تراجيديا الحصانة الدبلوماسية: النشأة والتطور والعواقب المؤسفة
لم يستغرق الأمر طويلًا قبل أن يكتشف البشر حاجتهم إلى التواصل في أوقات السلم، وتأمين التواصل في أوقات الحرب. قديمًا كان المبدأ المتفق عليه: «لا تقتل حامل الرسالة»، ثم تطور هذا الاتفاق حديثًا إلى: «الحصانة الدبلوماسية».
مسيرة قُدِّر لها أن تكون موضوع حكاية تاريخية مسلية عن تطور الذكاء الإنساني. لكن هذا لا أعدكم به.
الإشارات الأولى
تَتبُّع اللحظات الأولى لفكرة الحصانة الدبلوماسية ربما يقودنا إلى ما قبل التاريخ، ربما 4000 سنة قبل الميلاد. كتب «هيرودوت»، المؤرخ الإغريقي الشهير، أن الرسول الذي ترسله دولة ما إلى الأراضي الإغريقية، لا بد من أن يعامَل معاملة حسنة، وأن يُعطَى الطعام والمال اللذين يعينانه على رحلته، حتى لو كان يحمل أخبارًا سيئة، أو ينقل تهديدًا من الدولة التي أرسلته.
كان لمخالفة هذا الأمر آثار وخيمة. قتْل الرسول كان يعني إعلان الحرب عادة. في كتابه «Why we Fight»، يذكر المؤرخ «ديفيد تشيرشمان» حكاية عن أن مبعوث الإمبراطورية الرومانية إلى أحد البلدان، عومل بطريقة سيئة. وصلت إلى درجة تلطيخه بالبول في أثناء مغادرته مدينة تارينتم الإيطالية (تارنتو الآن)، وكان أن أقسم المبعوث: «هذه اللطخات لن تُزال إلا بالدم»، وهو القسم الذي أوفى به، تحديدًا في أثناء حرب قرطاجة الثانية، التي أنهت فيها روما سيطرة قرطاجة على شبه الجزيرة الأيبيرية.
في هذه الفترة، كانت الأمور أبسط بعض الشيء، ولم يُلحظ فيها تغيير كبير: لا نقتل رسولكم، ولا تقتلون رسولنا. على هذا المنوال سارت الأمور حتى العصور التالية، مثل عصور الممالك الهندية والإسلامية، وشهدت الأخيرة بالذات ازهادرًا لهذه الفكرة والمنطق في التعامل مع الرسل والمبعوثين وتجريم الاعتداء عليهم.
جُزُر تتواصل
أول محاولة حديثة لكتابة تعهُّد يضمن سلامة المبعوثين، يعود إلى ما قبل مئتي عام تقريبًا، في مؤتمر فيينا الذي عقد عام 1815.
لم يختلف منطق وجود رسل بعد ظهور الدولة الحديثة. فالتصور الحداثي عن الدولة أنها هيئات سياسية واجتماعية لا يمكنها أن تنعزل عن المجتمع الدولي. فكان لا بد من وجود حلقات وصل بين الدول وبعضها، ما اقتضى بتبادل المبعوثين الدبلوماسيين.
بزيادة عدد الدول، ازدادت عدد البعثات الدبلوماسية، وكان لا بد من تنظيم ضمانات تحمي الدبلوماسيين من الملاحقة الجنائية والتفتيش، وتحمي أيضًا عائلاتهم وأموالهم، لأن المبعوث ممثل عن رئيس دولته في الدولة المضيفة.
أول محاولة حديثة لكتابة تعهُّد يضمن سلامة المبعوثين، يعود إلى ما قبل مئتي عام تقريبًا، في مؤتمر فيينا الذي عقد عام 1815، وحضرته القوى العظمى الكبرى وقتها: المجر والمملكة المتحدة وروسيا البيضاء وفرنسا. بينما كان نابليون بونابرت يجتاح الأراضي الأوروبية.
كان هدف المؤتمر الأساسي توفير خطة سلام للقارة الأوروبية، وضمان حماية كل المبعوثين، وتعهُّد كل دولة بسلامة المبعوثين إلى أراضيها، وبخاصة وسط الظروف العنيفة التي كانت تشهدها القارة الأوربية.
فيينا، نفس المكان الذي شهد أول اتفاق حقيقي بعد المعاهدة الأولى، وبالتحديد عام 1961، تحت مظلة الأمم المتحدة هذه المرة. تضمَّن الاتفاق بشكل واضح حديثًا عن العمل الدبلوماسي بشكله الذي نعرفه الآن، وكذلك مسؤولية كل دولة عن توفير بيئة عمل مناسبة لمبعوثي الدول الأخرى، دون خوف من الإكراة أو الملاحقات القانونية من الدولة المضيفة.
