الحرب في طروادة وهيلين في مصر: نميمة حول الأسطورة
هي من أُطلِق عليها «أجمل امرأة عاشت على وجه الأرض»، وقيل إنها «الوجه الذي تحركت من أجله آلاف السفن». إنها هيلين، المرأة التي اشتهرت بأنها السبب الرئيسي في اشتعال حرب طروادة، تلك الحرب التي استمرت عشر سنوات، وراح ضحيتها آلاف البشر، وانهارت بسببها مملكة ذات صيت وقوة. كل هذا من أجل قلبها الذي قدمته إلى «باريس»، نجل ملك طروادة، رغم زواجها من ملك سبارتا «منيلاوس»، ليجمع الأخير ملوك اليونان بهدف الثأر من الشاب الذي أتاه زائرًا وعاد إلى بلاده برفقة زوجته.
لكن الثأر يمتد إلى أبعد من حياة شخص واحد. فقد حاصر الإغريق مدينة طروادة بأكملها: المملكة وحكامها وشعبها خلف تلك الأسوار العالية. بينهم هيلين، أو ربما هذا ما ظنه منيلاوس وحلفاؤه، فلم يتصور أيٌّ منهم أن الفاتنة التي اشتعلت الحرب بسببها، لم تكن حاضرة في أيٍّ من فصولها، بل كانت على بعد مئات الكيلومترات من أرض المعركة، في بلد لا ناقة له ولا جمل في ما يحدث على أرض الإغريق: مصر.
هيلين وباريس وحرب طروادة
هل هيلين شخصية حقيقة أم مجرد أسطورة من صنع الخيال؟ سؤال قتله التاريخ بحثًا ولم يجد له إجابة قاطعة، ظهورها الأول كان في ملحمة الشاعر الإغريقي «هوميروس»، وحملت اسم «الإلياذة»، وحكت تفاصيل الأسابيع الأخيرة من حرب طروادة، وهي أشهر رواية عن حرب طروادة، ودور هيلين في إشعالها.
قيل عن هيلين إنها ابنة الإله «زيوس» من ملكة سبارتا «ليدا». وتروي الأسطورة أن «زيوس» أغرى «ليدا» في صورة بجعة وأنجب منها هيلين، التي كانت أخت «كليمنسترا»، زوجة «أغاممنون»، الملك اليوناني القوي.
على الجانب الآخر، لم يكن باريس إلا ابن ملك طروادة، الذي قرر التخلي عنه بعدما أخبره عراف بأنه سيولد له ابن سيكون سببًا في تدمير مدينته. مع مرور السنوات، وبينما تَربَّى في منزل غير منزله، وأصبح راعيًا للغنم، تروي الأسطورة أن ثلاثة آلهة هن: «هيرا» و«أفروديت» و«أثينا»، نشب بينهن خلاف حول من منهن الأجمل، وقررن الاحتكام لأول غريب يمر.
كان هذا الغريب باريس. تسرد الحكاية أن الربات الثلاثة قدَّمن عرضًا للشاب، وكان عرض أفروديت أن تهب له أجمل نساء الأرض، ليختار عرضها ويرفض السلطة التي قدمتها هيرا والمجد الذي عرضته أثينا. تحقيقًا لوعدها، أعادت أفروديت باريس إلى عائلته في طروادة، ليخطو أولى خطواته تجاه التعرف إلى أجمل امرأة على وجه الأرض.
في ذلك الوقت، كانت هيلين زوجة «منيلاوس»، ملك سبارتا، الذي كانت قصة زواجه منها فريدة من نوعها، إذ تنافس الخُطَّاب على الظفر بالفاتنة هيلين. لكن منيلاوس نجح في الفوز بموافقتها، ولأن المنافسة كانت عنيفة، أقسم بقية الرجال على مساندة زوج هيلين المستقبلي.
