من يمتلك الأفكار الإبداعية: خالقوها أم الجمهور؟
في عام 2015، أبدت شركة «HBO» استياءً شديدًا إثر قرصنة مجموعة من حلقات الموسم الخامس من مسلسلها الشهير «Game of Thrones»، وأجرت تحقيقًا حول الحادثة وحذرت من استمرار تحميل الحلقات، بعد أن تمكن ملايين الأشخاص في مختلف دول العالم من تحميلها عبر التورنت.
لم يكن المسلسل ليصل إلى ما وصل إليه من شهرة لولا القرصنة، فكم واحد من المهووسين بالمسلسل يملك اشتراكًا في قنوات «HBO»؟ أو بالأحرى: كم دولة لا تصل إليها اشتراكات القناة، وفيها من يرغبون في متابعة المسلسل، ولا وسيلة لهم إلا مواقع القرصنة؟
هل سبق أن حملت فيلمًا أو أغنية أو كتابًا بشكل مجاني من مواقع غير قانونية على الإنترنت؟ قد يكون معظمنا فعل ذلك، لكن ما مدى أخلاقية هذا الفعل في ما يخص حقوق الملكية الفكرية؟
تذكر المنظمة العالمية للملكية الفكرية في تعريفها للملكية الفكرية أنها إبداعات العقل التي يحميها القانون ليتمكن أصحابها من كسب الاعتراف أو الفائدة المالية، وتذكر أن هدفها «إرساء توازن سليم بين مصالح المبتكرين ومصالح الجمهور العام، وإتاحة بيئة تساعد في ازدهار الإبداع والابتكار».
ذكر تقرير نشرته مجلة «جاكوبين» الأمريكية وترجمته مدونة «ما العمل» أن عديدًا من الباحثين في حقوق النشر يقتفون جذورها التاريخية وصولًا إلى «قانون آن»، الذي مرَّره البرلمان الإنجليزي عام 1710 بعد أن أصدرت أخت الملك إدوارد، الملكة الكاثوليكية «ماري الدموية»، أول قوانين الترخيص في عام 1556، وكان هدفها بوضوح هو ما أسماه التقرير «قمع المعارضة السياسية»، إذ خوَّلت شركة واحدة بإدارة كل عمليات الطباعة والنشر القانونية في إنجلترا.
يذكر التقرير وجود اتفاق بين الفيلسوفين الإنجليزيين «جون لوك» و«توماس هوبز» على أن الدين كان أفضل وسيلة لكبح الجماهير الحانقة وقتها.
ويضيف أنه «لم يشكل الناشرون القراصنة تهديدًا على قوة التاج البريطاني وأرباح الناشرين المحتكرين وحسب، بل شكلوا تهديدًا على النظام الاقتصادي السياسي الناشئ ذاته أيضًا، وبعد أن قُمِعت المقاومة قمعًا تامًّا وغُرِست روح الرأسمالية في الثقافة المحلية، سُمِح لقانون الترخيص بأن يزول عام 1695، لأن الرقابة لم تعد ضرورية، فقد أصبح صُنَّاع الرأي لهذا المجتمع يمارسون الرقابة على أنفسهم».
كان جون لوك، بحسب التقرير، مناصرًا متحمسًا لإلغاء قانون الترخيص لأنه، كباحث وجامع للكتب، كان ممتعضًا من أن الكتب القانونية غالية وذات طباعة سيئة في إنجلترا، لذلك فضل النسخ الجيدة غير المشروعة المطبوعة في أمستردام.
أما في الوطن العربي «فلا ينفصل ظهور حقوق النشر عن الاستعمار، فأول اعتماد لها كان في تونس إبان الاستعمار الفرنسي عام 1887، ثم اعتُمد قانون حقوق المؤلف للإمبراطورية العثمانية عام 1910 بعد سقوط السلطان عبد الحميد الثاني، ثم في المغرب إبان الاستعمار الفرنسي الإسباني عام 1917».
«وبعد سقوط الإمبراطورية العثمانية فرض الانتداب البريطاني عام 1924 قانون حقوق النشر البريطاني على فلسطين، وفي عام 1928 أدخل الاستعمار الفرنسي حقوق النشر إلى سوريا بإدخالها في اتفاقية بيرن الدولية لحقوق النشر، التي أُلغي العمل بها عام 1961 بعد قيام الجمهورية العربية المتحدة».
لكن ما الهدف من الحفاظ على حقوق الملكية الفكرية؟ وليس المقصد من الحديث هنا نسبة العمل إلى منتجه، فهذا حق لا ننازع عليه، لكن النقاش الذي نتناوله هو حق احتكار هذا المنتج الفكري وبيعه كسلعة.
