تماسيح بحيرة ناصر: تجارة مُجرمة تدر ثروة على الصيادين

ندى حنان
نشر في 2017/11/15

الصورة: Getty/Reinhard Dirscherl

ليست تماسيح بحيرة ناصر في مأمن من الصيادين، الذين يراقبونها عن كثب للإيقاع بها في الشباك، وتحولت تلك الحيوانات في أسوان إلى مصدر رزق رئيسي يعوض بعض الناس عن خسائر انتكاس قطاع السياحة.

«نطارد التماسيح الصغيرة بالقوارب لندفعها إلى المياه الضحلة، ومن ثَمَّ نصطادها بأيدينا»، هكذا يحكي محمد عن مهنته التي مارسها منذ 10 سنوات.

إذا كانت التماسيح متوسطة الحجم، أي في حجم «الكاياك»، وهو قارب صغير، يوقعها الصيادون في شباك مصنوعة من الأسلاك الشائكة، أما إذا كانت ضخمة (يصل طول ذيلها إلى 5.5 متر) فيشتتون رؤيتها بالأضواء أولًا كي تدخل في الشباك، ثم يطلقون النار على بطونها.

خلال حديثه لموقع «ناشيونال جيوغرافيك»، كان محمد يتفاخر بمهارته في أداء هذه المهنة التي تجرِّمها الدولة قائلًا: «لا يوجد تمساح لا يمكنني اصطياده، ولا توجد منطقة صيد لا أعرفها (...) قضيت حياتي كلها أفعل هذا».

تماسيح النيل المقدسة

الإله «سوبيك» - الصورة: Graeme Churchard

يصيد محمد تماسيح النيل، وهي ثاني أكبر الزواحف على مستوى العالم، ويعيش أغلبها في البحيرات والأنهار الضخمة في جنوب الصحراء الكبرى الإفريقية، وتُعرف بشراستها وكبر حجمها عن مثيلاتها.

بجَّل قدماء المصريين تماسيح النيل في معابدهم، وأطلقوا على الفيوم اسم «كروكوديلبوليس»، أي مدينة التمساح، تقديسًا لها. انقلب الحال في العصر الحديث حتى أنها انقرضت في الجزء الجنوبي من نهر النيل سنة 1950 بسبب تعدي السكان على أماكن وجودها، لكن المناخ المناسب لتكاثر التماسيح توافر من جديد في النوبة، قليلة الكثافة السكانية، بعد بناء السد العالي وإنشاء بحيرة ناصر.

والآن، تواجه هذه الفصيلة التهديد مرة أخرى بسبب تدهور السياحة وعدم الاستقرار السياسي، ويستغل الصيادون ذلك لمطاردتها من أجل بيعها بطرق غير شرعية.

يُصدِّر المهربون سنويًّا ما يقارب 3500 بيضة تمساح، وتماسيح حديثة الولادة، ولا يزداد عدد التماسيح في بحيرة ناصر بسبب الصيد.

يُنظر إلى لحوم التماسيح وجلودها وأعضائها التناسلية باعتبارها محفزات للقوة الجنسية في شرق إفريقيا، مما تسبب في ارتفاع أسعارها وإقبال الصيادين المحترفين على الإيقاع بها، وجذبت هذه الثروة المرتقبة السكان المحليين، فحاولوا الانخراط في تلك التجارة المربحة.

أعلنت الحكومة المصرية وجود تهديد آخر، إذ يقتل صيادو الأسماك تماسيح النيل لأنها تزاحمهم في صيد الأسماك الصغيرة وسمك البلطي، وغيرهما من أنواع الثروات السمكية التي يعتمد عليها الصيادون في تلك المناطق.

يُصدِّر المهربون سنويًّا ما يقارب 3500 بيضة تمساح، وكذلك العديد من التماسيح حديثة الولادة، بجانب مئات التماسيح الضخمة الحية، عبر المواني المصرية إلى الخليج العربي على وجه الخصوص.

