالة السوق. لذا نجد حكومة الكويت تسعى في الخيارين لتقليص العجز في موازنة الدولة، كون العجز في آخر سنة قد تعدى 10 مليارات دينار، وهو الأكبر في تاريخها.
تعد الكويت كذلك من الاقتصادات الأحادية والمعتمدة بشكل أساسي على سوق النفط، أما محليًا فقد أسهم كيان الدولة الريعي في تضخيم بعض بنود الميزانية، مثل الرواتب بسبب توظيف غالبية المواطنين في القطاع الحكومي، وكذلك بند المشاريع الرأسمالية كون الدولة هي الموظف والمستثمر الأكبر في الدولة. لذا فالسؤال حول هذا الموضوع هو: ما هي تداعيات تخفيض الميزانية؟ وهل يجب أن يكون اهتمام الدولة الأساسي هو تقليل عجز موازنة الدولة؟
ما المقصود بتخفيض الميزانية؟
في البداية علينا استيعاب مفهوم تخفيض الميزانية، والذي يفيد وفقًا لـ«القاموس الحر» قص الميزانية أو تخفيضها، أي تقليل المبالغ في منظومة شركة أو حكومة خلال فترة زمنية معينة. وغالبًا ما تلجأ الحكومات والشركات لهذه الخطوة عند انخفاض الإيرادات، أو ظهور أولويات أخرى تحتم على الحكومات أو الشركات التعامل معها على الفور.
يمكن أن نضرب مثالًا على ذلك، فإذا تلقت دولة ما 10% أقل مما تتلقاه في العادة من عائدات الضرائب أو إيرادات تصدير النفط في العام السابق كحال دول الخليج، فقد تفرض تخفيضات في الميزانية بنسبة 10% كي تقلل من مصروفاتها وتعود لحالة التوازن. هذا التعريف البسيط لا يشمل جميع العوامل المتداخلة في السوق المحلي، فنحن هنا ننظر للموازنة على أنها عملية محاسبية جامدة تتكون من إيرادات ومصروفات، لكن الواقع مختلف. تنعكس هذه القرارات الخاصة بخفض الموازنة على العديد من مظاهر المجتمع والاقتصاد، وتشمل خلفيات اجتماعية واقتصادية متعددة ستتأثر حتمًا بتلك القرارات.
من تبعات فرض الضرائب أو تخفيض صرف الموازنة على المدى القصير احتمال حدوث ركود اقتصادي.
ما يدفع الحكومات لتخفيض الميزانية هو عجز الموازنة أو الدين القومي الذي ينبغي عليها سداده، أو عندما تتجاوز المصروفات الإيرادات في الموازنة العامة للدولة. وعادة ما يبدأ التفكير في هذه المسألة عندما يمر الاقتصاد الوطني بضائقة كما هو الحال خلال فترات البطالة المرتفعة، أو بأزمة عالمية مثل جائحة كورونا، وهنالك مجموعة من الإجراءات المتبعة لتخفيضها تتعامل مع كل من:
- إصدار الديون بالسندات.
- التغير في سعر الفائدة.
- ترسيخ تخفيضات في الإنفاق العام.
- رفع الضرائب.
إلا أن التاريخ وعلماء الاقتصاد لديهم رأي في ما يتعلق بالزيادات الضريبية لتحفيز الاقتصاد وسداد الديون، وكذلك في فكرة ترسيخ التخفيضات في الإنفاق العام. دوغلاس إلمندورف البروفيسور في الاقتصاد وعميد كلية السياسات العامة في جامعة هارفارد، يرى الأمور من زاوية مختلفة، فهو يرى أن عجز موازنة الدولة ليس أمرًا خطيرًا ويتطلب التدخل العاجل لتقليله. ويبرر كلامه بالنظر لأسعار الفائدة المنخفضة والاقتراض العالمي، وأن اليوم لدى حكومات العالم سوق عالمي للاقتراض بفائدة منخفضة جدًا، وعلى الدولة أن تركز من ناحية صنع سياسة مستدامة للأجيال القادمة بدلًا من القلق من حجم العجز. تتمحور ركائز مناقشته حول هذا الموضوع في ثلاث أفكار رئيسية، ناقشها في حلقة في جامعة برينستون بعنوان «لماذا علينا ألا نقلل من عجز الموازنة حاليًا؟».
النقطة الأولى: فرض الضرائب أو تخفيض الصرف قد يؤدي لركود اقتصادي
من تبعات فرض الضرائب أو تخفيض صرف الموازنة على المدى القصير احتمال حدوث ركود اقتصادي. فمثلًا إلغاء مشاريع التنقيب عن الغاز في الكويت بسبب عجز الميزانية قد ينعكس سلبًا على سوق العمل وانحسار الفرص الوظيفية في القطاع الخاص. وبالمثل تداول خبر إعادة النظر في دعم العمالة لمن تجاوز راتبًا أو عمرًا معينًا في الكويت سيؤثر على اختيارات المواطنين في المستقبل، فمثل هذه القرارات تزيد من طلبات التقديم على الوظائف الحكومية، التي تمثل أحد أكبر بنود الصرف في الموازنة. ولنا في الأزمة الاقتصادية عام 2008 درسًا نتعلمه، حين أدت التخفيضات في موازنات الدول الأوروبية وتقليص المشاريع وإلغاؤها إلى تقليل فرص العمل وتباطؤ الاقتصاد المحلي.
أما فرض الضرائب حاليًا مثل ضريبة القيمة المضافة، والذي يبدو هدفه الظاهر تقليل العجز عن طريق رفع إيرادات الدولة، فإن آثاره سلبية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية على المدى القصير. فهذه الضرائب سيؤثر حتمًا على ذوي الدخل المحدود وشرائح المجتمع غير القابلة لامتصاص هذه الضريبة على المدى القصير.
