شبابيك الاستعمار: كيف تهيمن ماكينزي على صناعة القرار داخل السعودية؟

ترجمات
نشر في 2016/09/01

 يعدّ اقتراح الأمير محمد بن سلمان خصخصة عملاق النفط السعودي «أرامكو» أكبر خبر صحفي في التجارة العالمية هذا العام، المواطنون السعوديون، ناهيك بالمديرين التنفيذيين لشركة أرامكو، في حالة ذهول بعد الإعلان عن ذلك في يناير 2016، سادت حالة من الارتباك، مع نفي المسؤولين تارة وتأكيدهم تارة أخرى أنَّ أصول التنقيب والإنتاج، بما في ذلك آبار النفط الحيوية في البلاد، ستكون جزءًا من عملية الخصخصة.

وعلى هذا، نشرت مجلة جاكوبين تقريرًا من إعداد سالم سيف، بخصوص مدى تدخل المستشارين في عملية صنع القرار داخل المملكة، مع انتشار شركات الاستشارات في الخليج العربي كله.

وفي حوار مع موقع بلومبرغ في أبريل الماضي (في تجاوز لوسائل الإعلام السعودية)، حاول الأمير محمد بن سلمان ترويج الخطة، معللًا بأن عملية البيع ستساعد على إنشاء صندوق مالي سيادي قيمته تريليونا دولار كجزء من «الرؤية الاقتصادية 2030» لتنويع الاقتصاد وجعل الاستثمارات المصدر الرئيسي للإيرادات الحكومية بدلًا من النفط, وكشف أنَّ الخصخصة يمكن أن تحدث في أقرب وقت، بحلول عام 2017، مع طرح أوليّ لــ5% من أسهم الشركة.

الأمير، صاحب الثلاثين عامًا، هو الابن المفضل للملك السعودي ولديه خطط طموح للبلاد، لكن انهيار أسعار النفط في عام 2015 جعله يعاني نقصًا في الأموال، والحل الذي تبادر للأمير هو: بيع أصول الدولة.

«وزارة ماكينزي»

لا تعتبر خطة الملك سلمان للخصخصة استثنائية على المستوى العالمي، فعلى مدى عقود دفعت أعرق مؤسسات العالم الاقتصادية بقوة نحو الخصخصة في الواقع، يبدو أن خطة خصخصة أرامكو جاءت بإذن من «وزارة ماكينزي»، كما يصفها البيروقراطيون السعوديون بشكل ساخر، والتي تعتبر أشهر شركات الاستشارات المرموقة في العالم.

شركة ماكينزي من الشركات الجديدة نسبيًا في منطقة الخليج، ولكن تصاعد ظهورها في العقد الماضي جعلها تتربع على قمة السوق المحلي للاستشارات، كما هو الحال في باقي العالم, ومع ذلك كان مسار ماكينزي للهيمنة في منطقة الخليج مسارًا غريبًا, فقد تركت الشركة بصمتها من خلال وضع خطط كبرى و«رؤى اقتصادية» لكل بلد, تقدّم هذه الخطط الرئيسية برنامج عمل خاصا للدول لتحويل اقتصادياتها بالكامل، ووعود بنقلها من الاعتماد على النفط إلى «اقتصاديات غنية، متنوعة، وقائمة على المعرفة».

وضع خطط اقتصادية وطنية طويلة المدى، ممارسة معتادة في فن إدارة الدول، ولكن عادة ما يتم وضعها من جانب التكنوقراط الوطنيين والخبراء، بالتزامن مع الممثلين المنتخبين الذين من المفترض أن يمثلوا الشعب، وفي بعض البلدان سيئة الحظ، كما اكتشفت اليونان مؤخرا، قد تُجبر تلك الدول على قبول مثل هذه الخطط كجزء من «حِزمة شاملة» من قِبل مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

لا تواجه شركة ماكينزي مثل هذه القيود في منطقة الخليج، فالحكّام في المنطقة لا يدينون بالفضل للهيئات المنتخبة ولا لآراء التكنوقراط المحليين، ولكنهم بدلًا من ذلك، يدفعون مليارات الدولارات لتلقّي المشورة من الاستشاريين في مجال الإدارة العالمية (وهذه الشركات نادرًا ما تضم مواطنين) وقد أنفقت المملكة العربية السعودية وحدها أكثر من مليار دولار على المستشارين في عام 2015.

