تجديد الخطاب الديني؟ لا، جُدِّد قبل 200 عام بدعم غربي
عند الحديث عن إيجاد حل للعنف السياسي الذي يقع باسم الإسلام، تتبادر إلى أذهاننا جملة «تجديد الخطاب الديني»، التي تسمح بمواكبة الفكر الإسلامي للحقوق المدنية ومبادئ الليبرالية السياسية، لكن بحسب ما تؤكده أستاذة السياسة والدين في جامعة برمنغهام الإنجليزية، «جوسيلين سيزاري»، فقد حدث تجديد الخطاب الديني بالفعل منذ قرنين تحت تأثير الليبرالية الغربية، وهو ما حاولت تفصيله في مقال على موقع «ميدل إيست مونيتور».
لا جديد في تجديد الخطاب الديني
ترى سيزاري أن تجديد الخطاب الديني بدأ في الفترة العثمانية بعد حدثين: الأول الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، والثاني معاهدة باريس عام 1856، التي أنهت حرب القرم وأدخلت الدولة العثمانية في مفاوضات مع روسيا وبريطانيا وفرنسا لأول مرة.
كان هذان الحدثان سببًا في بدء جدل دائم بشأن الإسلام والحداثة، أدى إلى ظهور الحركة «السلفية» باعتبارها حركة إصلاحية حداثية، وظهور مسمى «الوحدة الإسلامية» كمشروع سياسي يوحد الشعوب المسلمة في الفترة الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية.
ساند الحداثيون والإصلاحيون في الإمبراطورية العثمانية الغرب، رغم معارضتهم للإمبريالية الغربية، وهي المعارضة النابعة من رفض المسلمين نقد الغرب للخلافة باعتبارها غير مدنية وغير قادرة على احتواء المسيحيين.
أدت هذه العوامل مجتمعة، في رأي سيزاري، إلى قيام حركتين مختلفتين ومتشابهتين في الوقت نفسه، واحدة تدعو إلى الوحدة الإسلامية، وأخرى تدعو إلى وحدة العرب.
اقرأ أيضًا: كيف حاول الاتحاد السوفييتي التضييق على الإسلام فأخرج جيلًا من المتطرفين؟
وحدة إسلامية أم عربية؟
لم تستهدف حركة «تركيا الفتاة» إقامة نظام علماني صرف، بل اعتبرت الشريعة الإسلامية حجر أساس الإصلاح والتحديث.
كان الهدف الجوهري لحركة الوحدة الإسلامية هو توحيد السكان المسلمين سياسيًّا تحت راية الإسلام بدلًا من العروبة، أما حركة الوحدة العربية فاتخذت الثقافة واللغة المشتركة معيارًا لها، وكان هدفها تأسيس دولة تشمل الأمة العربية كلها.
تطورت الحركتان في التوقيت نفسه تقريبًا، خلال الفترة الأخيرة من عُمر الإمبراطورية العثمانية، رغم تباين أهدافهما، وتأثرتا بالسياسة الأوروبية. ففي أوائل النصف الثاني من القرن العشرين، قامت حركة «تركيا الفتاة» تدعو إلى إنشاء دستور وبرلمان من أجل إعادة إحياء الإمبراطورية، تماشيًّا مع الأعراف الإسلامية كفكرة «الشورى».
ترى سيزاري أن حركة «تركيا الفتاة» مثلًا لم تهدف إلى إقامة نظام علماني صرف، بل اعتبرت الشريعة الإسلامية حجر أساس للإصلاح والحرية والتحديث، وكان الدستور العثماني الصادر عام 1876، الذي حاكى دستور 1831 البلجيكي، أهم إنجازات الحركة، ونتج عنه برلمانان على النمط الأوروبي، واحد رئيسي يُعيَّن الأعضاء فيه، وآخر فرعي يُنتخَب أعضاؤه.