أحمد أبو السعود، الرئيس التنفيذي السابق لجهاز البيئة، كشف أن عدد تماسيح بحيرة ناصر يبلغ نحو 30 ألفًا. أشارت الحكومة كذلك إلى الانخفاض الشديد في أعداد تماسيح النيل، رغم قلة المصادر التي تكشف عن العدد الطبيعي لهذه التماسيح في السابق، قبل زيادة معدلات اصطيادها الجائر من البحيرة.

عمرو هادي، الباحث في وحدة إدارة التماسيح بقطاع حماية الطبيعة في وزارة البيئة، أكد لكاتب المقال انخفاض أعداد التماسيح إلى النصف من 2008/2009 إلى عام 2012، ثم انخفاضها مجددًا بين عامي 2015 و2016.

وفقًا لهادي، الذي تتراكم في مكتبه جثث التماسيح المصادرَة من مطار أسوان وميناء العبارات منذ 2013، الصيد هو سبب عدم ارتفاع عدد التماسيح في بحيرة ناصر.

اقرأ أيضًا: الزراعة أكثر فتكًا بالحيوانات من تربية الماشية

النظام البيئي في خطر

الصورة: goodfreephotos

في حالة اختفاء التماسيح من منطقة بحيرة ناصر، فإن النظام البيئة في المنطقة المحيطة سيتضرر ويضطرب بشدة، وذلك لِما للتماسيح من دور رئيسي في التخلص من الأسماك الميتة والحشرات والقوارض والكائنات البحرية المهاجرة إلى البحيرة.

نبهت سليمة إكرام، أستاذة علم المصريات في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، إلى أن جزءًا من التراث المصري سيختفي إذا انقرضت تماسيح النيل، لأنها كانت رمزًا لمصر قديمًا خلال الحكم الروماني.

«يفعل الناس دومًا ما يتوجَّب عليهم فعله للبقاء على قيد الحياة، يكسبون المال كيفما استطاعوا» - أحد المهربين.

تجرِّم مصر صيد تماسيح النيل، رغم أن الاتحاد الدولي للحفاظ على الطبيعة يُدرِج المخاطر التي تتعرض لها التماسيح في أسفل قائمته، بالرغم من نقص أعدادها بشكل ملحوظ في كثير من البلدان.

أزاحت معاهدة التجارة العالمية لأصناف الحيوان والنبات البري المهدد بالانقراض (سايتس وهي الهيئة التي تراقب تجارة الحيوانات البرية العالمية، مصر من المرتبة التي تتطلب الحماية القصوى للحياة البرية إلى أخرى مختلفة سمحت بعودة تجارة التماسيح بنسب محددة، واستغل الصيادون هذه الثغرة لتقنين نشاطهم، حسبما قال عمرو هادي لكاتب المقال.

يخبرنا عبد الحليم طلبة، الذي تمارس عائلته تجارة الحياة البرية في مصر، أنه دخل في هذه التجارة المجرَّمة لأن «الناس يفعلون دومًا ما يتوجَّب عليهم فعله للبقاء على قيد الحياة، يكسبون المال كيفما استطاعوا (...) وحاليًّا، يزداد الطلب على التماسيح».

يؤكد طلبة أنه وأسرته يصطادون سنويًّا 500 تمساح على الأقل من بحيرة ناصر.

قد يهمك أيضًا: نعم، تغير المناخ يؤثر في البيئة، لكن كيف سيغير سوق العمل؟

أوقات عصيبة

ما لا تعرفه عن التماسيح في بحيرة ناصر

اشتغل سكان أسوان، تحديدًا شمال بحيرة ناصر، طويلًا في صيد التماسيح الصغيرة، لكن لم يزدهر اصطياد التماسيح بشكله الحالي إلا بعد ثورة يناير 2011.

يتردد المسؤولون في دخول حرب مع صائدي التماسيح، في الفترة التي تنشغل فيها قوات الأمن بمطاردة مهربي الأسلحة والمخدرات وصد المعارضة السياسية.