ماكينزي والربيع العربي

كانت البحرين حقل الاختبار الحقيقي «للرؤى الاقتصادية» التي تقدّمها شركة ماكينزي، وقد تعاونت الشركة مع الأمير الشاب وولي العهد «الطموح» في منتصف عام 2000 لوضع «رؤية البحرين الاقتصادية 2030»، والتي تم تقديمها كخطة لإصلاح البحرين وتحويلها إلى مجتمع «تنافسي»، وكانت مدينة أبو ظبي الغنية بالنفط وعاصمة دولة الإمارات العربية المتحدة، هي المدينة التالية التي صممت لها ماكينزي رؤية اقتصادية 2030.

لم تكتف شركة ماكينزي بالخليج فقط في العالم العربي، فقبل سقوط معمر القذافي كانت الشركة تعمل مع نجل الحاكم الليبي، الذي كان يوصف حينها بأنّه إصلاحيّ نافذ البصيرة، لإعادة تشكيل اقتصاد البلاد، أما في مصر فقد عملت الشركة على «إصلاح» عدة من القطاعات والوزارات في البلاد، وفي اليمن، طرحت الشركة عشرة أولويات للإصلاح الاقتصادي تحت رعاية أحمد علي عبد الله صالح، نجل الرئيس السابق.

هناك تشابه في نمط التعامل بين هذه الدول بحيث تتعاون الشركة مع ورثة العروش الشباب، الذين يتوقون لجعل اقتصاديات بلادهم تتفق مع رؤيتهم للمستقبل، لكن هناك عنصر مشترك آخر قد يكون أكثر مدعاة للقلق لشخص مثل الأمير محمد بن سلمان، وهو عدد الدول التي تبنّت رؤى شركة ماكينزي ثمّ أصبحت مركزًا لزلزال «الربيع العربي». البحرين، مصر، ليبيا، اليمن، كلها دول اهتزّت بالمظاهرات الشعبية، وغالبًا ما كانت المظالم الاقتصادية جزءًا رئيسيًا من الدوافع.

وعلى عكس الشركات الأخرى، لم تتأثر سُمعة ماكينزي من ارتباطها بهذه الخطط الكبرى الفاشلة، بل إنَّها تواصل الحصول على عقود مربحة في المنطقة، وفي المقابل، أعلنت شركة «مونيتور»، واحدة من أكبر شركات الاستشارات في العالم، إفلاسها في أعقاب الكشف عن علاقتها مع حكومة القذافي، واندلع جدل إعلامي واسع النطاق في المملكة المتحدة بشأن علاقات مماثلة لكلية لندن للاقتصاد London School of Economics مع النظام الليبي السابق.

خليج المستشارين

 لا يزال الخليج يفيض بالمستشارين من جميع الأنواع، وهناك مزحة شائعة تقول بأنَّ جميع الوظائف في الشركات والبيروقراطيات المملوكة للدولة أصبحت معهودة إلى الاستشاريين الأجانب بشكل أو بآخر.

كمثال، كانت شركة «بوز»، التي اشترتها مؤخرًا شركة «برايس ووترهاوس كوبرز»، على علاقة عمل وثيقة مع النخبة الحاكمة في دبي وقطر، فيما نفّذت «مؤسسة راند» نظام المدارس المستقلة على النمط الأمريكي، والذي دمر نظام المدارس الحكومية في الولايات المتحدة وسرّع نمو نظام القسائم «الكوبونات» في المدارس الخاصة. (وفي عام 2014، تولى الأمير الجديد الحكم وبشكل غير رسمي أطاح بمؤسسة راند خارج البلاد). كما تدفع الكويت عدة ملايين من الدولارات لشركة استشارات أنشأها توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق، لتضع رؤية اقتصادية للبلاد.

باختصار، كلّفت كل دولة من دول الخليج العربي شركة استشارية عالمية لوضع «رؤية اقتصادية» لإرشادهم إلى مستقبل ما بعد النفط.

هذه الرؤى الاقتصادية تبدو متشابهة بشكل ملحوظ، فهي تعد بتنويع الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد على النفط، ونمو الاقتصاد عن طريق تحويله إلى مركز لوجستي ومالي وسياحي، إذًا جوهر تلك الرؤى هي أن تصبح الدول مثل دبي بشكل أو بآخر.

