لماذا تعتبر حرية السوق مهمة أكثر من أي وقت مضى؟
يعتبر النظام الاقتصادي الكويتي هجينًا بين الرأسمالية والاشتراكية، فهو من ناحية يسمح بحرية الأفراد في المنافسة والمِلكية الخاصة، ويلعب القطاع الخاص دورًا حتى وإن كان محدودًا، ومن ناحية اخرى نجد أن الحكومة مسؤولة عن توظيف المواطنين، ولذلك فأن أغلب موظفي الدولة يعملون في القطاع العام، وكذلك تتدخل الحكومة لضبط الأسعار ودعم السلع الأساسية وتقديم المعونة للفئات المحتاجة. هذه الخلطة الفريدة المستخدمة في الكويت ليس لها مقادير ثابتة وغير مستندة إلى أيديولوجيا واضحة، إلا أن هذا النظام الهجين كأي نظام له حسناته ومساوئه.
ما زالت بيئة الأعمال في الكويت تنمو وتتطور، ويمكن التدليل على هذا بشواهد من الواقع، فمثلًا يشير مؤشر سهولة ممارسة الأعمال في الكويت الصادر عن البنك الدولي إلى وجود تقدم ملحوظ في ترتيب موقع الكويت بين 190 دولة من دول العالم، فقد احتلت في 2019 المركز 97، بينما قفزت في 2020 إلى الأمام لتحتل المركز 83. يقيس هذا المؤشر عدة مجالات، مثل سهولة بدء العمل التجاري، والتعامل مع تصاريح البناء، والحصول على الكهرباء، وتسجيل الملكية، والحصول على الائتمان، ودفع الضرائب، والتجارة عبر الحدود، وإنفاذ العقود، وحل الإعسار، وتوظيف العمال، والتعاقد مع الحكومة.
بيئة الأعمال والحرية
برغم أن بيئة الأعمال الكويتية تتطور يومًا عن الآخر، فإنها عملية بطيئة أشبه بخطوات الطفل، تحبو وتخطو بعض الخطوات ثم تتعثر وتنهض، ولا توجد مشكلة في هذا، فنحن لم نولد ولدينا دليل استخدام لهذه الحياة، بل إن عملية التعلم ترتكز أساسًا على استراتيجية المحاولة والخطأ.
إلا أن أي نمو ينقصه هامش حرية ليصل إلى النضج والمسؤولية، فنحن لا نتعلم في حياتنا من الدروس الجاهزة والمعلبة بقدر ما نتعلم من تجاربنا الشخصية. وكي لا نذهب بعيدًا في مثالنا، فما نعنيه في كلامنا هنا أن بيئة الأعمال في الكويت ينقصها «حرية السوق»، وتحديدًا في آلية العرض والطلب دون أن يكون للحكومة دور في تشكيل هذه الآلية وفق اعتبارات «غير موضوعية»، كما سنأتي على ذكر أمثلة لهذه الاعتبارات في متن هذا المقال. ورغم أن حرية السوق مفهوم اقتصادي مهم في تشجيع الابتكار وجعل المستخدم النهائي أو المستهلك محور عملية الإنتاج والتداول التجاري، فإن هذا المفهوم لم يأخذ حقه في النقاش بما فيه الكفاية، ولا يوجد له حضور عند الحديث عن بيئة الأعمال في الكويت.
على مستوى الأنظمة والقوانين، لا يوجد في الكويت أي نص قانوني أو أي قرارات تنفيذية تتطرق إلى حرية ممارسة الأنشطة الاقتصادية، إلا ما جاء في القانون رقم 10 لسنة 2007 المعدل بالقانون رقم 2 لسنة 2012، والذي ينص على إنشاء جهاز حماية المنافسة، وقد تشكّل أول مجلس لإدارته في 2012.