أثر عدم الاستقرار السياسي وخطر الإرهاب في السياحة المصرية بالسلب، وانخفضت نسبة الإشغال في فنادق أسوان بما يزيد عن 70% منذ 2010 إلى 2015، حسبما يقول حسين محمد، مالك فندق «دار سهيل»، فتضرر العاملون في هذا القطاع الذين يعتمدون كليًّا على العملة الصعبة كمصدر للرزق، خصوصًا مُلَّاك الفنادق والمرشدون السياحيون.

لجأ كثيرون لتنظيم رحلات غير قانونية إلى بحيرة ناصر لصيد التماسيح والاحتفاظ بجلودهم كتذكار لكسب الرزق، وبرر حسين ذلك بأن «علينا أن نفهم أنهم يائسون».

يربي أهل القرى في الضفة الغربية لنهر النيل التماسيح لجذب السياح، وتقدم بعض الفنادق التماسيح حديثة الولادة للسياح كطريقة لتنشيط السياحة. كانت الشرطة سابقًا تتصدى لعمليات التجارة غير القانونية في تماسيح النيل، بالإضافة إلى تفتيش البازارات في وسط المدينة بحثًا عن أي نشاط مشبوه، وتوقف ذلك منذ ثورة يناير.

يتردد المسؤولون في دخول حرب مع صائدي التماسيح خلال هذه الفترة المضطربة، التي تنشغل فيها قوات الأمن بمطاردة مهربي الأسلحة والمخدرات وصد المعارضة السياسية. ويرى أسد طلبة، شقيق عبد الرحيم، أن الشرطة لا تمثل عقبة كبيرة أمامهم، لأنهم يعلمون أن الصيادين مجرد «أناس طيبين يسعون في سبيل الرزق».

الانتقام من تماسيح البحيرة

إطلاق سراح تمساح صغير في بحيرة ناصر

تقل الثروة السمكية في بحيرة ناصر، أصبحت البحيرة مأوى للأسماك الصغيرة فقط، لذا يلوم صيادو الأسماك التماسيح على هذا التغيير الذي يؤثر في نوعية وعدد الأسماك التي تقع في شباكهم، ولذلك يقتلونها انتقامًا منها.

قبل ثورة يناير، كانت الشرطة تراقب ما يصطاده كل صياد وتشرف على العملية كلها كي تتأكد من عدم صيد الأسماك الصغيرة، أما الآن فيمكن لأي شخص أن يصطاد أي شيء.

يقول عبد الله سالم عبد العزيز، الذي يصطاد الأسماك مع ولديه من الروافد الشمالية الغربية للبحيرة: «التماسيح كبيرة الحجم، وبالتأكيد لديها شهية كبيرة».

يرفض علماء الأحياء هذه الفرضية، ويوضح شريف بهاء الدين، أحد مؤسسي الجمعية المصرية لحماية الطبيعة، أن التماسيح تملك معدة صغيرة وتتغذى على الفصائل البحرية التي لا يتاجر فيها الصيادون. يبدو أنها مجرد حجة أخرى لتبرير قتل التماسيح بأعداد كبيرة والإتجار بها.

اقتحم صيادو الأسماك مهنة تجارة التماسيح لتعويض رزقهم الضعيف من بيع الأسماك، وازداد الأمر سوءًا مع انتقال الصيادين الذين يعيشون عند بحيرة قارون، بسبب التلوث الذي قضى على الثروة السمكية هناك، إلى بحيرة ناصر لبيع التماسيح، بينما يغض المسؤولون الطرف عما يحدث.

تحدث عبد العزيز مع «ناشيونال جيوغرافيك» عن حال الشرطة في السابق، قبل ثورة 25 يناير: «كانوا يراقبون ما يصطاده كل صياد، ويشرفون على عملية الصيد، ويتأكدون من عدم صيد الأسماك الصغيرة، أما الآن فيمكن لأي شخص أن يصطاد أي شيء، الأسماك الصغيرة أو أسماك البحيرة كلها أو التماسيح، ولا أحد سيلاحظ».