ما الهدف من ملكية الأفكار؟
«الموهبة لن تصمد دون أن تتحول إلى صنعة لتقوِّمها وتنميها، وكي يستطيع الكاتب تحويل كتابته إلى مهنة يحتاج إلى التفرغ، وهذا التفرغ يستدعي بالضرورة أن يكون له مردود مادي يمكِّنه من الاستمرار في عمليته الإبداعية، وعندما يتم قرصنة عمل الكاتب فإنه يُحرم من مصدر دخله الوحيد، فالقرصنة تُسهم في عدم استقلالية العمل الأدبي والثقافي».
هذا ما قاله الشاعر العراقي محمد العتابي لـ«منشور»، مضيفًا أن الكاتب في حال استمرار القرصنة إما أنه سيلجأ إلى منظمات ومؤسسات، غالبًا ما تكون حكومية، وهو ما سيؤثر على استقلاليته وتأثيره ودوره، أو سيضطر إلى أن يعمل في مجال لا علاقة له بإبداعه، وذلك سيؤدي حتمًا إلى قصور في أعماله مقارنةً بحاله لو كان متفرغًا.
يسُوق المدافعين عن حقوق الملكية الفكرية المبرر الأخير كثيرًا، لكن أليست أعظم الأعمال الأدبية والفنية صُنعت من مبدعين لم يحصلوا على الكثير مقابل أعمالهم، وأحيانًا لم يحصلوا على شيء؟ إذًا، لم يكن التفرغ وتحويل الفن والأدب إلى مهنة حاجزًا يومًا أمام صناعة العمل العظيم.
للمبدع الحق في نشر فكرته وتحديد من يحصل عليها ومن لا يحصل عليها.
تحدث «منشور» كذلك إلى المصري هشام فهمي، مترجم رواية «لعبة العروش»، عن تجربته مع القرصنة.
يذكر فهمي أن دار النشر دفعت تكاليف باهظة للحصول على الحقوق الأصلية للرواية وترجمتها وطباعتها باللغة العربية، ممَّا اضطرها إلى رفع سعر النسخة بسبب عدم وجود دعم مالي، إلا أنها فوجئت بقرصنة الرواية ورفعها مجانًا على الإنترنت.
كمترجم، ورغم أنه حصل على حقه المادي قبل الطباعة، فإن القرصنة تؤثر على عمل هشام فهمي، لأن الرواية عبارة عن سلسلة أجزاء، لو خسر الناشر الشرعي أرباح الأجزاء الأولى فلن يتمكن من دفع تكاليف ترجمة بقية الأجزاء وطباعتها، بالإضافة إلى أن النسخ المزورة التي تباع على الأرصفة رديئة الطباعة وتؤثر على جودة العمل.
ليست هذه التجربة الوحيدة لفهمي ع القرصنة، إذ يذكر أن رواية «الهوبيت» التي ترجمها عام 2008 انتهى عقد ملكية حقوقها عام 2013 مع الناشر، فتدخل ناشر آخر وسطى على الترجمة وأعاد طباعتها دون إذن منه، ودون أن يحصل المترجم الشرعي على المقابل المادي لترجمته.
أما المبرمج الكويتي حمد المفلح فيرى أن سبب القرصنة الإلكترونية سوء تسعير المنتجات، فالقرصنة أرخص، وعملية أكثر، وأسهل في الحصول عليها.
يشير المفلح إلى أنه قبل تطور التكنولوجيا كانت الشركات تتعامل مع «الأونلاين» (مواقع الإنترنت) كما تتعامل مع «الأوفلاين» (الأقراص المضغوطة وغيرها من الوسائط)، مثل الأغاني التي كان يضطر المستمع إلى شراء ألبوم كامل كي يستمع إلى أغنية واحدة، حتى جاء ستيف جوبز ليسهِّل الأغاني «أونلاين» بطريقة أفضل، فصار عدد أكبر من الناس يحصل عليها بشكل قانوني.
يرى حمد أن القرصنة تتراجع مع تطور التكنولوجيا، وأن إغلاق المواقع يقلل منها بسبب المخاطر التي تواجه القراصنة، ويدافع عن فكرة الملكية الفكرية قائلًا: «للمبدع حق في نشر فكرته وتحديد من يحصل عليها ومن لا يحصل عليها، فنحن إن لم نعتبر الأفكار سلعة يُستفاد منها ماديًّا، فإننا ندفع المجتمع إلى عدم الاهتمام بالجوانب الفكرية لأنها لا تُدِرَّ مالًا».
بناءً على ذلك، هل من حق المبدع حرمان البشرية من المعرفة التي قد تُسهم في تطور الفكر الإنساني؟
وهل القرصنة فعل أخلاقي؟
قبل انتشار الإنترنت كانت الرقابة تحذف من الأفلام ما تريد، واليوم اتسعت الرقعة وصارت المعرفة متاحة.