أشار هذا القانون في مستهل مذكرته الإيضاحية إلى أنه «بناء على ما كفله الدستور الكويتي من حرية المنافسة، فإن حرية ممارسة النشاط الاقتصادي مكفولة للجميع على نحو لا يؤدي إلى تقييد المنافسة الحرة أو منعها أو الإضرار بها، دون الإخلال بما تقضي به المعاهدات والاتفاقيات الدولية النافذة في دولة الكويت، وفي ضوء ما شهدته السنوات الأخيرة من بزوغ نجم العولمة الاقتصادية، وما تبعها من تزايد دور القطاع الخاص وانتشار سياسة التحرر الاقتصادي».
ورغم مرور أعوام على إنشاء هذا الجهاز الذي أُوكلت له اختصاصات مهمة تتمثل في حرية ممارسة الأنشطة الاقتصادية وحرية المنافسة العادلة ومنع الاحتكار، نجد أن مركز الكويت في المؤشر العالمي للحرية الاقتصادية الصادر عن مؤسسة التراث وصحيفة وول ستريت جورنال لم يتقدم، وما زال في مراكز متأخرة. وبينما تقدمت السعودية في عام 2021 عشرة مراكز عن ترتيبها في العام الماضي، لم تتقدم الكويت إلا خمسة مراكز فقط، وفي ذات الوقت تراجعت لتصبح الأخيرة خليجيًا بعد أن كانت تحتل المركز الخامس. وبرغم ذلك، فلا يعتبر التقدم خمسة مراكز تقدمًا كبيرًا، خصوصًا إذا علمنا أن الكويت تراجعت تسعة مراكز في عام 2019.
التدخلات والإغلاق
تسهم هذه المؤشرات وتلك الأخبار في تفويت فرص استثمارية كثيرة كان من الممكن أن تجذب رؤوس أموال خارجية للكويت، والفرص الضائعة تعتبر أموالًا ضائعة، فبالنسبة للمستثمر الأجنبي، يعتبر نقل الأموال إلى بيئة «غير مشجعة» مغامرة خطرة، والكثير من المستثمرين في غنى عنها. ولعل ما قاله جوي هود، مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، في 4 مايو 2021، له صلة بحديثنا، إذ أعلن أن البيئة الاستثمارية في الكويت بحاجة إلى التطور لتصبح أكثر ترحيبًا كما البيت الكويتي.
محلات الملابس في الكويت ممنوعة من عرض الملابس «الفاتنة» على المجسمات الخشبية في واجهاتها، في قرار نادرًا ما يوجد له شبيه في العالم.
تصريح هود يذكرنا بإغلاق متجر «فيرجن ميغا ستور» قبل عدة أعوام في الكويت، والذي يعود سببه كما ذكرت الإدارة آنذاك إلى «الضغوط التي جعلت بيئة العمل صعبة، نتيجة تدخل الأجهزة الرقابية الحكومية في حرية ممارسة أنشطة فيرجن ميغا ستور في الكويت». وقد ذكرت نسرين شقير رئيسة المتجر في الشرق الأوسط، لصحيفة «القبس» الكويتية في عددها الصادر بتاريخ 8 فبراير 2012 أن «القرار كان صعبًا، لكنه سيتيح لنا تحسين إدارة الموارد، والتركيز على الأسواق المزدهرة، ودعم نموذج أعمال فيرجين ميغا ستور بشكل أفضل».
ليس المثال السابق لإغلاق «فيرجن ميغا ستور» هو الوحيد، فقرارات المنع والرقابة والإغلاق تتوالى دون وجود تبريرات كافية تأخذ موضوع نمو بيئة الأعمال على محمل الجدية. فلو نظرنا إلى الكتب على أنها منتجات متداولة بتسعيرة وسوق للبيع، نجد أنها تواجه مجزرة سنوية جراء فعل الرقابة عليها، مما يسهم في تصدير صورة سيئة عن الكويت بأنها بؤرة لرجعية الفكر وقمع المفكرين، ولعل منشور «مع الكتاب.. معاهدة سلام» قد سلط الضوء على هذا الموضوع بشيء من التفصيل.
