اقتحام العزلة: عن رحلة «جون تشاو» التبشيرية المميتة

حاتم محيي الدين
نشر في 2018/12/01

كان المبشر المسيحي المتحمس «جون تشاو» مدركًا لخطورة الذهاب إلى جزيرة سنتينال، الواقعة في خليج البنغال في المحيط الهندي. لكن تقديره نسبة الخطر لم يكن دقيقًا، إذ شوهد مقتولًا على ساحل الجزيرة، التي يعيش عليها بشر لم تصل إليهم رسالة المسيح.

قرر تشاو، المبشر الأمريكي، اختراق عزلة القبائل البدائية على الجزيرة لإخبارهم عن المسيح. أخذ معه إنجيلًا مقاوِمًا للماء وهدايا بلاستيكية، وحده دون أي فريق، وهناك ألح على الصيادين بالموافقة على إلقائه قريبًا من ساحل الجزيرة.

سنتينال: راغبون في العزلة، متسمكون بها

إحدى محاولات التواصل مع شعب السنتينال

ليس لسكان جزيرة سنتينال أي ماضٍ من التواصل مع الغرباء، ولا يهتمون كثيرًا بما نعتبره أساسيات الحضارة التي نعرفها في الوقت الحالي، بما في ذلك الكهرباء والملابس والاتصالات، وربما الأنظمة اللغوية أيضًا. يعيشون في عزلة، ويتوقف بهم الزمن عند مرحلة الصيد والالتقاط التي عاش عليها الإنسان في العصر الحجري، خصوصًا أن ملابسهم تشبه ملابس إنسان عصر الصيد، فهي لا تزيد عن بعض الجلود التي تستر العورة.

باءت محاولات الاتصال مع سكان الجزيرة بالفشل، كانت آخرها في سبعينيات القرن العشرين، حين حاولت مجموعة من الباحثين الوصول إلى الجزيرة والتواصل مع سكانها. لكن رحلتهم انتهت قبل أن يصلوا إلى شاطئ الجزيرة، فقد استقبلتهم القبيلة في البداية بمزيج من الارتياب والفضول، وأخذوا ثمار جوز الهند، لكنهم أظهروا وجهًا عدوانيًّا بعد ذلك عندما حاول مستقلو المركب الاقتراب أكثر من اللازم، حينها هوجموا بالرماح الطويلة.

المعلومات المتوفرة لدينا عن سكان الجزيرة شحيحة للغاية، ولا تتجاوز التخمينات والتوصيفات الشكلية، بسبب انعدام التواصل الذي يمكن من خلاله الدراسة عن قرب، وتعيين طبيعة الحياة والأفكار وطريقة المعيشة.

لكن ما نعرفه أن سكان جزيرة سنتينال هم آخر القبائل الموجودة في نفس المكان منذ العصر الحجري. ورغم وجود أربعة قبائل قديمة ومعزولة في مجموعة جزر أندامان بالقرب من السواحل الهندية، فإن هذه الجزيرة الوحيدة التي لم تتعامل مع الغرباء بأي شكل.

جون تشاو: صاحب رسالة متحمس

لا تزال جثة تشاو في الجزيرة، ومن الصعب انتشالها.

لم يَضع جون هذه المعطيات في اعتباره وهو يتوجه مع أحد الصيادين إلى ساحل الجزيرة، بحسب الاتفاق الذي رفض فيه الصياد أن يقترب من الشاطئ بأي حال.

كان نتيجة هذا أن أكمل باقي الطريق إلى الجزيرة سباحة.

جاء هذا الاتفاق بعد أن رفض كثير من الصيادين إيصال تشاو إلى وجهته، خصوصًا أن هناك عددًا من حوادث القتل سُجلت لصيادين حاولوا الاقتراب من الجزيرة أكثر من اللازم.

الاستراتيجية التي من المقرر أن يتبعها تشاو كانت تقديم الهدايا إلى السكان ليُعرب عن حسن نيته، ثم محاولة التواصل معهم لإيصال رسالته. لكن الانطباع الأول كان حادًّا، كما يصف تشاو في الرسائل القليلة التي دوَّنها قبل أيام من وفاته. فقد جرت معاملته بدرجة عالية من القسوة، وحاول أحدهم أن يطلق عليه سهمًا مسمومًا.

ومع عدم إمكانية التواصل اللغوي، كانت وسيلته هي الخضوع وإظهار الاستسلام البدني بينما يقدم الهدايا.  

