غضب الأهواز: العرب «الأكثر خطرًا» على طهران
يوم السبت 22 سبتمبر 2018، كانت عقارب الساعة تشير إلى التاسعة والنصف صباحًا. اصطف الجنود الإيرانيون لأداء عرض عسكري في مدينة الأهواز بمناسبة الذكرى الثلاثين للحرب العراقية الإيرانية.
احتشد الكبار والصغار على جانبي منصة المشاهدة. وبعد دقائق من بدء العرض، فوجئ الناس بأربعة أفراد يرتدون زيًّا عسكريًّا، يمطرون الحشود بالرصاص. سادت الفوضى، وبحث الناس عن مكان يحتمون به من الطلقات التي أدت إلى مقتل 29 شخصًا، بينهم مدنيون ومجندون وطفل لم يتجاوز الرابعة، إضافة إلى إصابة العشرات.
من المسؤول؟
بعد عدة ساعات اتهم المسؤولون الإيرانيون حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، بالوقوف وراء الهجوم الإرهابي. وفى تصريحاته قال المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي: «جريمتهم استمرار لمؤامرات دول المنطقة التي ليست سوى دُمى في يد الولايات المتحدة، وتهدف إلى انعدام الأمن في بلدنا العزيز». لم يحدد خامنئي الدول التي أشار إليها.
يفضل كثيرون نسبة الهجوم إلى «الحركة العربية لتحرير الأهواز»، وبخاصة أنها ليست أول مرة ترتكب فيها الجماعات الانفصالية مثل هذه الأفعال.
في المقابل، ومن إحدى القنوات الناطقة باسم الأهواز، والتي تُبَث من بريطانيا، ويمتلكها رجل أعمال سعودي، ظهر المتحدث باسم الحركة العربية لتحرير الأهواز (إحدى الجماعات الانفصالية في مقاطعة خوزستان)، يعقوب حر التستري، ليعلن مسؤولية الحركة عن الهجوم الإرهابي، واصفًا الهجوم بأنه «عمل مشروع» ردًّا على ما يعانيه الأهوازيون من ظلم النظام الإيراني.
بعدها بيوم واحد، نشر تنظيم الدولة الإسلامية «داعش»، مقطعًا مصورًا يظهر فيه ثلاثة من مقاتلي التنظيم، وهم يعلنون ذهابهم إلى الهجوم المسلح على العرض العسكري. لكن هناك شيئًا واحدًا جعل الناس تشك في إعلان داعش مسؤوليته عن الهجوم.
فقد ذكر التنظيم على مجلته الإلكترونية «آفاق»، أن الرئيس حسن روحاني، كان بين الحضور وقت الهجوم، بينما روحاني كان يحضر عرضًا عسكريًّا آخر في طهران.
يفضل كثيرون نسبة الهجوم إلى «الحركة العربية لتحرير الأهواز»، وبخاصة أنها ليست أول مرة ترتكب فيها الجماعات الانفصالية مثل هذه الأفعال.
لكن، لماذا اتجهت هذه الجماعات إلى العنف والسلاح؟ وما مطالبها؟
من نار الشاه إلى جحيم الخميني
يبلغ عدد سكان الأهواز نحو أربعة ملايين و710 الف نسمة، غالبيتهم يعتنقون الإسلام الشيعي، وأقلية منهم على المذهب السني.
تقع مقاطعة خوزستان جنوب غرب إيران، مع الحدود العراقية، وهي أقرب المقاطعات الإيرانية لمحافظة البصرة بالعراق، وموطن الأقلية العربية في إيران.
حتى عام 1925، كانت المنطقة الغنية بالنفط إمارة عربية تابعة للدولة الكعبية، ويحكمها خزعل الكعبي، ويطلق عليها «عربستان».
لكن مع وصول الأسرة البهلوية إلى الحكم في إيران، طمع رضا بهلوي في ضم تلك المقاطعة إلى الأراضي الفارسية، واستطاع تحقيق ذلك في 1925، بمساعدة البريطانيين المتلهفين للحصول على ثروات خوزستان النفطية.
استسلم الشيخ الكعبي، وأصبحت خوزستان واحدة من المحافظات الإيرانية، وفقد الأهوازيون (الأهواز عاصمة خوزستان)، التحكم في مصائرهم وثرواتهم.
في عهد محمد رضا بهلوي، ظهرت أصوات المعارضة، وتوسَّم الأهوازيون الخير في الثورة الإسلامية، فانضموا إليها، وبخاصة بعد أن وعدهم روح الله الخميني بإعادة الحكم الذاتي إلى مقاطعتهم. وصل الخميني إلى الحكم، ولم ينفذ أي وعد من وعوده.
بداية من 1979، بدأ النضال الحقيقي لأهالي الأهواز. وفي غضون أشهر من إعلان الجمهورية الإسلامية، انضم العرب في خوزستان إلى باقي الأقليات الأخرى من الأكراد والبلوش والترك، وحاربوا حكومة رجال الدين الجديدة في طهران.