من ناحية أخرى، نجد أن محلات الملابس في المجمعات والأسواق ممنوعة من عرض الملابس «الفاتنة» على المجسمات الخشبية في واجهاتها، في قرار نادرًا ما يوجد له شبيه في العالم، وذلك وفق قرار وزارة التجارة والصناعة رقم 420 لسنة 2008. ويحظر القرار أيضًا على جميع المحلات التجارية ترك دمى العرض (المانيكان) من دون ملابس، أو عرض الملابس عليها بطريقة تخدش الحياء العام.
مثال سنوي يتكرر معنا كل رمضان، هو إغلاق المطاعم والمقاهي حتى وقت الإفطار طوال الشهر. وبغض النظر عن قانون منع الإفطار (المجاهرة) في الأماكن العامة والذي ليس موضوع حديثنا هنا، فإن النشاط الاقتصادي الذي تمارسه المطاعم والمقاهي التي تقدم المشروبات الساخنة أو الباردة هو ذات النشاط الذي تمارسه الجمعيات التعاونية والأسواق المركزية والأسواق الموازية من تقديم المأكولات والمشروبات، ولا يوجد أي قرار يمنعها من مزاولة نشاطها خلال فترة الصيام، بينما تُمنع المطاعم والمقاهي فقط لمزاولتها ذات النشاط، مما يكشف عن ازدواجية في المعايير وغياب للتبرير الواضح والصريح والمعلن.
علاقة الرأي العام والسوق
في شهر مارس الماضي، نشرت بعض المواقع الإخبارية أخبارًا حول تقديم بعض المقاهي المشروبات والقهوة في زجاجات حليب الأطفال (رضّاعة الأطفال) في الكويت وبعض الدول الخليجية. ونظرًا لتشابه السياق الاجتماعي والثقافي بين سكان الخليج، والذي يجعل التنبؤ بصدور قرارات مشابهة على الصعيد التجاري أمرًا ممكنًا، فسرعان ما أغلقت الكويت وعمان والإمارات والسعودية المقاهي التي زاولت هذا النشاط، مع تطبيق بعض العقوبات الإدارية عليها، فيما اكتفت البحرين بتوجيه إنذارات للتوقف عن تقديم المشروبات والقهوة في «رضاعة الأطفال».
هل تستحق تقليعة شرب القهوة في زجاجات حليب الأطفال أن تستدعي عقوبة تتمثل في إغلاق المقاهي التي تقدمها؟
انعكاس الخبر على آراء الناس بين مؤيد ومعارض ليس بالأمر المستغرب، إلا أن ما يلفت الانتباه في وسط هذه التداعيات هو إعلان قطاع حماية المستهلك التابع لوزارة التجارة والصناعة في الكويت، عبر تغريدة على تويتر، أن قرار إغلاق المحل الذي قدم هذا النشاط جاء لمخالفته «النظام العام»، والذي نص عليه القرار الوزاري رقم 216 لسنة 2014 بشأن «الإشراف على الإتجار في السلع والخدمات والأعمال الحرفية، وتحديد أسعار بعضها وتعديلاته».
بمراجعة القرار الوزاري الذي استند إليه قطاع حماية المستهلك، وجدنا أنه يشير في المادة 10 إلى الشروط العامة للسلع والخدمات المتداولة، ويذكر في البندين الأولين أنه يجب أن «تكون مباحة شرعًا وفقًا للشريعة الإسلامية، وألا تكون مخالفة أو منافية للآداب العامة أو النظام العام».