الخصخصة والشركات العائلية

الطريق الدائم نحو النجاح، حسب هذه الرؤى، هو القطاع الخاص، ففي المقابلة نفسها التي أعلن فيها خصخصة شركة أرامكو، طرح الأمير محمد بن سلمان بعض الخطط لخصخصة البنية التحتية العامة، والتعليم، وحتى الرعاية الصحية.

هذا الافتتان بالخصخصة يبدو غريبًا، خصوصا في منطقة الخليج العربي، حيث يتكون القطاع الخاص بالأساس من الشركات «العائلية» التي تتركز أساسًا في أعمال التشييد والبناء، والتجزئة، والضيافة، والتي تعتمد على الدعم من قبل الدولة، وتعاني انخفاض الإنتاجية، وتعتمد بشكل كبير على عمالة وافدة تتقاضى أجورًا زهيدة وينتجون خدمات غير قابلة للتصدير.

في المقابل، فإن شركات المشروعات العامة، سواء أكانت مملوكة كليًا أو جزئيًا للحكومة، تميل إلى أن تكون الأكثر ديناميكية وإنتاجية وتطورًا من الناحية التكنولوجية.

كما تتميّز بحقوق موظفين تعتبر نسبيًا أفضل، ونسبة المواطنين بين عمّالها تعتبر أرفع، وترتكز هذه الشركات ذات النفوذ العام في قطاع النفط والخدمات اللوجستية والنقل الجوي والقطاع المصرفي، وهي أكثر الشركات تصديرًا والمعترف بها دوليًا في المنطقة.

وهذا لا يعني أنَّ هذه الشركات المدارة أساسًا من قبل القطاع العام لم تشهد إخفاقات ملحوظة، فسجلّها متذبذب، ولكن عند مقارنتها مع القطاع الخاص «العائلي»، فإن الأخير في حاجة إلى جرعة أقوى بكثير من الإصلاح.

ومع ذلك، فإنَّ التركيز على «الخصخصة» لم يكن مفاجئًا، نظرًا لطبيعة شركات الاستشارات الإدارية مثل ماكينزي التي تركّز على «القيمة» المالية للشركات باعتبارها المقياس المطلق، فهذه الرؤى التي تقدّمها شركة ماكينزي قد تكون استراتيجية ذكية من وجهة نظر مُلّاك الشركات، ولكنها لا تبدو منطقية عندما يكون الهدف إعادة تشكيل وإصلاح اقتصاد البلاد ككل، لكن في عصر النيوليبرالية، حيث لا بُدّ من وضع قيمة مالية على كل شيء وشخص، فهذا لا يبدو مفاجئًا.

إدمان المستشارين: التاريخ يُعيد نفسه

في حين أنه من السهل ربط عمليات الشركات الاستشارية مثل ماكينزي بالنيوليبرالية والتمويل financialization، فإن إدمان دول الخليج المستشارين الغربيين يمتد لمدة قرن من الزمن تقريبًا، ففي الواقع، قصة الشاب المتحمس للوصول إلى العرش، الذي يتعاون مع الخبراء الغربيين من أجل «تنويع» اقتصاد بلاده بعيدًا عن النفط، قصة متكررة في الخليج، بحيث يقوم التاريخ بإعادة إنتاج نفسه، كل مرة في حُلّة جديدة.

بدأت القصة مع بريطانيا الاستعمارية في البحرين في عام 1923، بعد عزل الحاكم المحلي (الشيخ عيسى آل خليفة) والاستعاضة عنه بابنه (الشيخ حمد)، جلب البريطانيون «مستشارًا» اسمه تشارلز بلجريف، للمساعدة في تحقيق «استقرار البلاد» في ظلّ القيادة الجديدة.

لمدة ثلاثين عامًا، تصرّف بلجريف كرئيس وزراء البلاد، وأدار كل شيء من الشؤون المالية في البحرين إلى نظام الشرطة، وبرّر البريطانيون هيمنتهم عن طريق الإعلان عن المكاسب الاقتصادية والمادية التي أنتجها النظام الاستبداديّ البيروقراطي الجديد.

كانت هناك مكاسب مادية كبيرة، فقد خلق النفط المكتشف حديثًا في البحرين ثروة كبيرة، جنبًا إلى جنب مع الإصلاح البيروقراطي المستمر، والذي تمّ من خلاله منح مناصب الحكومية العليا لضباط بريطانيين وأعضاء من الأسرة الحاكمة، وسرعان ما أصبحت البحرين وبلجريف قدوة للمنطقة يحتذى بها من وجهة نظر بريطانيا، فقد تلقى بلجريف تعليمه في جامعة أكسفورد وجامعة لندن، وجسّد المثال الحي للمستشار الاستعماري البريطاني الذي ظهر في أوائل القرن العشرين في ظلّ نظام «الحكم الاستعماري غير المباشر»، والذي طبق في عدة دول.

