جبل طارق: لِمن يُحسم صراع السيادة، إنجلترا أم إسبانيا؟
صارت شبه جزيرة جبل طارق، تلك المنطقة التابعة للتاج البريطاني منذ عام 1713 من الميلاد، الواقعة في أقصى جنوب شبه الجزيرة الأيبيرية والمطلة على البحر المتوسط، محط أنظار العالم أكثر من أي وقت مضى، بعد استفتاء «بريكسيت» الذي أدى إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وما رافقه من ارتفاع الأصوات الإسبانية المطالبة باسترجاع السيادة على المدينة.
سكان جبل طارق مواطنون بريطانيون ينتخبون ممثليهم في مجلس النواب في الإقليم، وتعين ملكة بريطانيا حاكمًا لهم. ويتمتع الإقليم بالحكم الذاتي في جميع المجالات باستثناء الدفاع والسياسة الخارجية، وهو موطن لحامية عسكرية وقاعدة بحرية بريطانية.
جبل طارق: موقع استراتيجي ومناخ معتدل
تشكلت صخرة جبل طارق قبل ملايين السنين، وأسماها الرومان «Mons Calpe»، بينما يعود اسمها الحالي «Gibraltar» إلى التسمية العربية «جبل طارق»، نسبةً إلى القائد المسلم طارق بن زياد، الذي سيطر عليها سنة 711 من الميلاد.
تقع جبل طارق بين خط العرض 36º7'N، وخط الطول 05º21، وتبعد عن بريطانيا 1400 ميل بحرًا، والمسافة بينها وبين قارة إفريقيا 15 ميلًا.
يطل شرق جبل طارق على البحر الأبيض المتوسط، بينما يطل غربها على المحيط الأطلنطي، وهي إقليم مساحته نحو ستة كيلومترات مربعة، وتبلغ أعلى نقطة فيه 426 مترًا فوق مستوى سطح البحر، بينما يتركز سكانه في الجانب الغربي، وتوجد في الجانب الشرقي قرية صغيرة على خليج كاتالان.
المناخ في جبل طارق معتدل نسبيًّا، فخلال أشهر الشتاء تكون أدنى مستويات الحرارة نحو 13 درجة مئوية، وعند الارتفاع يمكن أن تصل إلى 18 درجة. وتصنف 30% فقط من أيام الشتاء على أنها رطبة، ومتوسط درجات الحرارة في شهري ديسمبر ويناير 15 درجة مئوية، بينما يصل في فبراير إلى 16 درجة.
من المألوف لسكان الصخرة التمتع بـ90 يومًا على التوالي دون أمطار خلال الصيف، عندما تشرق الشمس لما يقرب من 10 ساعات يوميًّا، وقد تصل مستويات الحرارة في شهر أغسطس إلى 30 درجة مئوية.
تاريخ الصراع على حكم صخرة جبل طارق
على مدى 400 عام، كانت جبل طارق حصنًا للمسلمين وسادت فيها هندستهم المعمارية.
منذ تشجع الرجال لخوض غمار البحر، آوَى خليج جبل طارق السفن والبحارة، وشكَّل بالنسبة إلى الإغريق القدماء الحد الأقصى للعالم المعروف، وتوجد العديد من بقايا الهدايا المقدمة إلى الآلهة من الإغريق وحضارات أخرى، مثل الفينيقيين والقرطاجيين، في كثير من الكهوف على شواطئ جبل طارق.
في عام 711 من الميلاد، سيطر طارق بن زياد على صخرة جبل طارق فصارت تحمل اسمه منذ ذلك الحين، وشكَّلت بالنسبة إليه قاعدة عسكرية وبحرية مهمة، وكذلك كانت بالنسبة لباقي الدول الإسلامية التي تعاقبت على حكم شبه الجزيرة الأيبيرية. وعلى مدى أربعمئة سنة، من القرن الحادي عشر إلى القرن الخامس عشر، كانت جبل طارق حصنًا للمسلمين وسادت فيها هندستهم المعمارية.
