في أوروبا والدول المتقدمة: كيف أصبحت الدول الأوروبية بهذا الثراء؟
لا يَخفَى علينا أن الدول الأوروبية عمومًا هي النموذج الذي يشار إليه في كل حديث عن التقدم والازدهار والثراء، وحتى في الوطن العربي، عندما واجه المثقفون سؤال الحداثة والتقدم كان الغرب، ممثلًا في أوروبا، نموذجًا أخذوا عنه.
رغم هذا التوجه نحو أوروبا ومحاولة السير على خطواتها، لم تستطع البلدان العربية، منذ بدء نهضتها في القرن التاسع عشر، أن تحقق منجزات كتلك التي عاينتها في أوروبا، لكن هذا طبيعي، خصوصًا إذا نظرنا إلى الأوضاع السياسية والثقافية والاقتصادية التي دشنت النهضة في أوروبا، وجعلتها تنعم حديثًا بثروتها الحالية.
ويحاول أستاذ الفنون والعلوم والاقتصاد والتاريخ بجامعة إلينوي، «جويل موكر»، في مقاله على موقع «aeon»، تحديد الأسباب والأوضاع التي أسهمت في جعل أوروبا أغنى قارة في العالم.
كيف استفادت أوروبا من انقسامها؟
الانقسام الأوروبي حسَّن الأوضاع السياسية لأنه جنَّب القارة تبعات الحكم السلطوي.
يشير عدد من المؤرخين إلى أن أحد العوامل التي تفسر غِنى أوروبا هو التجزئة السياسية التي شهدتها أقطارها، فعلى مَرِّ قرون لم يستطع أي حاكم أن يوحد البلدان الأوروبية تحت راية واحدة، مثل ما حدث في القارات الأخرى.
حفَّز هذا الوضع السياسي منافسةً مثمرةً بين الحكام الأوروبيين، فحاولوا تبني ألمع المفكرين والحرفيين لصالحهم. ورغم الحروب المستمرة بين الحكام والأمراء المتنافسين، التي أدت إلى إخفاقات كثيرة وكوارث متواصلة، يرى بعض الباحثين المعاصرين أن فوائد هذه المنافسة السياسية فاقت تكاليفها، إذ شجعت الابتكار العلمي والتكنولوجي على المدى البعيد.
يقول المؤرخ «إدوارد جيبون»، في الفصل الأخير من كتابه «اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»، إن الانقسام الذي عرفته أوروبا حسَّن الأوضاع السياسية لاحقًا، لأنه جنَّب القارة تبعات الحكم السلطوي الذي كان سينتج عن خضوعها لحكومة واحدة. ويشير جيبون كذلك إلى أن تقدم المعرفة والصناعة تسارَع بفضل محاكاة الدول المتنافسة بعضها لبعض، خصوصًا في وقت السِّلم.
انعكس هذا في ما بعد على الأوضاع الاقتصادية، التي تحسنت كنتيجة مباشرة لهذه المنافسة المستمرة، وكذلك على الإبداع الفكري الذي تحرر من قيود السُّلطات السياسية والدينية. فرغم محاولة بعض الحكام المحافظين قمع الأفكار الإبداعية الجديدة، التي تندرج حسب اعتبارهم في خانة «الهرطقة» و الأفكار التخريبية، سرعان ما وجدت هذه الأفكار ملجأً لها في بلد أوروبي آخر، وهو ما حصل مع العديد من المفكرين في ذلك الوقت.
جذور التقدم الأوروبي: الوحدة رغم الحدود
لم يُضعف الانقسام السياسي من انتشار الأفكار المبدعة والمبتكرة، بسبب وحدة أوروبا الثقافية والفكرية.
لم تكن التجزئة السياسية هي السبب الوحيد خلف الثراء العظيم الذي حققته أوروبا، فحتى مناطق شبه القارة الهندية والشرق الأوسط وإفريقيا عرفت أوضاعًا مماثلة على مَرِّ تاريخها، ومع ذلك لم تحقق ثراءً مشابهًا، ويرجع ذلك في رأي الكاتب إلى أن حجم السوق المتاحة للمفكرين والمبتكرين في أوروبا لعب دورًا رئيسيًّا في دفع عجلة التقدم العلمي والتكنولوجي.
أكد «ماثيو بولتون»، الذي اشترك مع «جيمس وات» في تصنيع المحرك البخاري، أن اختراعه لن يكون ذا أهمية إلا إذا استفاد منه العالم كله، لا ثلاث مقاطعات فقط. وهكذا، رغم التجزئة السياسية التي شهدتها أوروبا، كانت أعين المبدعين موجَّهة دائمًا إلى القارة بأكملها.
لم يُضعف الانقسام السياسي من انتشار الأفكار المبدعة والمبتكرة، بسبب الوحدة الثقافية والفكرية التي ميَّزت أوروبا، والتي أسهمت في إقامة سوق متكاملة للأفكار وتلاقي المثقفين من الرجال والنساء لتداول الأفكار الجديدة ومناقشتها.