بعدها جاء الدور على الكويت، حيث اكتشفت احتياطيات نفطية ضخمة تعدت تلك من البحرين عشرات المرات، فجلب البريطانيون جنرالا عسكريا من أجل الإشراف على «دائرة التنمية»، ثمّ وصل كولونيل آخر من أجل التحكم في دائرة الموارد المالية.

لكنَّ أمير الكويت الشيخ عبد الله السالم، لم يرضخ كليًا كما كان الحال مع حاكم البحرين، وبمساعدة من القوى المحلية والإقليمية في ذلك الوقت، استطاع أن يمنع الهيمنة البريطانية الكاملة، حيث ملأ الأمير البيروقراطية المحلية في الكويت بمزيج من أعضاء العائلة الحاكمة والشخصيات المحلية البارزة، والتكنوقراط من الدول العربية المجاورة، خصوصا فلسطين وسوريا.

واعتمد الملك عبد العزيز، أول حاكم للمملكة العربية السعودية (والتي على عكس كل الدولة العربية الأخرى لم تكن مستعمَرة من قِبل الغرب) نهجًا مماثلًا، فجمع الملك بين مزيج انتقائي من البيروقراطيين من بينهم المصري حافظ وهبة، أحد أعلام حركة النهضة، وسانت جون فيلبي، البريطاني الاستشراقي الذي اشتهر بانشقاقه عن الأجهزة البريطانية للعمل مع الملك ومن ثمّ اعتناق الإسلام.

من خبراء الاستعمار إلى خبراء التنمية

بدءًا بالخمسينيات، خف بريق «خبراء» الاستعمار البريطاني، واتجه الهاجس في فترة الاستقلال وما بعد الاستعمار إلى هموم «التنمية»، حيث أصبحت «التنمية» هاجسًا جديدًا بين الدول الغربية والمؤسسات المتحالفة معها بشأن التحسين المادي «للدول النامية» المستقلة حديثًا، إذ تحوّل الطلب إلى خبراء «التنمية» لا سيّما من الولايات المتحدة.

في مقدمتهم كان خبراء الاقتصاد، فبدلًا من وكلاء الاستعمار نشطت مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لتنفيذ رؤية حداثية لإعادة التنظيم المجتمعي، عكست ما يعتبره «الخبير الأجنبي» الأفضل للشعوب التي تقع تحت رقابته، ولذلك بعد أن كادت أزمة مالية تطيح بالاقتصاد السعودي عام 1957، استقطب الملك سعود الاستشاريين من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لإعادة تنظيم المؤسسات النقدية والمالية في البلاد، وفي سياق مماثل بعد عقد من الزمن، كلّفت الحكومة السعودية مجموعة من الخبراء الاقتصاديين من جامعة ستانفورد وضع الخطة الاقتصادية الخمسية الأولى للبلاد (وفي الوقت نفسه تم تكليف فريق من جامعة هارفارد لتقييم عمل فريق جامعة ستانفورد!).

مؤسسة فورد، والأمم المتحدة، ومنظمة العمل الدولية وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وجيش كبير من التكنوقراط الدوليين، جميعهم ركبوا على متن الطائرات الهابطة في مطارات الخليج الحديث.

التكنوقراط الوطنيون

ورغم حضور المستشارين الدوليين، شهدت سنوات ما بعد الاستعمار عملية «تأميم» تدريجي للتخطيط الاقتصادي للدولة، فأنشئت «الهيئة المركزية للتخطيط» بالمملكة العربية السعودية عام 1968 لتجسد هذه العملية، وظهر اتجاه مماثل في جميع دول الخليج.

