البيروقراطية في الكويت: تشيّب الشعر الأسود
من منا لم يعش يوميات إجراء معاملة بيروقراطية في حياته؟ وتحديدًا تلك الإجراءات الحكومية الروتينية التي قد تصل معنا إلى حد التكيف معها، ومعاشرتها كأنها جزء من نظامنا اليومي.
أتت فكرة هذا النص بعد تجربة شخصية ومعايشة ليومياتي في إجراء معاملة حكومية تخص الهيئة العامة للقوى العاملة، والتي للتو، ومنذ بداية 2021، تحولت من التعامل مع الأوراق المطبوعة والإجراءات اليدوية إلى المعاملة الإلكترونية، لكنها ما زالت تتسم بالبيروقراطية. فالتوجه ليس رقميًا بالشكل الكافي، بل ظلت الإجراءات يدوية، لكن بدلًا من ملامسة الأوراق بيدك، تحول الإجراء إلى ملفات مرفقة في استمارة على موقع إلكتروني، لا يقبل أي ملف أكبر من 1 ميغابايت.
استمرت مراجعتي للهيئة العامة للقوى العاملة أشهر طويلة، تكررت فيها جمل مثل «تعال الإسبوع الجاي» و«راجعنا بعد أسبوع» و«روح عند بوعلي» و«ما عندنا ربط، روح الهيئة العامة للمعلومات المدنية». وحين اعتقدت أن الأمور بدأت تسري على ما يرام، فاجأني خطأ في تسجيل الاسم، ومرة أخرى «راجعنا غدًا وسجل طلب جديد». وصل عدد زياراتي لمبنى الإدارة إلى 21 مرة لإجراء طلب فتح ملف روتيني، واخيرًا تمكنا من فتح الملف الذي لم يأخذ منا إلا خمس دقائق ككل، لكن هذه الدقائق الخمسة استغرقت ثلاثة أشهر ونصف لتحدث.
بسبب هذه التجربة تواردت إليّ أسئلة كثيرة عن البيروقراطية، أهمها: لماذا نحن هكذا؟ ومن أين أتت هذه الدهاليز والهيئات والإدارات والمباني والموظفين لتُجيِّش نفسها في سبيل إطالة الحياة الروتينية لأبعد مدى؟
أصل البيروقراطية
في البداية، يشرح الجزائري عمار بوحوش المختص في العلوم السياسية أن «كلمة بيروقراطية مكونة من كلمتين، هما بيرو التي تعني مكتب، والثانية كراسي وتعني القوة أو السلطة». ويربط بوحوش بين نشأة البيروقراطية ونشأة الدولة كإدارة، فالاثنان وجهان لعملة واحدة، ولا يمكن الاستغناء عن الأولى في سبيل الثانية. وبالتالي تمثل البيروقراطية «سلطة المكتب»، من موظفين وإداريين يعملون في الأجهزة الحكومية لتلبية احتياجات السكان.
الطفرة الإدارية في الكويت لم تحدث إلا مع استقلال الكويت، عندما تطلب الوضع مأسسة شاملة لكل أركان الدولة من وزارات وهيئات وإدارات، وهنا نشأت بذرة البيروقراطية الكويتية.
إذًا، البيروقراطية جزء لا يتجزأ من كيان الدولة، وهذا ما أكده عالم الاجتماع الألماني «ماكس ويبر» من خلال نظريته عن البيروقراطية، وحجته العامة بأن النظام البيروقراطي بُني على أساس منطق السلطة القانوني في تكوين الدولة والإدارة. وهنا يفرق ويبر بين شَغل المناصب في الإدارة والكفاءة الفنية، بأن البيروقراطية تنجح إذا كان لدى شاغلي المناصب المعرفة والكفاءة الفنية اللازمة لإدارة الروتين، وهذا في كثير من الأحيان لا ينعكس على الواقع.
استكمالًا لنظرية ويبر، يصل «ستانلي أودي» عالم الاجتماع الأمريكي في دراسة أعدها من خلال فحص 150 جهة تنظيمية (أو حكومية)، إلى استنتاج عدم وجود ارتباط بين السمات البيروقراطية للجهات وسبب وجودها. وبذلك نجد أن البيروقراطية نتجت من الحاجة إلى تنظيم الدولة منذ البداية، لكنها ليست بالضرورة الحالة الأفضل لاستمرارها.
حالة الكويت: من أين لنا هذا؟
منذ نشاتها كمدينة وميناء خلال القرن الثامن عشر، مرت الكويت بتوسعات وتحديات عمرانية واقتصادية وسياسية، ولكن الطفرة الإدارية لم تحدث إلا عقب اكتشاف النفط وتصديره بعد الحرب العالمية الثانية. ومع استقلال الكويت، تطلب الوضع مأسسة شاملة لكل أركان الدولة من وزارات وهيئات وإدارات، وهنا نشأت بذرة البيروقراطية الكويتية عبر هذه الهياكل الإدارية التي تستند إلى القانون. أصبح القطاع الحكومي هو الملاذ لأغلب الشباب الخريجين من الجامعة، إذ تمثل نسبة الكويتيين العاملين في القطاع الحكومي 89% من إجمالي القوى العاملة.
وبالحديث مع الدكتور محمد النغيمش، مستشار الإدارة والمحاضر في جامعة الخليج بالكويت، وخلال تعليقه على تعامل الكويتيين مع وظيفة المكتب قبل النفط وبعده، ذكر لـ«منشور» أن تلك الحقبة كانت بمثابة نقلة نوعية من العلاقة التقليدية بين الموظف أو العامل مع رب العمل، إلى رحاب الوظيفة المؤسسية وبرستيجها «والراتب المضمون». وكانت تلك الفترة تعزز بداية جني ثمرات التعليم، إذ تولى المميزون تعليميًا مراتب إدارية رفيعة. غير أن المشكلة الكبرى أن عدد المواطنين العاملين في القطاع الحكومي يبلغ نحو 350 ألف موظف، في حين يبلغ عدد المواطنين العاملين في القطاع الخاص نحو 61 ألف موظف، وهو قطاع يعتمد بصورة عامة على الحكومة.
