الكويت: دولة السلطة والفساد الريعي
ربط المؤرخون نشأة الكويت بذلك الكوت أو الحصن الذي بُني قريبًا من ضفة الخليج قبل بضعة قرون، والذي سميت الكويت عليه لاحقًا تصغيرًا له، فقد اشتهر سكان تلك القرية بتصغير الأشياء في لهجاتهم، إذ ترى ذلك من تسميتهم للعديد من أحيائهم كالشويخ أو الفحيحيل أو الفنيطيس، وتسمعه في الكثير من مصطلحاتهم. وسرعان ما بدأت ملامح تلك المدينة في الظهور، وبدأ المهاجرون يتوافدون عليها من جميع أنحاء المنطقة، بعضهم يبحث عن الرزق والآخر يبحث عن الأمان، ليتكون مجتمع صغير من المهاجرين بثقافات متعددة.
هكذا وُجد ذلك الميناء الصغير الذي صار يربط الشرق بالغرب، لتبدأ أهمية تلك المدينة في الظهور، وانفتح أهلها على المدن البعيدة عبر سفرهم بحرًا وبرًا، وفي القرنين الماضيين حاول العديد ضمها سواء من نجد والدولة العثمانية ثم العراق، حتى تحالف حكامها مع بريطانيا عند توقيع اتفاقية الحماية في العام 1899، ثم الولايات المتحدة لاحقًا، وذلك ليضمنوا استمرارها.
ما أن ظهر النفط في الثلاثينيات بكميات مهولة (5.9% من احتياطي النفط العالمي) لمدينة لا يتجاوز سكانها مئة ألف آنذاك، حتى برزت تلك المدينة على الخريطة العالمية، وأعطت حكامها قوة لم يحلموا بها، بل وتركزت لديهم السلطة بعدما كان للتجار التأثير الكبير قبل حقبة النفط، لتتحول موازين القوى لدى السلطة أو الحاكم، وقد صاحب تلك الطفرة النفطية تغيير هائل وسريع لذلك المجتمع البسيط الذي سكن أرضها.
كتابة الدستور
اختلفت الروايات في تفسير الأسباب الحقيقية التي أدت إلى كتابة الدستور في أوائل الستينيات، ففي منطقة يغلب عليها الحكم العشائري والسلطة المطلقة للحاكم، كانت دون شك خطوة تقدمية فريدة في المنطقة. كثيرون في أسرة الحكم لم يقتنعوا بفكرة الدستور، وحاولوا إلغاءه دون جدوى، إذ كيف يشارك عوام الناس في الحكم والمحاسبة. لم ينجحوا في إلغائه، ولكنهم نجحوا في تغيير وتعديل العديد من مواده.
ففي فترة كتابة الدستور ضغط العديد من أقطاب الأسرة ممن كانوا أعضاء في المجلس التأسيسي لتغيير بعض مواده بهدف الحصول على سلطات أكبر، لينتج عنه نظام سياسي مختل تتعقد معه مشكلات الدولة، وما أن توفي أمير الكويت آنذاك الشيخ عبد الله السالم في العام 1965 حتى بدأت المحاولات الحقيقية للسيطرة على هذه الحالة شبه الديمقراطية ليتمكنوا من احتوائها او إلغائها.
خلل سياسي
في العقود الثلاثة التي لحقت وضع الدستور وحتى احتلال الكويت في العام 1990، حاولت السلطة بشتى الوسائل السيطرة على مجلس الأمة، من تزوير الانتخابات في أواخر الستينيات ثم تعليق الدستور في السبعينيات ثم إلغاء بعض مواده في الثمانينيات. ومنذ تأسيس الدولة بمفهومها الحديث، لم يكن للحكومة مشروع واضح أو حتى برنامج بأهداف محددة لمستقبل البلاد.
تدفقت مدخرات النفط المالية الضخمة، والتي استخدمتها السلطة لشراء الولاءات، والإنفاق بطابع ريعي حتى تضمن ولاء الشريحة الأكبر، فالمال وفير والمغريات كثيرة لشراء كل ما يمكن شراؤه مهما بلغت القيمة، فالحكومة تملك المال والتوظيف والأراضي وغيرها الكثير، وأصبحت تلك الممارسات فوق القانون الذي لا يطبق إلا على الضعفاء.
أما صراع أبناء الأسرة للحكم فقد زاد من الإفساد السياسي وشراء الولاءات، وأصبحت الطائفية والفئوية والتحالف مع جماعة دون غيرها والمساومة على الحريات الشخصية مجرد أدوات سياسية، وذلك بهدف تشتيت المجتمع المدني ووأد أي مشروع لتنظيم العمل السياسي الجماعي، وإرضاء جماعة على حساب أخرى، ليخدم مصالحها ويغذي النزاعات الطائفية والنفَس العنصري في المجتمع.
