وردة ونسماتك عطر: من يدفع ثمن الانفتاح في قطر؟
معادلة صعبة وخيار أصعب؛ أترضى بالعيش في شارعك القديم الفقير وتحتفظ بذكريات الطفولة وهويتك التي ورثتها عن أجدادك، أم تنتقل للعيش في تلك المدينة ذات الأضواء المبهرة ولا عزاء للماضي والحنين إليه؟ إن كان رب الأسرة قد يقع في حيرة هذا الخيار على المستوى الشخصي، فربما تتكرر الحيرة ذاتها على نطاق أشمل عندما يتعلق الأمر بمصير الدول والشعوب.
الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير دولة قطر السابق وثامن حُكَّامها، وجد نفسه أمام موقف مشابه مع بداية توليه الحكم واختار الانفتاح على آفاق جديدة، حتى وإن كان ثمن ذلك شعور المواطنين بالتخبط بين هويتهم العربية من ناحية، وما يقتضيه الانفتاح والاتصال مع العالم الغربي من ناحية أخرى، وهي تجربة معقدة عرضت تفاصيها صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية.
كيف بدأ الأمر كله؟
عندما وُلد الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، سابع حُكَّام قطر، عام 1932، كانت بلاده تفتقر إلى أبسط ملامح الدولة.
بحسب الصحيفة، لم يكن لدى قطر ما يدل على امتلاكها شيئًا يُذكر من رفاهيات الحياة؛ فكان التنقل صعبًا في ظل عدم وجود أجهزة تكييف الهواء في ذلك الوقت، وحتى نهاية الخمسينات كانت الطائرة التي اعتادت إيصال البريد إلى البلاد في كثير من الأحيان ترفض تحمُّل أعباء الهبوط والإقلاع وتكتفي بإلقاء الرسائل بالمظلة، وبعد اكتشاف الغاز الطبيعي السائل، كان من المتوقع أن يعتمد شيوخ قطر على عوائده الضخمة دون الحاجة لبذل الجهد والفكر، لكن هذا لم يحدث.
الشيخ حمد، الذي اعتلى العرش بعد الانقلاب على والده، بدأ عام 1997 في تصدير الغاز الطبيعي؛ ليعطي إشارة البدء لإطلاق نهضة حضارية في عدة مجالات بخلاف تجارة المواد البترولية، من بينها تأسيس شبكة قنوات «الجزيرة» التليفزيونية.
وبدأت الدولة في تشييد مبانٍ ضربت مثالًا للفخامة، ومنحت قطر شكلًا معماريًّا فريدًا بين جميع البلدان العربية، كما تجاوزت التقدم الاقتصادي لتُصدِر منتجًا ثقافيًّا أيضًا، ويشهد على ذلك متحف الفن الإسلامي بالدوحة؛ الذي يضم آثارًا من عصور بائدة تقف شاهدة على تاريخ أمم بأكملها، لكنه يضع هذا تحت مُسمى «فن إسلامي من الطراز العالمي».
قد يعجبك أيضًا: كيف سعى الفنانون إلى تعطيل نهضة أبو ظبي الثقافية؟
قطر أم ولاية أمريكية؟
لم تقف تطلعات حُكَّام قطر عند ذلك الحد؛ فبدأ التطور يتخذ مسلكًا آخر يقتبس ما لدى الغرب من مظاهر حضارية، رآها بعض القطريين غير مناسبة لمجتمعهم.
غزت الجامعات الأمريكية الساحة التعليمية القطرية، حتى إن المواطن الأمريكي الذي يزور هذه الجامعات سيظن أن النمط الأمريكي نُقِل إليها بحذافيره، عدا حجرات الصلاة بالطبع، ولافتات في المراحيض تلفت نظر المستخدم لتفحُّص طبيعة بوله؛ تحسبًا لظهور أعراض الجفاف بسبب حرارة الجو.
وأصبحت قطر الدولة العربية المثالية في حرية المرأة؛ فتجد كثيرًا من فتيات الجامعة غير محجبات، ويتحدثن الإنجليزية بلكنة أمريكية، وبات مشهد جلوس فتاة برفقة شابٍّ يتحدثان معتادًا.
دفع المجتمع القطري ثمن النمو الاقتصادري بالتنازل عن جزء كبير من هويته في عهد ما قبل اكتشاف الغاز.
ومع تولي الأمير تميم بن حمد بن خليفة، الحاكم التاسع لقطر، مقاليد الأمور في البلاد عام 2013، واصل مهمة العمل من أجل إبرازها على الساحة الدولية، وإن اختلفت طريقته عن والده، حتى استطاع أن يحصل على شرف تنظيم كأس العالم لكرة القدم عام 2022.