ركائز البيروقراطية
يرى النغيمش أن «البيروقراطية في الكويت حققت بصورة عامة ما نادى به عالم الاجتماع الألماني ويبر في نظرية البيروقراطية»، إذ كان يحاول أن يقدم تصورًا شاملًا وغير مسبوق للشكل الأمثل للمنظمات الكبيرة، وكان النظام الإقطاعي سائدًا آنذاك، وقد تغلغلت بعض أشكال الاستبدادية في المؤسسات. لذا فقد كان يرى أن المنظمة إذا ما كبرت، كان لزامًا عليها أن تستند إلى ستة ركائز مهمة:
- تقسيم العمل: أي تقسيم كل وظيفة إلى مهام صغيرة مُعرَّفة بوضوح ومكتوبة.
- هيكلة السلطة: بمعنى ضرورة وجود مناصب في هيكل تنظيمي تربطها سلسلة من الصلاحيات أو الأوامر.
- الاختيار الرسمي للعاملين: بحيث لا يكون متروكا للمزاجية، بل للمهارات الفنية.
- لوائح وقوانين رسمية: وضع إجراءات واضحة للعمليات.
- اتجاه المسار الوظيفي: وضع قواعد معروفة لكل مسؤول لكي يعرف حدود المسار الوظيفي، وأنها وظيفة مهنية وليست ملكًا.
- عدم الشخصنة: أي تجريد اللوائح والقواعد الرقابية من أي اعتماد على شخصيات أناس بعينهم، فيجب أن تضع أمامها مصلحة العمل وليس أفرادًا محددين.
بيروقراطية إلكترونية
«البيروقراطية فكرة نبيلة، لكنها ترهلت في الكويت وصرنا بحاجة إلى ترشيقها»، هذا ما يذكره النغيمش لـ«منشور». ويبدأ هذا الترشيق من القطاع الحكومي كونه القطاع الأكثر تشبعًا بأعداد الموظفين، وهو المسؤول عن كل الأوراق الثبوتية والإجراءات الروتينية في البلاد.
خلال سنة الجائحة لاحظنا تحولًا إلكترونيًا كبيرًا في جميع الإجراءات الحكومية، فبعضها تحول إلى تطبيقات مثل «هويتي» الذي يعادل البطاقة المدنية، والذي سهل الإجراءات المطلوبة وأصبح بديلًا رسميًا لحين استلام النسخة الاصلية، بسبب قلة الموظفين والأوضاع الصحية. وكذلك عند استلامك جرعة التطعيم سترى مباشرة أيقونة تفيد أنك حصلت على اللقاح من خلال التطبيق، وهذا التواصل بين جهات مختلفة مثل الصحة في هذه الحالة يعبر عن «التحول الرقمي» المطلوب، وإن كان بسيطًا في مثالنا.
«التحول الرقمي» توجه عالمي لتقليص حجم الجهاز الحكومي وزيادة الربط الإلكتروني والتحول الرقمي بين الجهات، لتقليص الهيئات والإدارات البيروقراطية.
أما بعض الجهات الأخرى مثل الهيئة العامة للقوى العاملة، فاستخدمت طريقة أشبه بتحولها من البيروقراطية اليدوية إلى البيروقراطية الإلكترونية، إذ تحولت الإجراءات الورقية الطويلة إلى شاشة الهاتف أو الكمبيوتر، دون أي درجة من «التحول الرقمي» أو التواصل الإلكتروني بين الجهات الحكومية، وهو ما ذكرته في سلسلة التغريدات المشار إليها في المقدمة والتي تحدثت فيها عن تجربتي. وبسبب تلك التغريدات، أطلق الفنان محمد شرف هاشتاغ «#عندي_معاملة»، والذي أصبح ملاذًا لكثير من المغردين الذين شاركوا تجربتهم مع البيروقراطية في مختلف الجهات.
ما الحل؟
البيروقراطية جزء من كيان الدولة الاجتماعي والسياسي، والحل هو تطويرها وإعادة إنتاجها بشكل يسهل الحياة وجودتها على الجميع. لاحظنا كيف أنه خلال سنة الجائحة استغنت الدولة عن 70% من موظفيها وطلبت عدم حضورهم لأماكن العمل، مع تقسيم أيام العمل في بعض الجهات أو العمل من المنزل في البعض الآخر. ورغم أن هذا الإجراء لم يغير من البيروقراطية الحكومية، فإنه أكد لنا أن أعداد الموظفين قابلة للتقليل، وأكد كذلك قابلية الدفع بعجلة «التحول الرقمي» أكثر.
هذا التوجه ليس جديدًا، بل هو توجه عالمي لتقليص حجم الجهاز الحكومي وزيادة الربط الإلكتروني والتحول الرقمي بين الجهات، لتقليص الهيئات والإدارات البيروقراطية. أصبح الهيكل الحكومي في الكويت مرهقًا وثقيلًا بعد مرور كل هذه السنوات منذ بداية تشكيل كيان الدولة الإداري. وكما ذكر النغيمش، فإن ركائز البيروقراطية السليمة يمكنها ترشيق البيروقراطية. وبالتزامن مع هذا، يدفع التحول الرقمي الشامل كفاءة جودة الإدارة القائمة على مبدأ تقليص الجهاز الحكومي والربط بين الجهات المختلفة لمعالجة مشاكل البيروقراطية.
عبدالله الخنيني