احتلت القوات الإسبانية جبل طارق في بدايات القرن الرابع عشر لمدة 24 عامًا، لكن السيطرة عادت في عام 1333 إلى المسلمين بعد حصار دامَ 18 أسبوعًا. ولم تصبح الصخرة إسبانية إلا عام 1462، عندما سيطر عليها دوق مدينة سيدونيا.
شهد القرن الثامن عشر تغييرًا آخر في موازين القوى على الإقليم. ففي يوليو 1704، رأى الأميرال السير «جورج روك» فرصة للانقضاض على الصخرة. رفض مُلَّاك المدينة في البداية دعوة روك للاستسلام، لكن 15 ألف طلقة مدفعية وهبوط جنود البحرية البريطانيين والهولنديين عليها أقنعهم. استولت بريطانيا على الصخرة، وتنازلت إسبانيا عنها لاحقًا وإلى الأبد بموجب معاهدة «أوترخت» عام 1713.
على مر السنين حاولت إسبانيا استعادة جبل طارق عبر سلسلة من الحصارات الدموية في القرن الثامن عشر، وأدى الحصار الأخير إلى تدمير معظم بنايات المدينة القديمة. كان هذا هو الحصار الكبير الذي استمر منذ 1779 إلى 1783، عندما تحالفت عليها القوات الإسبانية والفرنسية لمدة أربع سنوات تقريبًا، واختُبرت المحمية البريطانية إلى أقصى الحدود، وخلال هذا الوقت صُمِّمت أول الأنفاق لتقوية الدفاعات العسكرية وجعلها مثالية.
انهار الحصار بعد محاولة لخرق معقل الملك بهجوم شُنَّ عن طريق مدافع على بطاريات «ممتلئة» عائمة في خليج جبل طارق، لكن البريطانيون أغرقوها باستخدام نار تم تسخينها في الأفران.
خلال القرن التاسع عشر عاش سكان جبل طارق في سلام، رغم أن الصخرة كانت مقر أسطول الأميرال نيلسون، الذي حارب في معركة «الطرف الأغر» عام 1805 في الطرف الغربي من المضيق، وأُحضر جثمانه إلى جبل طارق ودفن فيها، ويمكن زيارة المقبرة اليوم.
استمرارًا لمحاولات إسبانيا استرجاع الإقليم، أغلق الرئيس الإسباني «فرانكو» الحدود بين إسبانيا وجبل طارق في عام 1969 لمدة 13 عامًا. واليوم، لا زالت إسبانيا تطالب باستعادة السيطرة على جبل طارق من حين لآخر، لكن أهميتها لبريطانيا على المستوى الاقتصادي والعسكري تجعلها ترفض رفضًا قاطعًا إرجاعها إلى إسبانيا، وفشلت بذلك المساعي الدبلوماسية الإسبانية لاسترجاع المنطقة.
توجه سكان المدينة عدة مرات إلى صناديق الاقتراع بغية حسم مصير المدينة، إذ صوتوا عام 1967 بأغلبية ساحقة من أجل البقاء تحت التاج البريطاني، كما جددوا موقفهم في استفتاء عام 2002 برفض اقتراح السيادة المشتركة بين إسبانيا وبريطانيا بنسبة بلغت 96%، لتبقى المنطقة بريطانية وتتمتع بالحكم الذاتي.
حرية اقتصادية ونظام ضريبي يشجع على الاستثمار
تُسهم الضرائب المنخفضة بصورة كبيرة في الحرية الاقتصادية لجبل طارق.
يعتمد اقتصاد جبل طارق على السياحة والشحن والإنترنت وأنشطة المركز المالي، ويستفيد من تجارة واسعة النطاق في مجال النقل البحري، وموقع الصخرة كمركز مؤتمرات دولي.
انخفض الوجود العسكري البريطاني بشكل حاد، ويُسهم الآن بنحو 7٪ فقط في الاقتصاد المحلي، مقارنةً بـ60٪ في عام 1984.