قد يعجبك أيضًا: ماذا تعرف عن مشاعر الشجر وذكرياته؟

التماسيح تجارة رابحة

الصورة: Limboko

ينقل المهربون التماسيح الحية في عبَّارات عن طريق البحر الأحمر إلى المملكة العربية السعودية لتُستخدم كزينة في المنازل، إذ يُخفونها في شحنات الخضراوات المجمدة التي تخرج من مصر عبر ميناء سفاجا. ويشتري السعوديون وحدهم 10 آلاف تمساح سنويًّا، إذا استطاعت عمليات التهريب توفير هذه الكميات الهائلة.

يهرِّب آخرون لحوم التماسيح إلى جنوب شرق آسيا وجنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا. وكذلك تُعد جلود التماسيح تجارة رابحة هناك. يسلخ الصيادون الجلود ثم ينقعونها في المياه المالحة، ويتركونها لتجف في الظلام، ثم تأتي مرحلة البيع بعد ذلك إلى تجار الجلود، خصوصًا أولئك في مدينة الخرطوم عاصمة السودان.

يتحدث أسعد إبراهيم، وهو صياد متقاعد يعمل حاليًّا في مهنة الخياطة، بشغف عن جلود التماسيح: «إنها فن حقيقي، تفسد لو لمستها أشعة الشمس». 

يفخر أسعد بأنه باع جلودًا ضخمة بلغ سعر القطعة منها 400 دولار. ينتهي الأمر بهذه الجلود غالبًا في الصين، وبمجرد معالجتها وتصنيعها، يمكن بيع محفظة النقود الواحدة المصنوعة من جلد التمساح بما يصل إلى 2500 دولار.

يشتهي بعض الناس تناول أعضاء التماسيح التناسلية، فيأكل بعض المصريين وسكان شرق إفريقيا قضبان التماسيح، التي يزيد سعر أكبرها حجمًا عن مئة دولار، مخلوطةً بالعسل والجنزبيل ظنًّا منهم أنها تحسن حياتهم الجنسية.

مصير مجهول

الصورة: banksadam

لم يقدِّم أي مسؤول خطة بديلة تتيح للسكان المتضررين من انهيار السياحة كسب الرزق بطرق أخرى بعيدًا عن التماسيح.

يتعلق مصير تماسيح النيل بتصرف السلطات. تعاني وحدة إدارة التماسيح من نقص التمويل، ولا يعمل بها سوى اثنين من الباحثين، لا يملكون حتى سلطة التواصل مع المراقبة الجوية، وهو أمر ضروري لمسح محيط بحيرة ناصر، الذي يمتد إلى ما يزيد عن ثلاثة أميال.

ينعدم التنسيق بين المسؤولين عن حماية الحياة البرية وعشرات الوزارات والهيئات المعنية بالحفاظ على البحيرة، حسبما يقول أحد موظفي وزارة الزراعة، فضَّل إخفاء هويته خوفًا من عواقب انتقاد الحكومة على الملأ. كذلك، تتراخى قبضة الدولة في تطبيق قوانين حماية الحياة البرية، حتى ظن بعض المشتغلين في تجارة التماسيح أنها مشروعة، خصوصًا بعد التغييرات في معاهدة «سايتس».

لم يقدم أي مسؤول خطة بديلة تتيح للسكان المتضررين من انهيار السياحة كسب الرزق بطرق أخرى بعيدًا عن التماسيح، خصوصًا مع ندرة الوظائف في هذه المناطق.

تشير التقديرات إلى أن عدد من يعتبرون هذا المجال مصدر رزقهم الأساسي نحو 30 إلى 40 ألف شخص، يكسبون أكثر من ألف دولار عن كل تمساح كبير الحجم، مما يصعِّب إمكانية إقناعم بالتخلي عن هذه الحرفة المربحة.

أعلنت وزارة البيئة في 2016 نيتها تربية التماسيح، بالتعاون مع الجيش، في مزرعة تبعد عن بحيرة ناصر ببضعة أميال، وأنه سيُسمَح بالإتجار في جلود بعضها كل عام في إطار قانوني. ونظرًا للثروة التي تدرها تجارة تماسيح النيل، من المتوقع أن تتولى السلطات والسكان على حد سواء مهمة حماية التماسيح، لما لها من قيمة ستهدَر إذا انقرضت من البحيرة.

ندى حنان