كانت الفوائض المالية عالية جدًا، بحيث أن هذا الشكل من الإنفاق الريعي لم يعيق بناء مدينة الكويت الجديدة، بعكس دول الخليج التي تأخرت نسبيًا في الاستفادة من مدخرات النفط، وللأسف كانت السيطرة على الحالة السياسية وتطويق المؤسسات وتكريس الحكم المركزي أحد أهم أولوياتها.
الاحتلال والاختلال
بعد تحرير الكويت، والذي كان بمثابة فرصة ذهبية لإعادة النظر في الطريقة التي تدار بها الدولة، لم تحرك كارثة بهذا الحجم ساكنًا، بل غابت المحاسبة عن أسباب الغزو، ولم تتبين الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذه الكارثة التي محت الدولة من خريطة العالم، بل وانكشفت سرقات في فترة الاحتلال لم يحاسَب المتسببون الحقيقيون وراءها، وسكتت الدولة عن الفساد، وعاد النهج القديم وبصورة أسوأ، بل وزاد الإنفاق الريعي إلى مراحل جنونية.
أما الحياة البرلمانية التي توقف العمل بها قبل الاحتلال فلم تعد إلا بضغط دولي، وعملت السلطة جاهدة على تهميش دور البرلمان الحقيقي وإفساده، ليكون مجرد برلمان شكلي تتباهى به أمام المجتمع الدولي.
سرطان الدولة
امتزج الفساد مع النمط الريعي ليتكون خليط بائس تعقدت معه مشكلات الدولة، وتسلل الفساد إلى كل المؤسسات دون استثناء حتى صار جزءًا من الثقافة السائدة في المجتمع، إذ انتشر في كل مفاصل الدولة بدءًا من السلطة التشريعية والمؤسسات التعليمية (جامعة الكويت مثالًا)، وأصبحت مؤسساتها مشلولة ببيروقراطية وقوانين عمرها أكثر من نصف قرن.
للأسف كانت النتيجة ترديًا كبيرًا في الخدمات، وتكونت طبقة متنفذة فاسدة بعلم السلطة، مستفيدة من الأوضاع الراهنة، وتسعى لإبقاء الوضع على ما هو عليه. وبسبب ممارسات السلطة صار الفساد وحشًا هي نفسها غير قادرة على السيطرة عليه، وأصبح الحديث عن محاربة الفساد أقرب إلى المزحة، كون الجميع مشاركين فيه بطريقة أو بأخرى.
بدأ التفاوت في الرفاه يظهر بين الأجيال بشكل واضح، واليوم تعجز الدولة عن إدارة مرافقها، وحتى عند تأسيس أي جهة حكومية جديدة تفشل في إدارتها، وبعد كل هذا الفشل لا تزال تتمسك بهذا النمط من الإدارة، فالسلطة تريد السلطة دون تحمل المسؤولية، لأنه ربما الشيء الوحيد الذي تستمد منه قيمتها.
دولة الريع
النمط الريعي الذي لا يربط بين الإنتاج والمردود المالي كرس التزوير والغش والتلاعب على القانون، وانتشرت ثقافة الاستهلاك بشكل مخيف، ومعها حالة من اللامبالاة والاتكالية، والتعليم الذي وصل ترديه إلى مراحل مزرية، إذ ترى مخرجاته تزداد سوءًا جيلًا بعد جيل، لتظهر أجيال لا تعرف كتابة أسمائها، وأصبح الاعتماد على العمالة الأجنبية شبه كلي، ليس فقط على مستوى القطاع الخاص والقطاع النفطي، بل حتى في المنازل، إضافة إلى قضية إحلال الوظائف التي هي أقرب إلى الأحلام الوردية.
أما معدلات استهلاك الموارد فقد حطمت أرقامًا قياسية، فمعدل استهلاك الفرد للمياه في الكويت يعد الأعلى عالميًا في دولة هي الأفقر في مصادر المياه، وقس على ذلك العديد من الأشياء التي فقدت قيمتها، وصار المجتمع أبعد كل البعد عن مفهوم الإنتاجية والمحافظة على الموارد، بعد أن عانى أبناؤه الكثير قبل حقبة النفط.
المعضلة
السلطة اليوم في مأزق، فتكلفة الإصلاح باتت باهظة جدًا، خصوصًا مع انخفاض أسعار النفط وأسلوب الإنفاق الذي أدى إلى عجز في الميزانية. التحديات القادمة صعبة للغاية، بدءًا من خلق مئات الآلاف من الوظائف إلى الابتعاد عن الإنفاق الريعي وخلق اقتصاد متحرر من النفط، ناهيك عن الثورة الاجتماعية التي يحتاجها المجتمع ليستيقظ من سَكرة الريع التي أعمت بصيرته.