خلال السنوات الأخيرة، شهدت جبل طارق تغييرًا هيكليًّا كبيرًا من الاقتصاد العام إلى الخاص، لكن التغيرات في الإنفاق الحكومي لا يزال لها تأثير ضخم على مستوى العمالة. ويُسهم القطاع المالي والسياحة وقطاع النقل البحري بنسبة 30٪ و30٪ و25٪ على الترتيب من الناتج المحلي الإجمالي.
تساعد الضرائب المنخفضة في الحرية الاقتصادية لجبل طارق، وبسببها أنشأت شركات كبيرة للألعاب والمراهنات أعمالًا تجارية، ويؤدي تحسين مرافق الاتصالات السلكية واللاسلكية إلى زيادة جاذبية الأعمال التجارية في جبل طارق.
حسب الأرقام المتوفرة، بلغ الناتج المحلي الإجمالي في معدل النمو الحقيقي 6% سنة 2008، واحتلت جبل طارق بذلك المرتبة 22 عالميًّا، بينما بلغ الناتج المحلي الإجمالي للفرد الواحد 42 ألف دولار عام 2008، محققًا نموًّا ملحوظًا مقارنةً بعام 2007 عندما كان 41 ألف دولار، و38 ألفًا عام 2006.
تنوع عِرقي وديني
غالبية سكان جبل طارق مسيحيون، والإسلام ثاني أكثر الديانات حضورًا في الإقليم.
على امتداد تاريخها، سكنت جبل طارق مجموعة من المهاجرين من خلفيات ثقافية مختلفة، بما في ذلك الإسبانية والجينوية (نسبةً إلى مدينة جنوة الإيطالية) والمالطية والمغربية واليهودية والبرتغالية، جنبًا إلى جنب مع الطارقيين، لتشكيل مجتمع متنوع ومتعدد الأعراق.
بلغ عدد سكان جبل طارق عام 2014 نحو 33 ألف نسمة، 26 ألفًا منهم طارقيون، وخمسة آلاف بريطانيون، وألفين من جنسيات أخرى. وبلغ عدد المولودين الجدد 14.7 فرد لكل ألف نسمة، بارتفاع طفيف مقارنةً بعدد المولودين الجدد في عام 2011 الذي بلغ 13.8، فيما يستقر معدل الوفيات عند 7.5 فرد لكل ألف نسمة.
تعتنق غالبية ساكنة جبل طارق المسيحية، وتبلغ نسبة الروم الكاثوليك في الإقليم 72% من مجموع السكان، يليها أتباع الكنيسة الإنجليزية بـ8%، ومسيحيون آخرون يقدرون بـ4%، بينما تبلغ نسبة اللادينيين والملحدين 7%.
يعتبر الإسلام ثاني أكثر الديانات حضورًا بنسبة 4%، إذ يعيش في الإقليم 1166 مسلمًا أغلبهم مغاربة، ثم اليهودية والهندوسية بـ2%، ونسبة 1% المتبقية غير مصنفة.
المميزات الثقافية واللغوية لجبل طارق
يسود تعدد الثقافات جبل طارق نظرًا لموقعها الجغرافي الفريد. فاللغة الرسمية هي الإنجليزية، وتستخدمها الحكومة والمدارس في جميع أنحاء البلاد، لكن السكان الأصليين عادةً ما يكونون ثنائيي اللغة، ويتحدثون الإسبانية بطلاقة كالإنجليزية. ومن المألوف سماع العربية هناك، وكذلك البرتغالية والإيطالية والروسية.
يتحدث معظم السكان لغة اللانيتو، وهي لغتهم الدارجة، وتستند في الغالب إلى الإسبانية الأندلسية مع عديد من الكلمات المستعارة من الإنجليزية وغيرها من لغات البحر المتوسط. ومع ذلك، ونظرًا لوجود مجموعة كبيرة ومتنوعة من الجماعات الإثنية في جبل طارق، فهناك لغات أخرى مستعملة في الإقليم مثل العربية المغاربية. وكان للإسبانيين الأندلسيين تأثير على اللانيتو، ويُلاحظ احتوائها على أكثر من خمسمئة كلمة من أصل جنوي وعبري.
