كيف نفهم العلاقات الإيرانية الإسرائيلية؟
تمثل العلاقات الإيرانية الإسرائيلية حالة جدلية، فالجغرافيا والمصالح الواقعية دفعتا البلدين قبل الثورة الإيرانية إلى التقارب، فكلاهما أقلية في منطقة تملؤها أغلبية عربية، ومن الممكن لإيران التخلي في أي وقت عن «قضايا العرب» والتركيز على الهوية العرقية والثقافية الفارسية المغايرة للعرب، أما إسرائيل فمن صالحها أي مزيد من الشرعية والاعتراف والقبول الدولي.
تلاقي المصالح هو ما حدث في الخمسينيات والستينيات، حين هيمنت «سياسة المحيط» التي أرساها بن غوريون على الاستراتيجية الإسرائيلية، والتي اعتمدت على الفكرة التالية: إذا كان العرب يحاصرون إسرائيل جغرافيًا، فعلى إسرائيل بناء علاقات وثيقة مع دول محيطة بالعرب لكي تحاصرهم. وبالفعل كانت العلاقات الإسرائيلية مع كل من تركيا وإيران وإثيوبيا على أحسن وجه، مما أثار إمكانية بناء إسرائيل للعلاقات مع بعض الأنظمة العربية بدلًا من محاصرتها.
أما الجهة الأخرى للعلاقات الإيرانية الإسرائيلية فتتمثل في نشأة نظام إيراني بعد الثورة، يعادي إسرائيل ويدعم حركات المقاومة علنًا، بل ونشأة حركات مقاومة لإسرائيل تؤمن بنظرية ولاية الفقيه، كحزب الله الشيعي وحركة الجهاد الإسلامي السنية، الأمر الذي دفع العلاقات بين البلدين نحو التنافر لأسباب أيديولوجية و«بنائية» (Constructivist). ففي الوقت الذي تدفع فيه الجغرافيا والواقعية البلدين نحو التجاذب، يتنافر البلدان بفعل الأفكار المهيمنة على السياسة، متمثلة في فكر ولاية الفقيه والفكر الصهيوني، وبذلك تتمثل جدلية علاقاتهما، على الرغم من أن هذا التنافر لم يمنع البلدين من الالتقاء على مصالح مشتركة، كما حدث إبان الحرب العراقية الإيرانية حين عقد الطرفان صفقة عسكرية مشهورة باسم «إيران-كونترا».
الفوضى في زمن الثورة
في عام 1979، استقبل الزعيم الإيراني آية الله الخميني العائد حديثًا إلى طهران، القائد الفلسطيني ياسر عرفات، في وقت كانت فيه منظمة التحرير الفلسطينية على قوائم الإرهاب العالمية. جرى تهنئة القيادات الإيرانية بمناسبة انتصار الثورة على نظام الشاه الحليف لأمريكا وإسرائيل، وفي المقابل، سلمت القيادات الإيرانية الثورية مباني السفارة الإسرائيلية في طهران إلى فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، التي انتشرت مكاتبها في طهران ومدن إيرانية أخرى، مؤشرة على زمن جديد لإيران وتحولات علاقاتها بدول المنطقة.
بدت إيران الجديدة منحازة تمامًا تجاه القضية الفلسطينية، وبشكل حماسي مندفع كالثورة التي كانت لا تزال في مراحلها الأولى آنذاك، تلك الثورة التي ستشهد خلال أعوام قصيرة مزيدًا من التحولات التي ستصاحب اغتيال قياداتها وإعدام «أعدائها» من رجال الشاه وقيادات الثورة بالتوازي مع إقصائها وتخوينها، فضلًا عن الانزلاق إلى حرب طاحنة مع الجار العراقي، والتي لن تنتهِ إلا وقد استقر النظام الجديد حاكمًا لإيران كجمهورية إسلامية.
كان واضحًا منذ البداية أن إيران الجديدة على النقيض مما تعرفه المنطقة عن إيران الشاه، فالنخب السياسية والعسكرية ووجهاء المجتمع قد استُبدلت، بل لاحقت التهم بعض الأقليات وعلى رأسهم اليهود والبهائيين، مثل رجل الأعمال اليهودي الإيراني حبيب القانيان الذي أُعدم بتهم الفساد والتعامل مع الصهاينة و الأعداء، وحكمت محاكم الثورة بمصادرة مجمعه التجاري «بلاسكو» الأطول في طهران حين بنائه، وتحولت ملكيته إلى الدولة. بإعدام القانيان رئيس جمعية يهود طهران وأحد أبرز وجهاء يهود إيران، خشي بقية اليهود على أنفسهم وبدأت الهجرة إلى الخارج.