لقاء هيلين وباريس كان في حفل زفاف، حضر إليه مدعوًّا، لكنه لم يغادر وحيدًا، بل معه هيلين، زوجة الملك، ليعودا إلى طروادة، ليجمع زوجها جيشًا ضخمًا من الإغريق لمطاردتها، لتندلع حرب طروادة بعد رفض أهلها إعادة هيلين إلى زوجها. وترى «الإلياذة» أن هيلين السبب الرئيسي في اندلاع حرب طروادة.
وجد هيرودوت سجلات تعود إلى توقيت قصة طروادة، تحمل دلائل أن هيلين عاشت في مصر 10 أعوام، وكانت رمزًا ثقافيًّا مبجلًا.
تبنَّى فيلم «Troy»، عام 2004، القصة المذكورة في ملحمة هوميروس. فقد روى الفيلم أن باريس أقنع هيلين بترك زوجها والإبحار معه إلى طروادة، بينما كان شقيقه معارضًا لذلك. بعد اكتشاف زوجها الأمر، يطلب المساعدة من أخيه أغاممنون، الذي يراها فرصة مناسبة لمزيد من السلطة، لتبحر ألف سفينة محمَّلة بخمسين ألفًا من اليونانيين إلى طروادة.
بمساعدة «آخيل»، أعظم محاربي تلك الفترة، يستطيع اليونانيون هزيمة طروادة التي لم تُهزَم من قبل، وذلك بخدعة «حصان طروادة» الذي اختبأ بداخله الجنود اليونانيون، وتُرِك على الشاطئ ليعتقد أهل طروادة أن الإغريق رحلوا، ويحملوا الحصان العملاق إلى داخل مدينتهم بأيديهم، ليخرج منه ليلًا الإغريق، ويفاجئوا طروادة وأهلها وجيشها، وتسقط المدينة إلى الأبد.
هيلين لم تذهب إلى سبارتا نهائيًّا
وككثير من الأساطير اليونانية، تأتي قصة هيلين وعلاقتها بباريس ومنيلاوس وحرب طروادة، بعدة أشكال وتفاصيل مختلفة، كتلك الرواية التي تزعم أن هيلين لم تذهب طواعية مع باريس، بل اختطفها الأخير. لكن قليلًا من تلك الروايات ذكر علاقة هيلين بمصر.
حتى فيلم «Troy» الشهير، لم يتطرق لهذه الرواية، فقد حكاها المؤرخ اليوناني الشهير «هيرودوت»، وجاء في تأريخه لتلك الحقبة، عام 440 قبل الميلاد، أن هيلين ذهبت إلى مدينة ممفيس المصرية، وهناك صارت رمزًا تاريخيًّا لإحدى الطوائف الدينية، كما أكد كتاب «A Humanitarian Past». وأوضح هيرودوت أنه استفسر من بعض كهنة ميمفيس، ووجد سجلات تعود إلى توقيت قصة طروادة، تحمل دلائل أن هيلين عاشت في مصر 10 أعوام، وكانت رمزًا ثقافيًّا مبجلًا.
«لقد سألت الكهنة عن قصة هيلين، وقالوا لي إن باريس، حين كان في طريقه عائدًا من سبارتا إلى طروادة، ضربه طقس سيئ في مكان ما ببحر إيجة. قاد سفينته إلى مصر، ومع انتهاء العاصفة السيئة وجد نفسه على الشاطئ»، يروي المؤرخ اليوناني، وأكد «هيرودوت» أن هيلين قضت فترة الحرب كاملة في مصر.
لم يبدُ أن هيرودوت على دراية بالقصة التي رواها الشاعر اليوناني «ستيسيكوراس»، في القرن السادس عشر قبل الميلاد، إذ قال إن الآلهة أرسلوا «شبحًا» إلى هيلين إلى طروادة، فيما بقيت هي في مصر طوال فترة الحرب، وكان من أشهر أبياته عن هيلين تلك التي قال فيها: «أنت لم تذهبي في سفينة إلى البحر، ولم تري أبراج طروادة».
