علمانية أم دينية؟ خلطة إردوغان لمزج الإسلام السياسي بـ«القومية» التركية
في ظل الجدل القائم حول «الإسلام السياسي» في تركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية، لا بد من الإشارة إلى أهمية الدور الذي تلعبه الأيديولوجيا «القومية» (وحدة اللغة والتاريخ) كعنصر ثابت في أي حراك سياسي يمس البلاد.
لم يعد منطقيًّا أن نتحدث عن الإسلام السياسي في تركيا المعاصرة بمعزل عن القومية، لأن الحزب يستخدم خطابًا قوميًّا بالإضافة إلى خطابه الديني، وهذا قبل محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016 وبعدها على السواء، وفقًا لرأي الباحث في الشؤون الدولية «توني ألارانتا».
القومية كأداة للإسلام السياسي في تركيا
يتبنى حزب العدالة والتنمية «قوميةً» مختلفةً ترى تركيا مركزًا للأمة الإسلامية.
لتوضيح فكرته، يشير كاتب المقال إلى أن مشروع الإسلام المحافظ يعتمد على توجيه المجتمع عن طريق خطوط عريضة يحددها الخطاب الإسلامي والقومي، ولذلك عمل ممثلو حزب العدالة والتنمية على نزع شرعية الأيديولوجية «الكمالية»، وهي الرؤية القومية العلمانية التي خطَّها مصطفى كمال أتاتورك، وحاولوا بالتالي دمج فكرة القومية في مفهوم المجتمع الإسلامي العالمي، فأدى هذا إلى حدوث صلة وثيقة بين الإسلام السياسي والقومية في خطاب الحزب.
يرى ألارانتا، في مقال له على موقع «Your Middle East»، أن بعض الناس قد يتوهم تعارُض الإسلام السياسي مع مبدأ القومية، إلا أن الأيديولوجيا التي يتبناها حزب العدالة والتنمية تُعتبر مزيجًا من الإسلام المحافظ والقومية، وهُما عنصران مؤثران في سياسات الشرق الأوسط والإمبراطورية العثمانية منذ مطلع القرن التاسع عشر.
لا يرفض الحزبُ القوميةَ باعتبارها معتقدًا سياسيًّا بوجهٍ عام، بل يعترض فقط على نسخة معينة منها هي «القومية العلمانية»، ويتبنى بدلًا عنها «قومية إسلامية» ترى تركيا مركزًا للأمة الإسلامية، وقد سعى النظام التركي إلى تبرير سلطته عن طريق ترسيخ عديدٍ من المبادئ أو القيم الدينية والقومية، ممَّا مكَّنه من إحكام السيطرة على أجهزة الدولة.
حزب العدالة والتنمية يريد أتراكًا متدينين
يستخدم الإسلام السياسي مبدأ القومية لمراقبة السلوك الديني للشعب.
يشير توني ألارانتا إلى أن الحركة الإسلامية التركية باتت تقمع معارضيها باستمرار، ولم تعد قادرة على استيعاب الأصوات المناوِئة كما كانت تفعل قبل توليها السُّلطة، كما عمِل المزيج الإسلامي القومي لحزب العدالة والتنمية على تقديم مسوِّغات تشرِّع حكمه، بعد أن تمكَّن من الهيمنة على مؤسسات الدولة في تركيا.
قد يهمك أيضًا: رحلة في موجة الإلحاد والثورة الاجتماعية في العالم العربي
حصرت الحركة الإسلامية هُويتها الثقافية في منع صور تراها سلبية، بحسب ما يرى الكاتب، مثل استهلاك الكحول، والعلاقات بين الجنسين، وانحلال الأخلاق المجتمعية، وضعف الالتزام الديني في حياة الأفراد. وفي سبيل ذلك، يعمل الإسلاميون باستمرار على الإيحاء بوجود تهديد، يتمثل في مجموعة أشخاص يُزعم دعمهم لهذه العادات المنحلَّة.
لا يَعتبر الإسلام السياسي أن الالتزام الديني اختيار فردي، بل يستخدم مبدأ القومية للتشديد على قِيَم التجانس الاجتماعي وإعلاء شأن الصالح العام، وبالتالي سُلطة الدولة، للإشراف على السلوك الديني للأفراد.
إردوغان ينازع على إرث أتاتورك
تُشِيد فصائل المجتمع التركي بأتاتورك بما في ذلك الإسلاميين، باستثناء الأكراد.