قد يهمك أيضًا: علمانية أم دينية؟ خلطة إردوغان لمزج الإسلام السياسي بـ«القومية» التركية
في نفس الوقت في مصر، وتحت حكم محمد علي (1805-1848) وخلفائه، كانت مجالس تمثيل الشعب واجهة رئيسية لتصور الإسلام السياسي الحديث عن السياسة، وحدثت آنذاك سلسلة من التغيرات المشابهة لما حدث في تركيا، وتزامنت مع الإصلاح الديني (عن طريق السلفيين)، رغم أن مصطلح «السلفية» لم يستخدمه حداثيو ذلك الوقت.
اتخذت «السلفية» من «السلف الصالح» مرجعًا لها، لكن المصطلح اكتسب معانٍ مغايرة مؤخرًا بسبب استخدامه الحالي في الإشارة إلى مذهب «الوهابية»، التي تختلف جذريًّا في توجهاتها وأهدافها عن حركة الإصلاح الحداثي في القرن التاسع عشر، بحسب سيزاري، إذ رفضت الأخيرة المذاهب الأربعة، واتخذت تعاليم الرسول محمد وأحاديثه مرجعًا لها.
كان الإصلاح الإسلامي في بداياته حداثيًا ومواليًا للقيم الغربية.
ورغم رفض السلفية لجمود المذاهب الأربعة، فإنها في رأي سيزاري شجعت التجديد وإعادة القراءة والتأويل. وشكلت الحركة السلفية وفق هذه الرؤية تجديدًا للفكر الديني بدأ منذ زهاء قرنين، وسار جنبًا إلى جنب مع تيار الوحدة العربية، إذ اشترك الاثنان في أمور كثيرة رغم ما يظهر عليهما من تباين، وهذا بسبب تأثرهما بالغرب.
التجديد الحقيقي هو العودة إلى الأصل
حاول الإصلاحيون مقاومة التأثر الثقافي بالغرب، فتعمقوا في التراث الإسلامي وحاولوا مواكبة مستجدات الثقافة الغربية في الوقت نفسه، وبدلًا من الدخول في صدام مباشر مع الاستعمار، رأى مفكرو الحركة ضرورة الإصلاح الإسلامي لمواكبة سيطرة الغرب الاقتصادية والعلمية في التعليم والمعرفة، وأدى هذا الإصلاح إلى تغيير مفاهيم كثيرة مثل «الشرعية» و«الأمَّة» و«الجهاد».
لا تعني معارضة الإسلام السياسي للغرب إذًا عدم تأثره به، فقد كان الإصلاح الإسلامي في بداياته حداثيًّا ومواليًا للقيم الغربية، بحسب سيزاري، ولم يحدث التحول إلى معاداة الغرب إلا بعد فترة طويلة.
لكن إذا كان الإصلاح الإسلامي قد وقع فعلًا، فلماذا ترزح الدول الإسلامية تحت حكم السلطوية وتعاني من العنف والإرهاب؟
وفقًا للكاتبة، ترتبط هذه الظواهر بنوع من الثقافة السياسية تسميها «الإسلام المهيمن»، تشير إلى دمج كل المؤسسات الدينية الإسلامية في سلطة الدولة، والنظام القانوني، والتعليم.
يتناقض هذا «الإسلام المهيمن» بوضوح مع السياسة الأوروبية طَوَال تاريخها، إذ خضع التجديد الإسلامي للسلطة السياسية بطريقة لم تعرفها أوروبا ولا الإسلام قبل ذلك، فسابقًا كانت المؤسسات الإسلامية والتعليم ورجال الدين قائمين ومموَّلين باستقلال عن السلطة السياسية.
لهذا السبب ترى سيزاري أننا لا نحتاج إلى تجديد أو إصلاح إسلامي، بل نحتاج إلى العودة للتقاليد الأساسية المتمثلة في استقلال المؤسسات الدينية عن السلطة السياسية.
لا يعني ذلك فصل الإسلام عن الدولة بقدر ما يعني معاملةً عادلةً لكل الأديان من قِبل الدولة، وإعادة إحياء الفكر الإسلامي القديم الذي أضعفه «الإصلاح الديني» السلفي والتأثير الممتد للوهابية.
أحمد حمدي مسلَّم