الحرب العراقية الإيرانية
في إبريل 1980، اقتحمت جماعة عربية انفصالية السفارة الإيرانية في لندن، واحتجزوا نحو 26 رهينة للمطالبة بالإفراج عن السجناء الأهوازيين. لكن المحاولة التي استمرت عدة أيام، انتهت باقتحام القوات البريطانية للسفارة وتحرير الرهان.
في نفس العام أيضًا، شن الرئيس العراقي صدام حسين حربه ضد الجمهورية الإسلامية الوليدة، خوفًا من تنامي سيطرة الخميني على الشيعة في العراق. ولمواجهة فكرة تصدير الثورة الإيرانية، تواصل صدام مع الأهوازيين، وحاول استمالتهم بكل الطرق، فمنحهم الأراضي والمنازل في العراق كي يقفوا معه ضد إيران في حرب استمرت ثماني سنوات.
هنا بدأ الأمل يتجدد بالنسبة إلى بعض العرب الإيرانيين، وتخيلوا أن صدام المنقذ من ظلم «المحتل الفارسي» كما يطلقون عليه ذهب بعضهم إلى العراق، وهرب آخرون من الخدمة العسكرية الإيرانية ليحاربوا في صفوف العراق، ومن لم يستطع الفرار اضطر إلى الانضمام قسرًا إلى القوات الإيرانية لمحاربة صدام. لكن إيران التي كانت في نشوة ثورية حينها، أنهت الحرب لصالحها، فعاد إلى خوزستان كل الأهوازيين الذين هربوا إلى العراق. لكنهم أصبحوا محل شك وريبة من النظام الإيراني، ورغم ذلك استمروا في إعلان مطالبهم.
انتفاضة وتفجيرات عام 2005
فى إبريل 2005، انتشرت رسالة حملت توقيع محمد علي أبطحي، نائب الرئيس الإيراني حينها محمد خاتمي، تفيد ببدء القوات الأمنية الإيرانية إخلاء السكان العرب قسرًا من مناطقهم، وتهجيرهم إلى أماكن أخرى، وإحلال إيرانيين مكانهم.
انتشرت الرسالة بين أهالي خوزستان، فخرجوا إلى الشوارع محتجين. سرعان ما اشتبك المتظاهرون مع قوات الأمن، فقُتِل المئات، واعتُقِل عدد كبير من صفوف المتظاهرين، وكانت تلك الأحداث التي استمرت عدة أيام، أول انتفاضة كبيرة للأهوازيين.
في محاولة لتهدئة الأمور، صرح نائب الرئيس، بأن الرسالة مزورة، ولا أساس لها من الصحة. ووصف وزير الاستخبارات أن تلك المظاهرات ما هي إلا فتنة يحاول إشعالها دول خارجية، ويساعدهم معارضون محليون. مؤكدًاأن لديه تقارير رصدت تورط بعض الحركات الانفصالية العربية في إشعال المظاهرات.
في نفس العام بعد هدوء المظاهرات نسبيًّا، وقبل التصويت على الانتخابات الرئاسية لاختيار من يخلف خاتمي، استيقظ الإيرانيون على سبعة انفجارات مروعة، لم تشهدها ايران منذ حربها مع العراق، وأسفرت عن عشرات القتلى والمصابين.
كان نصيب الأهواز أربعة تفجيرات طالت خطوط أنابيب نقل الغاز، وثلاثة في العاصمة طهران. وقتها لم تعلن أي جهة مسؤوليتها، فيما أعلن الأمن الإيراني إلقاء القبض على عناصر من حركة انفصالية، تلقت الدعم من أنصار صدام حسين، واتُّهمت دول أخرى بمساعدة تلك الحركة.
ميثم سعدي، باحث في شؤون الحركات المسلحة، يقول لـ«منشور»: «تفجيرات 2005، بداية العداء الحقيقي بين النظام الإيراني والحركات الانفصالية التي اختارت العنف لتصعيد الأمور».
«الثورات العربية» تصل إلى خوزستان
في 2011، اجتاحت الثورات العربية عدة بلدان في الشرق الأوسط. لكن قبل ذلك مرت إيران بشيء مشابه، إذ كانت «الحركة الخضراء» في 2009، أكبر حركة احتجاجية عرفتها إيران منذ قيام الجمهورية الإسلامية، توقع بعضهم أن تعيد الثورات العربية اشتعال المظاهرات في إيران. ورغم أنه لم يصل إلى إيران كلها، لكنه وصل إلى الأهواز . فخرجوا في مظاهرات صادفت الذكرى السنوية لانتفاضة 2005. استمرت الاحتجاجات أيامًا، وأطلقوا عليها «يوم الغضب». لكن كالعادة تعرضت للقمع واعتُقِل مئات الأشخاص وأصيب آخرون.
بعد إخماد الاحتجاجات، حُكِم بالإعدام على خمسة من النشطاء السياسيين في الأهواز، بتهمة قتل ضابط مخابرات، ونُفِّذ الحكم علانية أمام الأهالي.
في ديسمبر 2017 خرج الأهوازيون للتظاهر رافعين شعار «الموت للديكتاتور»، في إشارة إلى المرشد الأعلى.