استند قطاع حماية المستهلك إلى هذه المادة تحديدًا لإغلاق تلك المنشآت التي زاولت هذا النشاط، لكن ما علاقة هذه المادة بتقليعة شرب القهوة في زجاجات حليب الأطفال؟ وهل توافق هذه المادة الدستور الكويتي؟ وهل هذه المادة سليمة الصياغة وفي مكانها الصحيح؟ وما جدوى هذه المادة في تنظيم الأعمال التجارية، رغم أن هناك عقوبات لذات الأفعال في القانون الجنائي؟ وهل مفاهيم مثل النظام العام ثابتة وغير قابلة للتغيير أو اختلاف التفاسير؟ والأهم من كل هذه التساؤلات: هل تستحق تقليعة شرب القهوة في زجاجات حليب الأطفال أن تستدعي عقوبة تتمثل في إغلاق المقاهي التي تقدمها؟
إذا كانت «حرية السوق» هي البيت، فالابتكار هو السقف
تعتبر حرية السوق وسيلة لتشجيع الابتكار، الذي يسهم بدوره في استدامة الاقتصاد. والاستدامة الاقتصادية أمر يتجاوز تحقيق الربح فقط، بل يتسع مفهومها لتعني النمو الاقتصادي طويل الأمد. والحاجة إلى الاستدامة لا تنفصل عن الحاجة للابتكار، ولكن ماذا نعني بالابتكار؟ وما أهميته لنا اليوم؟
يُعرف الابتكار وفقًا لمعجم أكسفورد للغة بأنه إدخال أشياء أو أفكار أو طرق جديدة لفعل شيء ما. وتتعدد مجالات الابتكار في عدة مناحي للحياة، وما يهمنا هنا هو دور الابتكار في العمل التجاري، حين تكون المحصلة منه صنع أو تطوير منتج أو خدمة جديدة توفر حلًا لمعضلة قائمة، وبالتالي تحقيق ربح أو تقليل مصاريف أو تحسين شكل الحياة التي نعيشها.
من شأن الابتكار أن يساعد في ولادة مشاريع جديدة إلى الحياة التجارية ونموها، والعالم مليء بالأمثلة للاقتصادات الكبرى التي تشجع الابتكار، وكيف يلعب دورًا مهمًا في تعزيز أدائها الاقتصادي. وبالنسبة للشركات العالمية الكبرى، فإن قيمتها السوقية ترتفع بقدر ما لديها من براءات اختراع، توظفها لتكون ابتكارات قابلة للتطبيق بشكل منتج ومفيد.
من النادر أن نجد مثالًا على نجاح الابتكار في الاقتصادات التي تسلك منهج الإدارة الاقتصادية من الأعلى إلى الأسفل، أي الاقتصاد الذي تديره الحكومات وتوجهه، ومثال ذلك بريطانيا في عهد مارغريت ثاتشر، التي حققت نموًا اقتصاديًا تصاعديًا لاحترامها حرية السوق وتحريرها الأنشطة التي تسيطر عليها الحكومة مثل الفحم، بعد أن كانت تسيطر على عدة أنشطة بحجة حماية الموارد الوطنية الطبيعية. المغزى من هذا المثال أنه من الصعب أن تحدد الصناعات التي ستنجح والتي سينخفض الطلب عليها، ولذلك من الأجدى ترك السوق ليتحمل هذه المسؤولية، ويبتكر في سبيل نجاح أنشطته واستمرارها.
يذكر كتاب «كيف يعمل الابتكار، ولماذا يزدهر في وجود الحرية» للمؤلف مات رايدلي أن «النظام السياسي/الاجتماعي» هو العدو الأكبر للابتكارات. ويستشهد الكاتب بعدم تطور النظام الزراعي قبل عام 1900، نظرًا لأن الأنظمة السياسية/الاجتماعية آنذاك كانت قائمة على الجباية والتدخل في الإنتاج، وبالتالي فإنه من البديهي والمتوقع من الفلاح ألا يبتكر، لأن الابتكار سيعرضه للجباية بشكل أكبر. لو كان النظام السياسي/الاجتماعي آنذاك لا يتدخل في الإنتاج الزراعي، لكان من المرجح أن تحدث الثورات الصناعية مبكرًا.
يرى رايدلي أن الابتكار عملية غامضة، وغير مفهومة جيدًا من قبل صانعي السياسات ورجال الأعمال، ويصعب استدعاؤها إلى الوجود وقت الحاجة، وهي عملية تصادمية تصاعدية لا يزال من غير الممكن أن يصممها الاقتصاديون بشكل صحيح، ولكن يمكن بسهولة تثبيطها من قبل السياسيين.