أما المطربة المشهورة هايدة التي كانت تحيي حفلات غناء في تل أبيب بعد الثورة الإيرانية، فحلت محلها أغاني الأناشيد الثورية في الأعوام الأولى للثورة، كما استبدل رجال مخابرات السافاك الذين تدربوا على أيدي الموساد بالـ«مجاهدين» الذين تدربوا في معسكرات منظمة التحرير الفلسطينية.
تفاوتت الدول العربية في سرعة تهنئتها للنظام الإيراني الجديد بنجاح الثورة، لكن معظم هذه الدول كالعراق ودول الخليج سرعان ما عادت مخاوفها من النظام الإيراني الجديد إلى الظهور. وبالرغم من كل هذه الإشارات الواضحة على أن إيران الجديدة معادية لإسرائيل وداعمة للقضية الفلسطينية، فإن إيران سيجري تصويرها خلال الحرب العراقية الإيرانية على أنها متآمرة مع إسرائيل من قبل إعلام النظام العراقي والدول المؤيدة له.
لاقت تلك الدعاية قبولًا عند بعض الجماهير العربية التي كانت تتعاطف مع العراق في الحرب، باعتباره هو الآخر في خانة الدول المتصدية لإسرائيل. وزاد من قبول الدعاية التي تتحدث عن التواطؤ الإيراني الإسرائيلي اتجاه الأخيرة إلى قصف المفاعل النووي العراقي عام 1981، فضلًا عن تسريب اتفاقيات تسليح ودعم تلقته إيران الإسلامية من مصادر إسرائيلية، وأهمها قضية إيران كونترا في السنوات الأخيرة للحرب العراقية الإيرانية.
«أنا وأخوي على ولد عمي، أنا وولد عمي على الغريب»
لا تزال بعض وسائل الإعلام العربية الخصيمة لإيران تحاول أن تنزع المشروعية عنها عبر وضعها في خانة التواطؤ مع إسرائيل ضد العرب، ولا تزال كذلك الجماعات التي عملت إيران على دعمها وتمويلها أو حتى تأسيسها في العالم العربي تغض الطرف عن بعض التناقضات المصاحبة للسياسة الإيرانية، فما تفعله القيادات الإيرانية والجماعات التابعة لها في العادة هو تكذيب المرويات التي تحدثت عن حصول إيران على أي دعم، كما في خطاب السيد الخميني يوم 24 أغسطس 1981.
إذا كانت إيران حليفة أو متواطئة متآمرة مع إسرائيل ضد العرب، فلماذا ترفع الشعارات المعادية لإسرائيل وتضحي بمصالحها مع الغرب.
أما المعالجة الأخرى التي تتبعها القيادات الإيرانية في التعامل مع أي إشاعات عن التنسيق مع أعداء الثورة فتتمثل في مجرد الصمت عن ذكرها، فقلما تَرِد هذه الأحداث في المناقشات العلنية داخل إيران، فضلًا عن عزل الشخصيات التي تفشي هذه الأسرار، كما حدث مع مهدي الهاشمي الذي عُزل هو وحسين منتظري بعد حديث الأول عن المحادثات السرية بين رفسنجاني وقياديين في الولايات المتحدة الأمريكية.
وهنا الإشكالية، فإذا كانت إيران عدوة لإسرائيل، فلماذا قصفت إسرائيل المفاعل النووي العراقي في وقت كان العراق فيه يحارب إيران على الحدود؟ فضلًا عن الصفقات العسكرية التي كان أشهرها إيران كونترا، حين تسربت وثائق في الولايات المتحدة تفضح كيف سهلت مجموعة من السياسيين في إدارة ريغان بصفاتهم الرسمية عمليات بيع الأسلحة لإيران خلال حرب الخليج الأولى، والتي تم بعضها عن طريق إسرائيل، وذلك في مقابل دفع إيران لمبالغ ستصرف لمساعدة جماعات الكونترا المدعومة أمريكيًا في نيكاراغوا، والتي لم يقر الكونغرس مبالغ إضافية لتمويل عملياتها التي تزعزع نظام الدولة الواقعة في أمريكا الوسطى.
نفذت إدارة ريغان تلك الحيلة لكي تتم عمليات التمويل دون المرور بالكونغرس، وفضلًا عن ذلك، رغبت إدارة ريغان في تسهيل إيران لعمليات إفراج بعض المختطفين الأمريكيين من قبل حزب الله في لبنان والجهاد الإسلامي في فلسطين. وقد تسربت تفاصيل العمليات إلى الإعلام الأمريكي إلى بداية التسعينيات حين أُغلقت القضية، وكانت العملية التي تمت سرًا تعد غير قانونية في الولايات المتحدة، بسبب فرضها لحظر السلاح على إيران منذ الأيام الأولى للثورة الإيرانية.