في اليومين التاليين، ذهب تشاو إلى الجزيرة وعاد منها أكثر من مرة، محاولًا اكتشاف مداخل جديدة للتواصل مع أهلها، الذين لم يغيروا من تعاملهم الخشن معه. لذلك قرر أن يبيت ليلة كاملة في الجزيرة، وهو الأمر الذي أدى إلى مقتله.

يظن بعضهم أن الوفاة ناتجة عن الإصابة بسهم مسموم، لكن هذا لا يتجاوز التخمينات. جثة تشاو لا تزال في الجزيرة، وبعض الصيادين شاهدوا أحد السكان يجرها على الساحل.

ثمن كسر العزلة

أمضى «تي إن بانديت»، المسؤول الإقليمي في وزارة شؤون القبائل في الهند، عقودًا في دراسة سلوك القبائل في تلك المنطقة، مدفوعًا باعتقاده أن السمعة السيئة التي تحيط بالقبائل ظالمة، فهي في رأيه مسالمة تمامًا، ولا تغادر الجزيرة تقريبًا، ولا تُظهر أي سلوك عدواني إلا في حالة اقتحام مناطق نفوذها.  

ما نعلمه حتى الآن أن سكان الجزيرة ظلوا معزولين قرابة 70 ألف عام، ولم يختلط بهم أحد من الخارج. وهي واحدة من أربع قبائل في جزر أندمان عاشت في عزلة تامة، لكن سكان جزيرة سنتينال الوحيدون الذين لم يقبلوا أي تدخل من الآخرين.

في عام 2011، تمكن باحث بريطاني من إعداد قاموس خاص للغة القبائل الأربع القديمة. خلال هذه السنوات القليلة اختفت قبيلتان، بينما عانت الأخيرة من إصابات فيروسية خطيرة.

قبل ذلك بعامين فقط، مات ما يقرب من ثمانية رجال من أهل قبيلة «الأونغ» بسبب التسمم، بعد أن شربوا مادة ظنوا أنها الكحول، لكنها كانت إحدى مخلفات السفن يُعتقَد أنها «الميثانول»، ما يعد كارثة سكانية ويهدد القبيلة بالانقراض.

انقراض القبيلة قد يكون نتيجة لما هو أبسط من ذلك. فرغم أن عزلة تلك القبائل منعتها من مواكبة تطورات العالم الخارجي، فقد عجزت الأمراض عن الوصول إليهم، ومن ثَم لم تتطور الأنظمة المناعية عندهم، ولا تزال كما هي عندهم منذ آلاف السنوات. لم تواجه القبيلة إلا الطبيعة، ما يضع في الاعتبار أن أي اختلاط بأي إنسان من الخارج قد يؤدي إلى انقراض أفرادها، الذين يتراوح عددهم بين خمسين ومئة فرد.

هذه الاعتبارات الكثيرة من الممكن أن تسلط ضوءًا مختلفًا على مسعى جون تشاو، فنجاحه في التواصل مع أهل الجزيرة يؤدي إلى فنائهم التام. هل كان الأمر يستحق؟

لماذا لا نفهم رغبة العزلة؟

أمر آخر تمثله طبيعة الهدايا التي قدمها تشاو إلى سكان الجزيرة. فبحسب كتاباته التي دوَّنها في اليومين الأولين، قدم جون إلى أهل الجزيرة، إضافة إلى الأسماك، مقصًّا وشبكة صيد وكرة قدم بلاستيكية، ما يعيدنا إلى حادثة السبعينيات التي أنتجت تسجيلًا مرئيًّا نادرًا، وربما الوحيد، لعملية تواصل مع سكان الجزيرة، فقد احتوت هداياهم أيضًا على بعض المشغولات البلاستيكية والأسماك وشبكة صيد، لكنهم وُوجهوا بالرفض التام، وبالعنف أيضًا.

الحماس للاستكشاف وضم مجتمعات معزولة إلى ركب الحضارة كان إحدى السمات الأساسية التي مهدت الطريق إلى الحداثة، وتمكين الرجل الأبيض في وقت سابق. ورغم النقد الذي تعرضت له تلك الأفكار، فإنها مفهومة في سياقها التاريخي.

في الوقت الحالي، الذي يمكن فيه حصر المجتمعات المعزولة، قد لا يُمكن تفهُّم تلك الرغبة في الاختلاط والاكتشاف، وبشكل خاص بعد الممانعات التاريخية لسكان الجزيرة أمام دخول أي شخص خارجي. التحذيرات بشأن المجتمعات المعزولة لا تخفى على أحد، خصوصًا أنها تمثل معلومات أساسية لكل راغب في المغامرة بالذهاب إلى هناك.

حاتم محيي الدين