«القرصنة هي بديل عدم وجود قنوات شرعية»، هذا ما قاله الهاكر «bashAA» (اسم مستعار) لـ«منشور»، مُبديًا امتعاضه من إخفاء تسجيلات موسيقية جميلة حسب وصفه (وهو المجال الذي تخصص في اختراقه)، يحتفظ بها صاحب الملكية الفكرية ولا يشارك الجمهور.
يرى «bashAA» أن التاريخ يسهل تزويره على مستويات كبيرة بحجة الملكية الفكرية، وذلك عن طريق إخفاء المعلومات.
يذكر الهاكر أن القوانين في مصر تعطي لأصحاب الملكية الفكرية للموسيقى حقوقًا لمدة 49 سنة لو كان المالك شركة، لكن المالك يخفي بعض التسجيلات تمامًا بمزاجه ولأسباب مجهولة، مضيفًا أن «الهدف من اللجوء إلى القرصنة كان تشجيع المُلَّاك الحقيقين لنشر ملكيتهم الفكرية على المشاع».
اقرأ أيضًا: تجربة عملية تفضح مدى هشاشتنا أمام قراصنة الإنترنت
تجدر الإشارة إلى الجدل التي تحدثه شركة «روتانا» السعودية بسبب شرائها جزءًا ضخمًا من نيجاتيف التراث السينمائي المصري، وعدم عرض كثير منه على قنواتها.
أما الشاعر المصري أحمد ندا فقد أسمى قرصان الإنترنت «روبن هود العالم الافتراضي».
لا يميل ندا إلى القرصنة فقط، بل يساعد أحيانًا في رفع الكتب مجانًا، ويعزي ذلك إلى أن المعرفة غير متاحة بشكل قانوني في المنطقة العربية، والقرصنة هي الحل الوحيد، فأسعار بعض الكتب مبالَغ بها بشكل مستفز، وبعضها ممنوع من التداول.
يقول ندا لـ«منشور» إنه قبل انتشار الإنترنت كانت الرقابة تحذف من الأفلام ما تريد، واليوم اتسعت الرقعة وصارت المعرفة متاحة، وطالما لا وجود لعدالة التوزيع في هذا العالم، فإن «حقوق الملكية الفكرية تظل حقًّا يُراد به باطل».
ما الذي نخسره من ملكية الأفكار؟
يرى مؤيدو حقوق الملكية الفكرية في شكلها الحالي أن المعلومات ليست من أولويات الحياة مثل الأكل، لكن إذا كانت المعلومات لا تتوفر إلا لمن يدفع مقابلها، أفلا يعني هذا أن حقوق الملكية الفكرية تعمل على عزل الفقراء عن العلم والفن؟
حين يشتكي الأغنياء من سوء تعليم الفقراء وانتشار الجهل في أوساطهم، وما ينتج عن ذلك من مشكلات اجتماعية أخرى مثل الجريمة والأمراض وغيرها، ألا يعود جزء من ذلك إلى تجهيل متعمد عن طريق منع المعلومة من التداول بين الناس دون مقابل مادي؟
استخدمت شركة آبل الملكية الفكرية للتهرب من تسديد ضرائب بمليارات الدولارات.
وفرت الحقبة التكنولوجية الحالية مساحة شاسعة من سهولة الحصول على المعلومة ومحاربة النَّدرة، وتوفر كل الأدوات التي من شأنها نشر المعلومات. أليس احتكار المعلومة في هذا الزمن وقوفًا في وجه التطور؟ وهل هو قابل الحدوث وسط وسائل التواصل الاجتماعي التي توفر آلية لعرض المعلومات دون حقوق نشرها؟
إذا كان التبرير يتمحور حول خسارة مادية في حال عدم دفع مقابل المنتج الفكري، ممَّا يؤدي إلى إفلاس الشركات المنتجة، فهل أفلست دور النشر بسبب المكتبات العامة؟ وهل يفلس المطرب لو غنينا أغنياته في جلساتنا العائلية؟ أو يفلس كاتب لو ذكرنا معلومات من كتابه في محاضرات علمية؟ هل تفلس المتاحف بسبب حصولنا على نسخ من اللوحات الفنية؟ إن أصل المعلومة والقطعة الفنية مجاني ومتاح، أما الاحتكار ودفع المقابل المادي فحالة استثنائية.
قد تبدو هذه المبالغة في مطاردة القرصنة والحفاظ على حقوق الملكية أمرًا مريبًا أحيانًا، إذ يشير التقرير الذي نشرته مجلة «جاكوبين» الأمريكية إلى أن الباحث الضريبي «ديفيد كيه جونستون» يذكر أن «إحدى أهم آليات التهرب الضريبي على مستوى عالمي هي تحريك جزء من حق الملكية الفكرية إلى ملاذ ضريبي في بلاد أخرى، ومن ثَمَّ فرض عوائد ابتكار عالية عليها».