قد يهمك أيضًا: كيف تعني «الوطنية» كُره الآخَر؟
كانت هذه الوحدة الثقافية نتاجًا للتراث الأوروبي الكلاسيكي، والاستخدام الواسع والمشترك لللاتينية كلغة للعلم بين المثقفين، إضافةً إلى التراث المسيحي من القرون الوسطى، الذي شكَّل عنصرًا مشتركًا بين مختلف بلدان القارة، التي كانت تُعرف باسم «العالم المسيحي» قبل شيوع لفظ «أوروبا». وبعد القرون الوسطى، وتحديدًا بعد عام 1500، اشتد النشاط الفكري في أوروبا ليصبح عابرًا للحدود الوطنية.
الأفكار لها أجنحة
قابل انتقال المفكرين بين الأقطار الأوروبية انتقال مماثل، لكنه أسرع، للأفكار التي جاؤوا بها، فانتشرت المعرفة على نطاق أوسع بفضل سهولة انتشار الكتب، بعد اختراع الطباعة الحديثة ونظام النقل البريدي، وأصبح من الصعب قمع الأفكار الجديدة، خصوصًا أعمال مفكرين متميزين مثل «غاليليو» و«سبينوزا»، نظرًا لسهولة العثور على ناشرين في أي دولة أوروبية أخرى لو حاولت الرقابة المحلية حظر إنتاجهم.
عزز الانقسام السياسي في أوروبا الحرية الفكرية للمثقفين بطريقة لم تكن ممكنة في مناطق مثل الصين والإمبراطورية العثمانية، وأحدثت هذه الأوضاع نقلة مهمة في الكيفية التي انتشرت بها الأفكار الجديدة، إذ وجدت الكتب التي أُلِّفت في بلد طريقها إلى بلد آخر بسهولة، كما أثارت الأفكار الجديدة موجات من البحث والدراسة والنقاش عمَّت البلدان الأوروبية بأكملها، ومع كل اكتشاف جديد، خاض المثقفون نقاشات حادة وأجروا اختبارات عديدة لإثبات صحة هذه الأفكار.
ثورة العلوم مفتاح ثروة أوروبا
لم يكن ما وصلت إليه أوروبا حتميًّا، فتغيرات طفيفة في الظروف السياسية والعسكرية كانت لتغير المسار.
لم تركد سوق الأفكار في أوروبا نتيجة الانقسام السياسي إذًا، بل زادت شدة التنافس الدولي من حيويتها وتوقُّدها، إذ استمر المفكرون في إزالة القداسة عن كل الأفكار التي تعرضوا لها بالبحث، ملتزمين بنشر العلم والمعرفة، ومشكِّلين «جمهورية فكرية» عابرة للحدود تحكمها النُّظُم الفنية والقانونية والأخلاقية، وهذا ما ميَّز حضارة أوروبا عن باقي الحضارات، حسب تعبير إدوارد جيبون.
أنتج هذا الوضع الفكري عناصر ثقافية أدت إلى ثراء أوروبا، وتمثلت هذه العناصر في اعتناق أفكار التقدم الاجتماعي والاقتصادي، والاهتمام المتزايد بالابتكار العلمي، إضافةً إلى الالتزام بمنهج تجريبي يضع المعرفة في خدمة النمو الاقتصادي، ممَّا جعل الفلاسفة الطبيعيين وعلماء الرياضيات في القرن السابع عشر يتبنون العلوم التجريبية والرياضيات كوسائل لفهم وتفسير الطبيعة.
رغم ذلك، لم يكن التقدم العلمي وليد سهولة الاشتغال بالعلم وغِنَى سوق الأفكار العابرة للحدود وحسب، بل كان نتاجًا كذلك لظهور أدوات جديدة يسَّرت البحث في مجال الطبيعة، مثل المجهر والتلسكوب والمقياس الحراري (الترمومتر)، التي حسنت طرق ملاحظة وقياس الظواهر الطبيعية في ميادين الفيزياء والفَلَك والبيولوجيا، كما دحضت الكثير من المفاهيم التقليدية الخاطئة.
مع ذلك، يبقى الحديث عن «حتمية» التقدم الذي شهدته أوروبا أمرًا غير ممكن، إذ كانت تغيرات طفيفة في الظروف السياسية والعسكرية لتوقف هذه العملية وتغير من وجه القارة الذي نعرفه حاليًّا.
لم يكن هناك شيء محدَّد سلفًا في الانتصار النهائي للتقدم العلمي والنمو الاقتصادي المستدام على القوى والأفكار المحافظة، كما أن هيمنة أوروبا لم تكن نتيجة خصائص أصيلة في الفرد الأوروبي أو بسبب أفضلية الثقافة المسيحية، كل ما في الأمر هو مجرد تفاعلات معقدة وغير مقصودة لم يكن مخططًا لها مُسبقًا، لكنها حدثت على كل حال، وبعد بدايتها سارت الأمور من تلقاء ذاتها نحو التقدم الاقتصادي القائم على المعرفة، والثراء الذي تتمتع به أوروبا اليوم.
إدريس أمجيش