أما إذا كانت إيران حليفة أو متواطئة متآمرة مع إسرائيل ضد العرب، فلماذا ترفع الشعارات المعادية لإسرائيل وتضحي بمصالحها مع الغرب، فضلًا عن إنفاقها على الحركات المقاومة لإسرائيل بدلًا من صرف هذه الميزانيات على الداخل الإيراني؟
لعل الإجابة تكمن في فهم مغاير للنظام الإيراني، فهو أكثر براغماتية وواقعية مما نتصور، ولعل واقعيته تسبق القيم الثورية والأخلاقية وحتى الدينية التي ترفعها الثورة الإيرانية كشعارات إلى هذا اليوم. وفضلًا عن ذلك، فإن الأحكام الشرعية والفقهية التي يتبناها النظام تحلل، بل توجب، درء الخطر بأي شكل ممكن في المواضع التي يوجد فيها خطر وجودي على النفس.
يذكر كتاب «تحرير الوسيلة» للخميني أنه «لو خيف على زيادة الاستيلاء على بلاد المسلمين وتوسعة ذلك وأخذ بلادهم أو أسرهم، وجب الدفاع بأي وسيلة ممكنة». ولعل الثورة الإيرانية شرَّعت من هذا المنطلق «بحكم فقهي ثانوي» كما يصطلح عليه الفقهاء عقد الحيلة الشرعية، التي تمثلت في اتفاقية إيران – كونترا، «كدفاع بأي وسيلة ممكنة». فالاتفاق مع الشيطان نفسه يحل إذا كان هناك عدو يخاف منه أن يزداد استيلاء على «بلاد المسلمين»، فالخميني جاهر مرارًا وتكرارًا بتكفير صدام في خطاباته الثورية، متحدثًا عن «حزب البعث الكافر الذي أذاقت حكومته البعثية الكافرة المر للشعب العراقي»، وأن «صدام حسين وعصابته أتباع ميشيل عفلق الملحد أزلام للصهيونية والإمبريالية».
تحولات أيديولوجية واستمرارات جيوسياسية
يرى تريتا بارزي المؤسس والرئيس الأسبق للمجلس الوطني الإيراني الأمريكي، وهو إحدى أبرز جماعات الضغط (اللوبي) الإيرانية بعد الثورة في واشنطن، أن التحولات في العلاقات الإيرانية الإسرائيلية أشد ارتباطا بالتغيير في موازين القوى بعد الحرب الباردة، منها بالثورة الإسلامية لعام 1979.
ورغم أن الثورة كانت بمثابة انتكاسة كبيرة لإسرائيل، فإنها لم تمنعها من دعم إيران والسعي لتحسين علاقاتها بآية الله الخميني كثقل مكافئ لأعداء إسرائيل من العرب. ففي الوقت الذي كان القادة الإيرانيين يهتفون فيه لتدمير إسرائيل في الثمانينيات، كانت إسرائيل واللوبي المؤيد لها في واشنطن يحاولان التأثير على الولايات المتحدة لحملها على عدم الالتفات إلى الخطاب الإيراني.
يستطرد بارزي في شرحه لفرضيته، ففي التسعينيات، حين استفردت الولايات المتحدة بالنظام العالمي وإعادة بناء النظام في الشرق الأوسط، عملت كل من إيران وإسرائيل على حدة على إحباط مبادرات السياسة الخارجية الأمريكية، فألقت إيران بثقلها ضد عملية بناء السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين مخافة تهميشها في هذه العملية وفي المنطقة، بينما سعت إسرائيل إلى منع أي حوار أمريكي إيراني مخافة أن تخون الولايات المتحدة المصالح الأمنية الإسرائيلية في حال باشرت إيران وأمريكا اتصالات مباشرة. ولا يزال هذا هو المنطق السائد بين الطرفين، وهو ما يغذي جزءًا كبيرًا من التوترات في المنطقة.
تتعارض نظريتا الصهيونية وولاية الفقيه بشكل متنافر جدًا، مما يصعب التقاء إيران وإسرائيل على أي عمل أو غاية مشتركة، ولكن بنية المنطقة وشبكة العلاقات في الشرق الأوسط حتمت على البلدين في السابق الالتقاء على المصالح، حتى في ظل حكومة الولي الفقيه، وبالتالي فقد تحتم الظروف في العراق أو غيره من دول المنطقة التي تداخلت أحداثها مع القوى العالمية والإقليمية التقاء مصالح الخصمين. كما يساعد وصول قيادات براغماتية كالراحل رفسنجاني أو التيار الذي يمثله، على تقديم المصالح المحكومة بجغرافية المنطقة على الفكر السياسي المهيمن على البلدين.
حسين سنا