استخدمت شركة آبل هذه الآلية للتهرب من تسديد ضرائب بمليارات الدولارات، وذلك حسب ما كشفته جلسة استماع في الكونغرس الأمريكي. منتجات آبل «صُممت في كوبرتينو (جنوبي إيطاليا)، وصُنعت في الصين»، ولا تُفرض عليها ضرائب في أي مكان، وذلك بفضل حقوق الملكية الفكرية».
إن تحويل الأفكار إلى سلع يجعل من العمل الإبداعي عملًا قائمًا على فكر رأس المال، ويتمحور تفكير المبدع حول ما الذي سيجنيه من أرباح وما سيخسره، لا على القيمة الفنية للعمل، وبالتالي يؤثر ذلك حتمًا على جودة الأعمال الفنية التي تقدَّم.
هل يوجد بديل لقوانين الملكية الفكرية؟
اقترح حزب القراصنة، الذي تأسس في السويد عام 2006، أن لا تمتد حقوق النشر لأكثر من 10 سنوات.
في مقال بحثي حول حقوق النشر، يذكر الكاتب السعودي أسامة خالد المقترحات البديلة، وأحدها قدمه بروفيسور القانون في جامعة هارفارد «ويليام فيشر» في كتابه «وعود يجب أن نفي بها»، يقترح أن يخصَّص جزء من الميزانية لتمويل الأعمال، وأن توزَّع على المنتجين بحسب انتشار أعمالهم، وسينتج عن ذلك تخفيض تكاليف الإنتاج وتعميم الثقافة، ولن يكون للدولة تقرير الأعمال التي تُنتَج.
اقرأ أيضًا: نضال القراصنة: بين الصراع من أجل الخير والعدالة أو الفوضى التامة
أما المقترح الثاني فيأتي من مركز دراسة الاقتصاد والسياسة، وهو مركز تقدمي مقره العاصمة الأمريكية واشنطن، واسم المقترح «قسيمة الحرية الفنية».
يقترح المركز أن تُرصَد من الميزانية العامة ميزانية تُقدَّر بحسب توقُّع الإنفاق على الإنتاج الفني والثقافي، ويُمنح كل مواطن بالغ نصيبًا من هذه الميزانية يحق له أن يصرفه لمن شاء من منتجين، وفي المقابل يحق للمنتجين أن يستمروا على نظام حقوق النشر القائم على أن لا يتلقوا شيئًا من تلك الميزانية، أو أن يشتركوا في قسيمة الحرية الفنية لكن لا تخضع أعمالهم لحقوق النشر.
تقدِّر الدراسة أنه إذا مُنح كل مواطن أمريكي بالغ قسيمة بمبلغ مئة دولار، فسيكفي ذلك لتمويل نصف مليون مخرج وكاتب وممثل ومصور وموسيقي ومبرمج.
بهذه الطريقة ستتوفر تدريجيًّا أعمال ثقافية مهولة دون حقوق نشر، وسيتمكن المنتجون من الاستفادة منها مباشرةً في إنتاج أعمال جديدة، وسيوفرون تكاليف باهظة كانوا سيصرفونها على الإجراءات القانونية والإدارية، وستوفر الدولة أموالًا طائلة كانت ستُصرف على تعقُّب وملاحقة ومحاكمة من يتشاركون الأعمال الثقافية، وفوق ذلك كله لن يكون للدولة تقرير الأعمال التي تُنتَج، بل سيكون للناس قرار مباشر في تمويل الأعمال التي يفضلون.
يشير المقال إلى أن حزب القراصنة، الذي تأسس في السويد عام 2006، اقترح أن «لا تمتد حقوق النشر لأكثر من 10 سنوات منذ إنشاء العمل، لأنه، أولًا، لا يوجد دليل على أن امتداد حقوق النشر لـ50 عامًا بعد وفاة المؤلف يدفع مؤلفين أكثر إلى الإنتاج ممَّا لو كانت أقل من ذلك، وكل زيادة تعني أن تُحرَم أجيال كاملة من الاستفادة من العمل في إنشاء أعمال ثقافية جديدة».
قد يخلق التطرف في القرصنة مشكلة اقتصادية مقابلة لمشكلة موجودة، وقد يخلق التطرف في الحفاظ على الملكية الفكرية تجهيلًا تامًّا لكثير من المعلومات يؤثر في التطور البشري نفسه، والمطلوب إيجاد حلول للمشكلات التي تخلقها الأنظمة الحالية.
شيخة البهاويد