إذًا، فالدعوة إلى تحرير السوق ليست دعوة ليبرتارية (تحررية من غير قيود) بقدر ما هي حاجة ملحة اليوم، وخصوصًا في بلدانا ذي الاقتصاد المصاب بما يعرف بالمرض الهولندي، وبعد اكتشاف النفط الذي أدى إلى تضخم النمو المالي للقطاع النفطي على حساب باقي القطاعات الإنتاجية، واستمرار الاعتماد على العائد النفطي بشكل غير فعال، وتحديدًا في تمويل الميزانية العامة للدولة التي يذهب أغلبها لباب الرواتب، بحيث فقدنا الرغبة في الإنتاج والابتكار لتحسين اقتصادنا، ومن ثم عالمنا وحياتنا.
الفوضى الخلاقة والنمو الاقتصادي
تناولت عدة أدبيات علمية مفهوم الابتكار وعلاقته بالنمو الاقتصادي، وأهمها ما طرحه جوزيف شومبيتر عام 1943، وهو العالم الأمريكي الشهير في الاقتصاد والعلوم السياسية ذو الأصول النمساوية، والذي تناول مفهوم الابتكار في السوق، واعتبر أن التطوير المدر للأرباح محكوم بالابتكار.
يقسم شومبيتر والابتكار على النحو التالي: إطلاق نوع جديد من المنتجات المعروفة سابقًا أو إطلاق منتج جديد تمامًا، وتطبيق طرق جديدة للبيع، واكتشاف مصادر جديدة لتوريد المواد الخام أو حتى البضائع نصف المصنعة، وفتح أسواق جديدة، وأخيرًا إنشاء هياكل صناعية جديدة أو تدمير المراكز الصناعية الاحتكارية.
اشتهر شومبيتر بالترويج لنظرية التدمير الإبداعي أو الفوضى الخلاقة في الاقتصاد عام 1942، إذ طرح في نظريته أن من يريد تحقيق ربح يجب أن يبتكر. وبعبارة أخرى، فإن التغيير في الاستثمار يكون مصحوبًا بتوسع نقدي. واعتقد شومبيتر أن الابتكار يجب أن يعزز التنافسية ويقود الديناميكية الاقتصادية، وأكد أن الابتكار يكون من خلال قدرة المنتجات الجديدة على استبدال المنتجات القديمة: «بمرور الوقت، ستستمر الابتكارات الأحدث والأفضل في التخلص من الابتكارات السابقة السيئة بعد اكتشاف عيوبها، تمامًا كما فعل الطراز T من سيارات فورد موديل 1908 مع الحصان والعربات التي تجرها الدواب».
وقد ذكر في ذات الكتاب أن القوانين والانظمة التي تفترض المثالية في التعامل مع التقنيات الجديدة قد تعيق بشكل غير متوقع الابتكار التالي. بمعنى آخر، فالتدخل الذي يقدم نفسه على أنه «مثالي» لدعم الابتكارات يعوق تطورها، وبالتالي يمنع الابتكارات التالية من استبدال الابتكار السابق. وأشار أيضًا إلى أن الاقتصاد هو آلية طبيعية ذاتية التنظيم عندما لا يزعجها «المتدخلون الاجتماعيون وغيرهم».
لماذا نحتاج اليوم إلى الابتكار أكثر من أي وقت مضى؟
بعد أي أزمة اقتصادية، تطفو على السطح تساؤلات حول جدوى النظام الاقتصادي القائم، ولا سيما بعد ما مرت به بلادنا من ركود اقتصادي، وهو ما أطلق عليه صندوق النقد الدولي الإغلاق العام الكبير، أي الوقف القسري للأنشطة التجارية في العالم منذ شهر مارس 2020 ولفترات طويلة تصل إلى عدة شهور أو أكثر من سنة لبعض الأنشطة، وذلك للحد من انتشار الوباء وامتثالًا لتعليمات الجهات الصحية في العالم، وما لهذا الوقف من تبعات صعبة للغاية على المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتسببه في خروج الكثير منها من سوق العمل.