النقطة الثانية: محدودية صناع القرار في إقرار القوانين اللازمة
لنا خلال جائحة كورونا أمثلة على عدم قدرة الحكومة والمجلس على الدفع بقوانين مثل الديّن العام، أو دعم البنوك للمتضررين من جائحة كورونا لعدم قدرة الطرفين على الاتفاق على صيغة توافقية مشتركة. لذا لنكن واقعيين في توقعاتنا من صُناع القرار، سواء الحكومة أو أعضاء مجلس الأمة، فنحن نعمل من خلال نظام سياسي يتطلب أن يتشارك الاثنان في تقديم الحلول والتصويت عليها.
لذلك بدلًا من طرح حلول حالمة، على صناع القرار أن يحددوا الأولويات الواقعية التي تستطيع الحكومة تنفيذها خلال الوقت الراهن بأقل تداعيات وخسائر ممكنة. هل من أولوياتنا اليوم أن نقلل من عجز الميزانية؟ ولماذا؟ وهل نريد كدولة أن نشجع استقطاب الاستثمارات الخارجية؟ وكيف سيحدث ذلك؟
قد لا تبدو الإجابات واضحة هنا، لكن من الواضح أننا نعاني في الأصل من أزمة في تردي الخدمات مثل الصحة والتعليم، وعدم قدرة هيكل سوق العمل القائم على الوظائف الحكومية على استقبال الأعداد المتزايدة من الخريجين. لذا على صُناع القرار العمل من أجل تحديد الأولويات الحقيقية التي تدمج ما بين التوجه المستقبلي للدولة وإشكاليات الخلل في القطاعات السابقة، والتي ستعزز من استدامة الاقتصاد المحلي ونموه على المدى البعيد.
النقطة الثالثة: أي خطوة لتقليل العجز قد تؤدي إلى ضرر لاحق
بالنظر لتداعيات الأزمة المالية بعد 2008، كان هدف الحكومات في تلك الفترة تقليل العجز والحد من الصرف، وقد تم ذلك من خلال إلغاء بعض المشاريع الاستثمارية، وبالتبعية كان لهذا أثره السلبي على قطاعات الدولة. مثل تلك السياسات في تلك الفترة انعكست سلبًا على معدلات الناتج المحلي الإجمالي للدول، وأثرت على الفرص الوظيفية والنمو الاقتصادي ككل، حتى وصلنا اليوم إلى أكثر فترة انخفاضًا لهذه المعدلات في دول العالم.
عند إسقاط هذه النقطة على الكويت، نجد أن الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الأخيرة في انخفاض، وكذلك تراجع معدل الأداء الإجمالي للإنتاجية، وهو معدل يجمع تأثير الإبداع والتطور التكنولوجي لزيادة الكفاءة الإنتاجية في الدولة. ففي كثير من الأحيان يؤدي تقليص المصروفات الاستثمارية إلى تباطؤ النمو الاقتصادي ككل، خصوصًا في القطاعات غير النفطية، مما ينعكس سلبًا على إجمالي الانتاجية.
إذًا، ما الحل لتقليص العجز؟
لا يوجد حل سحري، وهذا أول ما علينا إدراكه. نحن اليوم في مفترق طرق جديد وأزمة مالية جديدة تتطلب منا التعلم من أخطائنا وأخطاء غيرنا، واستخدام فلسفة وتوصيات تقلل من ضرر الأزمة، ولكنها في نفس الوقت مربوطة بخطوات وسياسات أخرى تعزز من تقليل الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، ودعم التطرق للحالة المالية دون الحالة الاجتماعية والاقتصاد المحلي الحالي والأجيال القادمة معًا.
بدلًا من النظر للمدى القصير وتقليل العجز اليوم، لنركز على المشاكل الأخرى التي نواجهها في الكويت وكذلك في المنطقة، مثل قطاع التعليم والأزمة الإسكانية وبيئة العمل والاستثمار ومستقبل الوظائف، وكذلك الأزمة المناخية التي نحن أكثر المتضررين منها. ولكي يحدث ذلك، علينا أيضًا تأكيد نقطتين ذكرهما دوغلاس إلمندورف:
- الحد من تفاقم العجز المالي: رغم عدم إعطاء العجز الأولوية حاليًا، فإن ذلك لا يعني زيادته.
- التركيز على الاقتراض طويل الأمد: الاستفادة من انخفاض أسعار الفائدة اليوم بالاقتراض اليوم لمدى طويل، لضمان عدم زيادة فوائد الاقتراض لاحقًا.
علينا الأخذ بالنقطتين أعلاه، مع إعادة تأطير العجز في الموازنة باعتباره ليس أزمة حالية تتطلب المعالجة، بل على النقيض، علينا تقبل العجز مؤقتًا لحين إعادة النظر في باقي مشاكل قطاعات الدولة، ووضع خطة شمولية متكاملة الاستدامة تشمل الشقيّن الاقتصادي والاجتماعي معًا للنمو بشكل متكامل. من منطلق هذه الأولوية نتمكن من المضي في طريق إصلاح العجز، لذا لا بد أن يكون هدف الدولة اليوم ضمان المستقبل المالي عن طريق الأدوات المالية المتاحة، والاستفادة من السوق العالمي، مع ضرورة وأهمية التركيز على إعادة النظر في السياسات الاقتصادية والاجتماعية المحلية، وإعادة الثقة إلى الكيان الحكومي التنفيذي للدولة.
أمل السعيدي عبدالله الخنيني