اتَّبع حزب العدالة والتنمية استراتيجية جديدة بخصوص الكيانات العلمانية عقب محاولة الانقلاب الفاشلة لتعزيز سلطته. اعتمدت الاستراتيجية على احتواء هذه الكيانات بالاستيلاء على قِيَمها ورموزها، كالمَيْل الذي يلحظه ألارانتا مؤخرًا نحو إضفاء طابع إسلامي على أتاتورك، وهو شخصية تحتل مكانة مركزية في كل روايات التاريخ التركي، أيًّا كانت توجهاتها.
يخبرنا كاتب المقال أن الرئيس التركي ألقى عديدًا من الخطابات لإعادة تعريف معنى «أتاتورك»، فقال إن «الكماليين» أنتجوا رواية مشوهة مفادها أنه «لم يكن هناك شيء قبل أتاتورك»، بينما يؤكد رجب طيب إردوغان بدلًا من ذلك أن الجمهورية لم تقم بسبب رجل واحد، بل كانت عملًا طويل المدى بدأ منذ عام 1071، حين انتصر الأتراك في معركة «ملاذكرد» على البيزنطيين، وبهذا استطاع الرئيس التركي استيعاب أتاتورك داخل رواية إسلامية تضم الرموز الدينية والقومية معًا.
وهكذا، يتناغم خطاب إردوغان مع غيره من الخطابات القومية التي تحتفي بإنشاء نظام قائم على السيادة المطلقة للأمة، إذ تشِيد جميع فصائل المجتمع التركي بأتاتورك، باستثناء الأكراد، ويعمل الإسلاميون على تقديره في رواياتهم التاريخية، وتقديمه كقائد للإمبراطورية العثمانية وحزب العدالة والتنمية ومجسِّد لسيادة الأمة التركية، كما أنه «أبو الأتراك» الذي أفشل مخططات الرأسماليين الغربيين، وكل هذا في سبيل دعم ادعاءاتهم بكونهم الممثل الحقيقي للشعب التركي.
تحاول أيديولوجية الإسلام المحافظ التقليدية إعادة تشكيل صورة الماضي في الوقت الحالي، فحزب العدالة والتنمية يتبنى رواية الإسلام المحافظ، بينما يستغل النسخة المعدلة من رواية القوميين التاريخية لصالح تشريع ودعم سلطته، ولهذا يتناول الحزب أتاتورك بطريقة مختلفة، فيشير إليه بوصفه «الغازي» الذي سعى إلى استقلال تركيا، بينما يُغفل دوره في مشروع العلمانية الحديث.
هل يكره الأتراك الغرب
بعض الأتراك يؤمنون بأن الولايات المتحدة الأمريكية لها علاقة بحدوث الانقلاب.
يرى الكاتب أن معاداة الغرب سِمَة مشتركة بين مختلف طوائف المجتمع التركي، وهو ما أدى إلى توحُّد عديد من الفصائل، مثل الإسلاميين المحافظين والعلمانيين القوميين.
قد يعجبك أيضًا: كيف تعني «الوطنية» كُره الآخر؟
ورغم أن خطاب حزب العدالة والتنمية كان بعيدًا عن هذه الأفكار لفترة من الوقت، إذ كان يتبنى فكرًا ليبراليًّا مواليًا للغرب ومعارضًا للقومية في مطلع الألفية، إلا أن وجهته تغيرت بطريقة ملحوظة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة، إذ أعرب ممثلو النظام التركي عن استيائهم من الغرب.
اعتُبرت الدول الأوروبية والولايات المتحدة غير متضامنة مع «حكومة تركية منتخبة بشكل ديمقراطي»، بل إن بعض الأتراك يؤمنون بأن الولايات المتحدة لها علاقة بحدوث الانقلاب، وهو ما أدى إلى تسهيل الطريق لحزب العدالة والتنمية نحو صياغة أيديولوجية موحدة تقوم على معاداة الغرب، عن طريق دمج خطابات فصائل المجتمع التركي، مثل الإسلاميين المحافظين والكماليين والقوميين اليساريين واليمينيين.
اقرأ أيضًا: «تركيا إردوغان» تطارد علماءها
يفتح ما ذكره توني ألارانتا، من صراعٍ على الأفكار والرموز بين الفصائل المختلفة في تركيا، مجالًا للتساؤل حول حقيقة الديمقراطية، وما إذا كان ما نردده من شعارات أو ما نؤمن به من مبادئ، أو حتى ما نعرفه من تاريخ، هو مجرد أفكار بثَّتها الأنظمة الحاكمة من أجل الحفاظ على استقرارها؟ أم أنها حقًّا أفكارنا؟
أحمد حمدي مسلَّم