عندما يتعلق الأمر بلغات أخرى في الصخرة، نجد الهندية والسندية لغتين يتحدث بهما المجتمع الهندي لجبل طارق. والمالطية هي اللغة التي كانت تُستخدَم على نطاق واسع حتى أواخر القرن التاسع عشر، وما زالت بعض العائلات من أصل مالطي تتحدث بها اليوم. واللغة الجينوية كانت مستعملة في خليج كاتالان في القرن التاسع عشر، وتناقصت بسرعة في العقود الأولى من القرن العشرين، في حين يتحدث أفراد المجتمع اليهودي العبرية.
الثروة البيئية والمقومات السياحية في جبل طارق
تقول الأسطورة إنه إذا اختفت القرود من جبل طارق، سيختفي البريطانيون منها.
تزخر الطبيعة في جبل طارق بثروة بيئية وحيوانية فريدة، والسائح الذي يزور الصخرة يحظى بفرصة مميزة لرؤية بعض الحيوانات والطيور عن قرب في بيئتها الأصلية. وتكثر في المنطقة الكهوف والمغارات والحدائق الغنَّاء متنوعة النباتات، التي تمتاز بها جبل طارق عن غيرها من المناطق.
قرود جبل طارق تسمى المكاك البربري، واسمها العلمي «Macaca Sylvanus»، ولا أحد يعرف كيف وصلت إلى جبل طارق، لكن الأرجح أنها جُلبَت عن طريق العرب في وقتٍ ما بعد عام 711، أو البريطانيين بعد 1704.
الماكاك مُدرجة على أنها حيوانات مهددة بالانقراض في موطنها الأصلي (الجزائر والمغرب)، لكنها تزدهر في جبل طارق تحت رعاية جمعية التراث الطبيعي.
تقول الأسطورة إنه إذا اختفت القرود من جبل طارق سيختفي البريطانيون منها، لذلك عندما لمس السير «ونستون تشرتشل»، رئيس الوزراء البريطاني السابق، تضاؤلًا حادًّا في أعداد القرود على شبه الجريزة، ورغم انشغاله بالحرب العالمية الثانية، أمر بجلب القرود من شمال إفريقيا لتعويض النقص. واليوم، يبلغ عدد الماكاك البربري في صخرة جبل طارق نحو 230 قردًا، تعيش في ست مجموعات ذات أحجام تتراوح بين 25 و70 قردًا في المجموعة.
تعتبر القلعة المورية وبرج القلعة الحرة أبرز معالم الحضارة الإسلامية الباقية فوق صخرة جبل طارق، وقد بُنيَت القلعة عام 1160 من الميلاد، وتعرض برجها لأضرار ودمار كبيرين حين هاجم الملك الإسباني فرديناند الرابع جبل طارق عام 1309 واستولى على الصخرة، لكن المسلمين استعادوها سنة 1333، وأعاد السلطان أبو الحسن بناء القلعة في القرن الرابع عشر الميلادي.
كانت القلعة جزءًا من المدينة الأصلية التي سمِّيت مدينة الفتح، وكانت محاطة بأبراج دفاعية ومساكن ومساجد وقصر للصلاة، وضمت حمامات مغربية، ولا يزال بإمكان الزائر رؤية نموذج لها داخل متحف جبل طارق.
رغم الدمار الذي حدث في وقت سابق، احتفظت جبل طارق بآثار من تراثها، وتطل القلعة الإسلامية الرائعة وبرج القلعة شاهدَين على الحضور الإسلامي في الخليج، ويمكن رؤية العمارة الإسبانية في كاتدرائية سانت ماري والدير الفرنسيسكاني، الذي هو الآن المقر الرسمي لحاكم جبل طارق، ويتمتع زوار الصخرة باستكشاف أنفاق الحصار الكبير وزيارة قبر نيلسون.
تبقى جبل طارق منطقة لها مميزاتها الثقافية واللغوية الخاصة، وتظل تجربتها الاقتصادية جديرة بالدراسة بحكم نجاحها ضمن محيط عانى كثيرًا على المستوى الاقتصادي، أما مستقبلها السياسي فيبقى مجهولًا إلى حين.
الطيب عيساوي