قد تعي السلطة حجم المأزق غير عازمة على التغيير أو عاجزة عنه، وقد تكون مغيبة تمامًا عن الواقع، والوضع في الحالتين سيئ، فالإصلاح الحقيقي ربما يزعزع الحكم، إذ أن إصلاح الاقتصاد ومحاربة الفساد وتطبيق القانون يستوجب اتخاذ قرارات حاسمة، فالحكومة نفسها تعزز سلطتها من خلال الوضع الراهن، وذلك لمحاربة أي محاولات حقيقية للإصلاح السياسي، وهو ما قد تخشاه من خسارة لبعض سلطاتها، وما سيتسبب فيه من ضرر للشرائح المستفيدة من الوضع الحالي، وكذلك ما سينتج عنه من تأزيم من نواب الخدمات وأصحاب الطرح الشعبوي.
أما أصحاب الوظائف الوهمية الذين يشكلون العبء الأكبر على الميزانية فهم مجرد بطالة مقنعة وقنبلة موقوتة، وهو في نهاية المطاف ليس ذنبهم، بل ذنب من فشل في بناء الدولة وإدارة مرافقها.
لا يمكن إلقاء اللوم على مجلس الأمة ولوم الناس على مخرجاته في ظل ممارسات السلطة الحالية، فالتردي الذي تعيشه البلاد اليوم ليس بسبب انتخاب أشخاص فاسدين، والتراجع الذي تشهده الكويت ثقافيًا وعلى مستوى الحريات الشخصية ليس بسبب التيارات الدينية، وإنما هي مسؤولية السلطة وحدها، ونتائج لممارستها عبر العقود الماضية.
لو أرادت السلطة إصلاح الوضع السياسي فذلك بالقوانين التي تسهم في تقدم التجربة البرلمانية، ولو أرادت حماية الحريات الشخصية فذلك بتطبيق القوانين التي نص عليها الدستور وتفعيلها، وليس المساومات السياسية على حساب الوطن والمواطنين.
أزمة وجودية
ليست تلك القضايا بالشيء الجديد، فقد تطرق لها كثيرون في العقود الماضية، ولست هنا أكرر حلولًا رددها كثيرون مرارًا، نعم أستطيع القول بأن الإصلاح السياسي يبدأ بتعديل نظام الانتخاب والفصل الفعلي للسلطات وإصلاح التعليم وغيرها الكثير من المقترحات التي تعد خطوة أولى نحو أي تغيير، ولكن هل هي فعلًا ممكنة في ظل هذه السلطة ونهجها؟
تعديل بسيط كتغيير نظام الدوائر الخمس الذي أقرته الحكومة لم يأت إلا بعد حراك ومظاهرات، فما بالك بتلك الإصلاحات الجذرية، والتي هي أقرب إلى المستحيل في ظل نهج السلطة الحالي. فهل الحكومة مستعدة للتخلي عن بعض صلاحياتها بعد ثبوت فشلها في الإدارة؟ وهل الشعب الغارق في الريع والاستهلاك مستعد للمطالبة بالتغيير والصمود والمثابرة حتى تتحقق مطالبه؟
أما السياسيون فهم عالقون في خلافات جانبية وغير قادرين على الاتفاق على أولويات محددة، لتتكون حالة من العزوف عن الشأن العام لدى الكثير من الشباب.
لنتوقف عن الحنين إلى الماضي الذي ولى وفات، ولنعترف الآن بأن الكويت دولة ريعية فاشلة ولا يؤجل انهيارها أو يكشف هشاشتها سوى أسعار براميل النفط المتدفق. ما يمكن البدء به هنا هو نقد الذات والبحث عن الحقيقة، إذ لا يمكن وضع حلول جدية إلا بعد تحليل عميق وفهم حقيقي للواقع، وكذلك البدء في حوار يقوده الشباب، حوار علني قد يسهم في تشكيل جبهة شبابية متماسكة وعلى قدر المسؤولية، مجموعة ملتزمة وحرة تعي حجم المخاطر المستقبلية، وتقاوم مغريات ورشاوى السلطة، وتتحمل بشجاعة ابتزازها سواء بالجنسية أو بالقبضة البوليسية، وتُحمّل السلطة ولا أحد غيرها المسؤولية الكاملة، وتشكل جبهة ضغط على أعلى مراكز القرار.
يجب أن ندرك أن طريق التغيير ومحاربة الفساد طويل ومليء بالصراعات، فلا تغيير دون معاناة، والتحديات القادمة صعبة سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي، وتكاد تشكل أزمة وجودية للدولة برمتها. العالم يتغير بسرعة هائلة على كل المستويات، والتطور التكنولوجي بات سريعًا إلى درجة أن اللحاق به سيصبح من المستحيل في ظل الوضع الراهن، وسنكون أبعد كل البعد عما يجري في هذا العالم، ولن نستطيع كشعب أو دولة أن ننافس بهذه المخرجات، لنكون مجرد عالة على الشعوب الأخرى، وغير متصلين بهذا العالم المختلف اليوم وغدًا.
ماجد الهملان