صراع الآلهة حمل هيلين إلى مصر
ربما تبدو رواية ستيسيكوراس غريبة بعض الشيء، لكنها ليست سوى واحدة من عدة حكايات شبيهة عن تفاصيل وجود «أجمل امرأة في التاريخ» على أرض المحروسة. إذ تعزو رواية أخرى سبب وجود هيلين في مصر، إلى الصراع بين الآلهة، وتحديدًا هيرا وأفروديت. اختيار باريس لأفروديت كأجمل إلهة بين الإلهات الثلاثة، دفع هيرا إلى الانتقام، فخلقت امرأة شبيهة لهيلين لتبحر إلى طروادة، فيما حُمِلت هيلين الحقيقة إلى مصر سالمة.
تبنَّى «يوريبيديس»، الروائي المسرحي اليوناني، تلك القصة لتعرض على جمهور أثينا، في مسرحية حملت اسم «هيلينا»، عام 412 قبل الميلاد، موضحًا أن هيلين لم تذهب إلى طروادة، وبقيت في مصر، فيما قاتل أهل طروادة من أجل خيال خلقته آلهة السحاب والرياح.
تطرَّق مقال بعنوان «Helen of Troy but Princess of Sparta»، إلى روايات أخرى عن هيلين في مصر، إذ ترجح إحداها أن هيلين لم تذهب إلى سبارتا، لكن من ذهبت لم تكن شبحًا أو خيالًا، بل مجرد شبيهة للمرأة الفاتنة، «كانت هيلين مشهورة جدًّا حتى إنها كان بإمكانها استخدام شبيهة لتسمح لها بالخروج دون التعرض للمضايقة، ومن غير المنطقي أن تخوض طروادة حربًا طويلة وممتدة من أجل امرأة، لكن إذا لم تكن لديهم، فكيف يمكنهم إعادتها؟».
هيلين تذهب إلى مصر مع مينالاوس بعد انتهاء الحرب
روايتان أخريان أيضًا رصدهما المقال، لكن تفاصيلهما ترجح أن هيلين لم تقض فترة الحرب في مصر، كما تقول الروايات السابقة، بل ذهبت إلى هناك عقب انتهاء الحرب، «عقب سقوط طروادة، ذهبت هيلين إلى مصر لمدة ثماني سنوات»، هذه إحدى الروايات.
أما الأخرى، فتقول: «أخيرًا سقطت طروادة، وفكر مينالاوس في معاقبة هيلين على كل المتاعب التي تسببت فيها، كان سيطعنها بسيفه حين لمح بأعينه ثدييها الجميلين، وبمجرد أن عاد هيلين ومينالاوس إلى بعضهما، سافرا عائدين إلى سبارتا، لكن عاصفة ضربت سفينتهما وأخرجتها عن مسارها، لينتهي بهما المطاف في مصر». وأضافت: «بقيا هناك لمدة ثماني سنوات، واستفادت هيلين بوجودها، إذ تعلمت الأدوية المصرية».
تبقى تفاصيل قصة «أجمل امرأة عاشت على وجه الأرض»، التي وقعت بداية من عام 1195 قبل الميلاد، تقريبًا، برحيل هيلين مع باريس من سبارتا، واستمرت إلى ما بعد انتهاء حرب طروادة الشهيرة عام 1176، محل تأويل، بل إن الحرب نفسها تتعرض للتشكيك في وقوعها من الأساس. لكن الروايات تبقى مطروحة، وإمكانية أن تكون هيلين قد عاشت على أرض مصر تبقى قائمة، وتبقى الحقيقة المؤكدة غائبة، والتساؤل مشروعًا: هل خاض آلاف البشر حربًا شعواء من أجل امرأة لم تكن بينهم من الأساس؟
أحمد حمدي