تضمنت اتفاقية فيينا التي وُقِّعت عام 1961 كل ما يخص المبادئ الدبلوماسية وعلاقاتها بين الدول المستقلة، ضامنةً للمبعوثين بيئة عمل مناسبة، ثم تبعتها اتفاقية فیینا للعلاقات القنصلیة عام 1963، ودخلت حيز التنفيذ عام 1967، وما زالت الاتفاقيتان هما الإطار القانوني الذي يحدد كل ما يتعلق بالبعثة الدبلوماسية. وصدَّق على الاتفاقية 191 دولة من أصل 193 دولة في الأمم المتحدة.
تضمن اتفاقية فيينا للمبعوث الدبلوماسي امتياز الحرمة الشخصية. وتعني أن شخص المبعوث الدبلوماسي لا يجوز انتهاكه، فلا يجب استعمال وسائل العنف معه، ولا القبض عليه مهما تكن الأسباب، فهو محصن من المتابعة القضائية. وتنص الاتفاقية على حماية الدولة المضيفة لشخص المبعوث وأمواله ومسكنه ومقر عمله الرسمي.
تختلف الامتيازات الشخصية عن الحصانة القضائية. فالامتيازات غير محددة، أما الحصانة القضائية، فلا يمكن زيادة حالاتها أو نقصانها أكثر أو أقل مما تنص عليه اتفاقية فيينا.
ويستطيع المبعوث الدبلوماسي أن يختار عدم استغلال الامتيازات الشخصية والاستغناء عنها إذا أراد. أما الحصانة القضائية، فلا شأن له بها وحق التنازل عنها أو رفعها يعود إلى دولته.
هناك عدد كبير من الحصانات والامتيازات التي أقرتها اتفاقية فيينا عام 1961، والتي تهدف لتسهيل أعمال البعثة، مثل حرية الاتصال والمراسلات بين البعثة وحكومة الدولة المضيفة (المادة 27)، إضافة إلى حرية التنقل لأداء المهمات الوظيفية (المادة 26)، بجانب الإعفاءات المالية والجمركية. في حالة قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين أو استدعاء البعثة بشكل مؤقت أو دائم، فإنه يجب على الدولة المضيفة أن تحمي البعثة وأموالها ومحفوظاتها حتى في حالة النزاع المسلح، أو أن تعهد بتلك المسؤولية إلى دولة ثالثة (المادة 45).
بما أن الحصانة القضائية تجعل المساس بالدبلوماسيين أمرًا صعبًا، إلا أن هناك طرقًا لمسائلة المبعوثين. إذ يمكن أن يخضع الدبلوماسي لمحاكم الدولة المضيفة إذا رفعت عنه دولته الحصانة، أو إذا لجأ المبعوث إلى محاكم الدولة المضيفة لأن هذا يعني اعترافه بعدالة قضاء هذه الدولة وقبوله الخضوع لسلطتها.
كذلك يمكن للدولة المضيفة أن تطلب من الدبلوماسي مغادرة أراضيها، وهو ما يطلق عليه: «Persona non Grata»، أو الشخص غير المرغوب في وجوده.
في حالة ارتكاب ذوي الحصانة القضائية جرائم تدخل في اختصاص محكمة الجنايات الدولية، فإنه يخضع لاختصاصها. ولأن الدبلوماسي لا يعد دبلوماسيًّا في دولته ولا يتمتع بحصانة قضائية، فيمكن للمحكمة أن تطلب من دولته تسلميه لإجراء محاكمته عن الجرائم التي ارتكبها. وهو ما حدث في عام 2008، عندما سلمت الحكومة الصربية رئيس الجمهورية السابق «رادوفاس كاراديش» للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة جرائم حرب وإبادة.
حالات استغلال السلطة
للأمر جوانب أخرى بالطبع. فمثل كل سلطة ممنوحة، أو قدرة على الإفلات من المساءلة، يستغل بعضهم هذه الصلاحيات بطرق ليست ضمن الأغراض التي مُنِحت من أجلها. مثلًا، في 1984، أطلق مسؤول ليبي داخل سفارته في لندن، وابلًا من الرصاص من إحدى النوافذ، على شرطية بريطانية تحرس مظاهرة خارج السفارة الليبية، ما أسفر عن مقتل الشرطية وإصابة آخرين من المتظاهرين.
أدى ذلك إلى حصار السفارة 11 يومًا. لكن بسبب الحصانة الدبلوماسية لم تتمكن قوات الشرطة من تفتيش حقائب الدبلوماسيين والعاملين في السفارة، ولم يُعثَر على سلاح الجريمة، ولم يعاقَب عليها أحد حينها.