مَن يدفع الثمن؟
يمكن القول بأن حكام قطر على مدار عشرات السنوات نجحوا في تحقيق الجزء الأول من المعادلة؛ بالوصول إلى النمو الاقتصادي والرفاهية ولفت أنظار العالم إلى بلدهم، لكن المجتمع القطري هو من دفع ثمن ذلك بالتنازل عن جزء كبير من هويته في عهد ما قبل اكتشاف الغاز السائل.
وبالتزامن مع تحسن الوضع الاقتصادي للبلاد، قدمت قطر واحدًا من نماذج التفرقة العنصرية المنتشرة في أماكن كثيرة من العالم، بحسب الصحيفة.
وتكفي الإشارة إلى أن نحو 90% من سكان قطر من جنسيات أجنبية، وثلاثة أرباع تلك النسبة من الرجال. وينقسم غير القطريين إلى قسمين رئيسيين؛ أولهما القادمون من جنوب الهند، وهؤلاء يمتهنون الأعمال البسيطة ويُطلق عليهم «وافدون»، أما الآخرون فهم الإنجليز، وعلى الرغم من أنهم بالفعل «وافدون» إلا أن أحدًا لا يجرؤ على وصفهم بذلك؛ بل يسمُّون «مغتربون» أو «Expats» كتسمية ألطف، وربما نلاحظ أن هذه الصفة تُطلق في بلادنا العربية على أولئك الذين ينتقلون بين أقاليم البلد الواحد، ﻻ عبر الدول.
وأسهمت هذه التركيبة المجتمعية في جعل المجتمع القطري في طليعة دول العالم، ليس فقط في تحقيق معدلات النمو وزيادة انبعاثات الكربون؛ وإنما كذلك في تعزيز مشاعر الفرد بالوحدة، على حد وصف كاتب المقال «سيمون كوبر».
ويؤكد «كوبر» أنه رأى رجلًا تبدو ملامحه جنوب شرق آسيوية، يرتدي قميصًا عليه عبارة «أنا وحيد من دونك، أنا أفتقدك» (I Am All Alone Without You — I Miss You). ورغم أن غيره يمكن أن يرى تلك العبارة مجرد كلمات تملأ فراغًا على قميص شبابي، إلا أن الكاتب شدد على أن ملامح الرجل مع حالته كانت تعبر عن مضمونها أكثر، وكأنها تؤكدها.
اقرأ أيضًا: 7 أسئلة تشرح لك نظام الكفالة المُعتمد في دول الخليج
كيف يشعر القطريون؟
ألقى الانفتاح والنمو الاقتصادي بظلاله حتى على أهل البلد الأصليين، ففي سنوات قليلة اختفت الصحراء الهادئة التي عرفوها، وصار بيع بيع لحم الخنزير قانونيًّا، واستُبدلت اللغة الإنجليزية بالعربية في المدارس، ومع ذلك، فطموح الشعب القطري لا يصل إلى درجة إشعال ثورة؛ والسبب هو غرق المواطنين في العطايا والمنح الحكومية، وعلى سبيل المثال نذكر أن المتزوجين حديثًا يحصلون على قطعة أرض تبلغ مساحتها 600 متر مربع.
وساعد حصول قطر على حق تنظيم كأس العالم لكرة القدم 2022 على التسريع من وتيرة التغيير الاجتماعي الذي تشهده البلاد، وتسبب ذلك في معاملة العمالة الأجنبية التي ترضى بمقابل مادي ضئيل على أنها وقود رخيص. ويُستغلُّ العمال القادمون من الهند ونيبال في تشييد المباني الضخمة، رغم تحملهم ظروف عمل خطرة وربما غير آدمية، وهو ما لفتت أنظار وسائل الإعلام العالمية لمعاناة العمال المهاجرين إلى قطر، رغم أنهم من اختاروا طريق الهجرة.
صادف «كوبر» هناك عاملًا هنديًّا من منطقة البنجاب (Punjab)، ولمَّا سأله عن حال البلد الذي يعمل فيه إحدى عشرة ساعة يوميًّا لمدة خمسة أيام في الأسبوع؛ اكتفى بعبارة شكوى موجزة بلغة مكسَّرة: «قطر ليس جيد»، لكن لسان حاله عبَّر عما هو أبعد من ذلك، فلا بد أنه دائم التساؤل حول كيف يكون شريكًا في بناء نهضة وحضارة هذا البلد، ولا ترتقي معاملته فيها إلى مستوى ما يلقاه من ينعمون بتلك الحضارة؟
أيمن محمود