وثَّقت منظمات دولية لحقوق الإنسان، المظالم والتمييز العرقي الذي يتعرض له العرب في خوزستان، وبدأت الأمور تأخذ طابعًا أكثر عنفًا.
توالت الأحداث، وشهدت الأهواز عشرات التفجيرات التي تستهدف خطوط أنابيب نقل الغاز والنفط، والبنية التحتية، والفاعل دائمًا معروف سلفًا: «الحركات العربية الانفصالية».
في بداية 2015، قُطِع التيار الكهربائي عن 11 مدينة في خوزستان لعدة أيام، نتيجة عاصفة ترابية هائلة، فخرجت المظاهرات التي انتهت إلى العنف، وأحرق الأهالي مباني حكومية ومراكز شرطة.
في نفس العام، يشعل البائع المتجول يونس العساكرة (34 عامًا)، النيران في نفسه أمام مبنى المحافظة اعتراضًا على الفقر والتمييز الذي يتعرض له العرب في إيران. في جنازته خرج المئات محتجين.
في ديسمبر 2017، خرج مئات الإيرانيين للاحتجاج على سوء الأوضاع الاقتصادية. استغل الأهوازيون الفرصة، وخرجوا للتظاهر رافعين شعار «الموت للديكتاتور»، في إشارة إلى المرشد الأعلى علي خامنئي. شهدت المظاهرات أعمال عنف من ناحية المتظاهرين.
إحساس متبادَل بالخطر
في بداية 2018، ذهب اللواء رحيم صفوي، أحد أبرز مستشاري المرشد الأعلى الإيراني، إلى خوزستان، في زيارة هدفها تهدئة الأمور نسبيًّا. من هناك صرح بأن «الاحتجاجات الأخيرة أكثر ضررًا لأمن إيران القومي من التهديدات الخارجية»، ما يعكس خوف الجمهورية الإسلامية وقلقها من تطور الأمور.
أعلن الحرس الثوري أنه على استعداد للمساعدة في تنفيذ مشروعات استصلاح الأراضي الصحراوية، ومعالجة تلوث الماء والهواء. لكن هذا الحذر الرسمي يصاحبه تعامل شديد العنف مع المعارضين الأهوازيين.
عبد الله (اسم مستعار) يبلغ من العمر 34 عامًا، عربي إيراني من الأهواز، هرب من الجمهورية الإسلامية منذ عامين. قبل ذلك اعتُقِل لمدة عام ونصف العام بسبب مشاركته في المظاهرات، التي خرجت احتجاجًا على جفاف المياه الذي ضرب الأراضي الأهوازية.
لم يُرِد عبد الله الإفصاح عن البلد الذي استقر به، قائلًا: «الاستخبارات الإيرانية منتشرة في كل الدول الأوروبية من أجل التفتيش عن أي منشق أهوازي لقتله. أنتظرهم كل يوم، وأرهقني انتظار الموت».
يضيف عبد الله: «نمتلك ثروة نفطية هائلة وأنهارًا وأراضي زراعية، لكننا فقراء. الاحتلال الفارسي يسرق كل مواردنا، ويتعمَّد اضطهادنا. إنهم يحتقرون العرب».
يتحدث عبد الله باللغة العربية التي حُرِم من دراستها بأمر من النظام الإيراني. يقول: «بدلًا من أن نتمتع بكل تلك الثروات، أصبحنا نعاني من تلوث الماء والهواء، وتَصحُّر الأراضي الزراعية، ويحاولون طردنا من أراضينا».
بعيدًا عن أن خوزستان غنية بالنفط، فإنها تمتلك عددًا من الأنهار. ويوجد بها أكثر من مليون هكتار من الأراضي الزراعية. الزراعة هي المهنة الأساسية للأهالي.
فور ظهور علامات الجفاف في المدن الإيرانية، وبدلًا من حل المشكلة، لجأت الحكومة إلى نقل مياه نهر «كارون» عبر الأنابيب، إلى مدن مثل أصفهان ويزد وكرمان. وبسبب عمليات استخراج النفط، ضرب الجفاف نهر «هور» العظيم.
مجيد معتمدي، يعمل مهندسًا، وكان ضمن الفريق الذي بنى السدود على أنهار خوزستان، ونقل المياه إلى المحافظات الأخرى، يقول: «حذرنا الحكومة الإيرانية كثيرًا من بناء السدود، لأنها تزيد الملوحة في المياه وتقتل الأسماك وتُفقِد المحافظة أراضي زراعية كبيرة».
تسبب جفاف المياه في زيادة تلوث الهواء. إذ تتعرض خوزستان إلى عواصف ترابية تعطل حركة الحياة، وتصيب الأهالي بأمراض في التنفس.
يختم عبدالله حديثه: «كل هذه الأمور لم تكفهم. إضافة إلى إذلالنا، منعوا دراسة لغتنا الرسمية وفرضوا علينا لغتهم. إذ غيروا أسماء المدن والشوارع إلى أسماء فارسية. حتى أسماؤنا والزي العربي منعوه».
شيماء محمد