لكن بعد مرور 31 عامًا، وبعد رفع الحصانة الدبلوماسية عن هذا الشخص، استطاعت شرطة سكوتلاند يارد إلقاء القبض عليه عندما أصبح في الخمسين من عمره.
القصة السابقة ذات نهاية سعيدة، حتى لو تحققت العدالة بعد ثلاثة عقود من تنفيذ الجريمة، لأنه في أحيان أخرى لا تتحقق العدالة على الإطلاق.
واحد من أسوأ أمثلة سوء استغلال الحصانة الدبلوماسية، ما حدث في عام 1979، عندما اتُّهم السفير البورمي في سريلانكا بإطلاق النار على زوجته عندما شك في خيانتها. في صباح اليوم التالي لقتلها، أخبر الجيران الشرطة بأن السفير بنى محرقةً جثث صغيرة في فناء منزله الخلفي ووضع به جثة زوجته.
عندما وصلت الشرطة إلى مكان الحادث، لم تستطع الدخول إلى منزله بسبب حصانته الدبلوماسية. فلم يكن بوسعهم فعل شيء غير مشاهدة قتل السفير لزوجته حرقًا. واستمر في وظيفته بعض الوقت إلى أن استدعته بلده في النهاية.
ولأن الحصانة الدبلوماسية وحدها لم تكن كافية، فإن هناك حقائب ومُصلقات دبلوماسية مخصصة للوثائق الدبلوماسية، ولا يمكن تفتيشها بالطبع أو فتحها. حتى لو سمعتَ صوت صراخ يخرج من الحقيبة أو الصندوق، فلا يوجد شيء يمكنهم فعله.
هذا الأمر حدث فعلًا في عام 1984، عندما حاول بعض النيجيريين والإسرائيليين اختطاف وزير نيجيري سابق، سافر إلى لندن بعد الانقلاب العسكري في نيجيريا، واتُّهم بالاستيلاء على ملايين الدولارات. إذ قرر المختطفون وضعه في صندوق يحمل ملصقًا دبلوماسيًّا. لم تنجح المهمة، لكن فقط لأن الأوراق لم تكن صحيحة.
في 2005، ألقت شرطة فيرجينيا القبض على رجل في عقده الرابع، كان يحاول ممارسة الجنس مع فتاة تبلغ من العمر 13 عامًا. لكن بعد ذلك، تبيَّن أنه دبلوماسي من الإمارات العربية المتحدة، ما اضطر رجال الشرطة إلى إطلاق سراحه ليعود بعد بضعة أيام إلى بلده.
وربما تكون حادثة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، في الثاني من أكتوبر 2018، المثال الأحدث والأشهر لاستغلال ثغرات الحصانة الدبلوماسية. إذ لم تتمكن أي جهة من تفتيش القنصلية لمعرفة ماذا حدث إلا بعدها بأسبوعين تقريبًا، وذلك في انتظار موافقة السعودية. الحصانة لم تتوقف فقط على المبنى، فحتى عندما اكتشفت الشرطة التركية سيارة دبلوماسية مهجورة، ويُشتبه أن لها صلة بعملية القتل، لم تتمكن من معاينتها إلا بعد الحصول على الإذن السعودي.
هل هي فكرة انتهى وقتها؟
حان الوقت لإعادة النظر في مفهوم الحصانة. أو فصل العمل الدبلوماسي عن الجرائم ذات الخطورة العالية.
الفكرة الأساسية للحصانة الدبلوماسية تنطلق من وجود قنصليات وسفارات تخضع للقانون الدولي، وبذلك تصبح منيعة تمامًا أمام الدولة المضيفة لهذه السفارة أو القنصلية. وهي كذلك لا تستطيع مجرد دخول هذه المساحات إلا بإذن مسبق من الدولة صاحبة السفارة.
يرى «جوفري روبيرتسون»، المحامي البارز في مجال حقوق الإنسان، أن هذا النوع من الاتفاقيات انتهت فائدته منذ قديم الأزل. وأنه كان موجودًا في ظروف خاصة، ويجب أن يعاد النظر فيه طبقًا لمعايير هذا العصر.
يرى روبيرتسون أن اتفاقية فيينا كانت تهدف إلى الوصول إلى اتفاق بين قوى متصارعة، خرجت من حرب عالمية كُبرى ودخلت في حرب باردة، ولذلك كان من الضروري الاتفاق على طريقة تعامل تضمن مساحة للتفاعل والتواصل. أما الآن، فإن ضررها أكبر من نفعها بكثير.
ربما حان الوقت لإعادة النظر في مفهوم الحصانة نفسها. أو على الأقل، فصل العمل الدبلوماسي عن الجرائم ذات الخطورة العالية. هذه مساحة عالمية مستحدَثة تُرِكَت دون فحص منذ عام 1961، وربما حان الوقت لإعادة النظر فيها.
ندى رضا