هذه الأسئلة مهمة في إعادة العربة إلى المسار الصحيح، وهي أيضًا مهمة لمعرفة أفضل النظريات والتجارب البشرية التي ثبت نجاحها على أرض الواقع. ورغم أن بلادنا تنفذ خططًا لإنعاش السوق وتضخ حزمًا اقتصادية لمساعدة أصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة على النهوض، فإن بيئة المشاريع تحتاج إلى أن تُبنى على ثقافة الحد من تدخل الحكومات في السوق، وأن يقتصر الدعم الحكومي للمشاريع الصغيرة والمتوسطة على التمويل والتنظيم فقط، دون التعامل معها بافتراض أنها مشاريع غير ناضجة ويجب أن تتدخل الحكومة لتقويمها، بل يجب أن تعطى فرصة للنمو الحقيقي دون تدخل في أنشطتها، وترك المجال للمستهلك ليقرر تقويمها حتى تنضج. فحتى وإن لم تعجبنا أي فكرة لأي نشاط اقتصادي، إلا أن عدم التدخل في مسار عمله هو الخيار الأفضل ليتطور.
نحتاج اليوم إلى إدراك أن الاحتكار عدو الابتكار، وأقصد هنا احتكار القوة في صنع القرار وصلاحية تفسير النوايا وتقويم المشاريع.
حرية الأنشطة الاقتصادية هي الضامن الوحيد للابتكار، وازدهار الابتكارات هو ما يساعد على سرعة التعافي ونهوض المشاريع. فللابتكار قدرة على مساعدة المشاريع الصغيرة والناشئة على تجاوز ما يسمى بـ«بمنحنى وادي الموت»، وهو المرحلة التي تتسم بالخطر على استمرارية المشاريع لكونها تقع في الرسم البياني بين انطلاق المشروع من نقطة الصفر وصولًا إلى النقطة التي ينتهي فيها من تغطية تكاليفه وسداد ديونه والبدء في إدرار الأرباح. وخلال هذه المرحلة، نظرًا لخطورتها وتحدياتها على المشاريع الصغيرة والناشئة، توفر الدول دعمًا بعدة أشكال لأصحابها، بالاقتراض الآمن أو بتوفير ما يسمى بحاضنات المشاريع، التي تساعدها حتى تتجاوز مرحلة الخطر.
أسست دول الخليج عدة صناديق وطنية لدعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة حتى تجتاز مرحلة الخطر، وهذه الصناديق تمتلك رؤوس أموال مليارية رُصدت بعد استشعار وإدراك دور المشاريع الصغيرة والمتوسطة في رفع قيمة الناتج المحلي الإجمالي للفرد في الخليج. ويؤمل من هذا الدعم أن يساعد مستقبلًا في خلق اقتصاد منتِج غير أحادي، يسهم في تنويع الموارد الاقتصادية ويقلل الاعتماد على النفط. إلا أن ما يُصرف من ميزانيات لهذا الدعم سيكون غير فعال بما فيه الكفاية ومحصلته صفرية لو كان غير مشجع على الاستثمار أو طاردًا له.
نحتاج اليوم إلى إدراك أن الاحتكار عدو الابتكار، وأقصد هنا احتكار القوة في صنع القرار وصلاحية تفسير النوايا وتقويم المشاريع. يجب أن نفترض حسن الظن في الآخرين حتى يثبت العكس، وأن نحتفي باختلاف الأفكار، فالتشابه يخلق التكرار والتكرار قاتل للإبداع. يجب أن نمنح رواد الأعمال والمبادرين فرصتهم ليجربوا ويخطئوا ويتعلموا من أخطائهم، لا أن يعاقَبوا لمزاولة نشاط لا تنص على منعه أي لائحة أو دليل إرشادي واضح. خطورة هذا تكمن في خلق رواد أعمال مترددين وغير مبادرين، فالابتكار مرتبط بتحمل المخاطرة. ولنترك الأمر للمستهلك ليقرر، كونه المستفيد والمستخدم النهائي. لا توجد وصفة سحرية للابتكار كالحرية، ولا يوجد خطر على الحرية كالمساحات الرمادية التي تخلقها الأنظمة والقوانين، والتي تجعل من يحاول أن يبتكر في خطر مخالفة «النظام العام».
محمد البوص