ظلّت عملية صنع القرار النهائي حكرًا على العائلة الحاكمة، لكن ظهرت طبقة من التكنوقراط المواطنين ذوي التعليم العالي، والحس المعني بـ«تنمية» البلد، والذين شقّوا طريقهم إلى مؤسسات الدولة، وفي بعض الأحيان كان هؤلاء أعضاء سابقين في الأحزاب الثورية، ففي البحرين، كمثال، في مرحلة ما بعد الاستقلال في فترة السبعينيات، ترددت شائعات بأنَّ حكومة البحرين الأولى بعد الاستقلال كان من ضمن وزرائها سبعة أعضاء سابقين بحزب البعث، وعلى نفس المنوال، تضمن مجلس الوزراء السعودي عام 1961 عددًا من القوميين واليساريين العرب، وساد مزيج من التنمويّة، والقومية، والولاء للعائلة المالكة بين هذا الكادر التكنوقراطي الوطني الجديد.

وإذا ما رأينا الخطاب الذي كانت تتبناه خطط التنمية التي وُضعت واعتمدت منذ الستينيات وحتى الثمانينيات، فهي مختلفة جذريًا عن «الرؤى الاقتصادية» النيوليبرالية التي تتبناها الدول وشركة ماكينزي اليوم.

فقد عكست لغة الخطط روح العصر حينها، وكانت مليئة بإشارات إلى «التنمية»، و«العالم العربي»، و«الوحدة»، و«التصنيع». مدى انعكاس هذا الخطاب في الواقع هو محط جدل، ولكن ما ليس فيه لبس أن الطرح كان مختلفًا بشكل ملحوظ عن شعارات اليوم، مثل: «التنافسية»، «النمو»، «الخصخصة»، والتمويل financialization.

الشيخ الأحمر

ربما الأكثر شهرة وراديكالية بين هؤلاء التكنوقراط، كان عبد الله الطريقي، أو «الشيخ الأحمر»، كما كان يطلق عليه الأمريكيون الذين كانوا يستخفّون بميوله اليسارية، ولم يكن الطريقي شخصية مؤثرة في العالم العربي والسعودي فحسب، ولكن في العالم الثالث ككل.

فخلال الفترة التي قضاها وزيرا للنفط السعودي في الخمسينيات والستينيات، كان الطريقي المحرك الرئيسي مع وزير النفط الفنزويلي خوان ألفونسو في تشكيل منظمة أوبك، كما كان واحدا من الأنصار الأكثر حماسة وقوة لتأميم أصول النفط في العالم النامي، واشتهر بشعاره «نفط العرب للعرب».

في ذلك الوقت، كانت شركة أرامكو مملوكة للشركات الأمريكية العملاقة «سوكال» و«تكساكو» و«اكسون» و«موبيل». مهّد عبد الله الطريقي الطريق أمام الدول الوطنية، بدلًا من شركات النفط الخاصة العملاقة متعددة الجنسيات، للسيطرة على إنتاج النفط، ولذلك كان يكرهه الدبلوماسيون الأمريكيون، وشركات النفط متعددة الجنسيات، والمحافظون في العائلة الحاكمة، وفي نهاية المطاف تعاونوا معًا لضمان إقالته مع زملائه التقدميين الآخرين أو تهميشهم.

وبعد الإطاحة بالطريقي أوائل الستينيات، بدأ الحكّام السعوديون باختيار تكنوقراط أكثر انصياعًا للأوامر الملكية، حيث قاد هذا التكنوقراط الوطني، بمساعدة المستشارين الغربيين، التحول الاقتصادي في الخليج تحت إمرة العائلة الحاكمة.

نشوء البيروقراطية الحديثة

كان هذا النظام استبداديًا وغير خاضع للمساءلة، وارتكب العديد من أخطاء «الحداثة» التي حدثت في أي مكان آخر في العالم، مثل برنامج تصدير القمح الكارثي الذي استنزف كل مخزونات المياه العذبة في البلاد. 

ومع ذلك، أنتج هذا النظام أيضا بيروقراطية الدولة الحديثة في منطقة الخليج ودولة الرفاه التي وسّعت نطاق الرعاية الصحية والتعليم والإسكان والبنية التحتية والكهرباء والمياه لعامة الناس، هذه الإنجازات التي عادة ما تُهمل في كثير من المناقشات في هذه الفترة، ينبغي الاعتراف بها أيضا وتقييمها إلى جانب الإخفاقات الكبرى للتخطيط التنمويّ الدولتي.

من جانب بريطانيا الاستعمارية، تقلّصت مشاركتها في الأجزاء الشمالية من الخليج، وحوّلت تركيزها إلى جنوب الخليج، خصوصا دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان.

وفي غضون خمس سنوات، أطاح البريطانيون بثلاثة حكّام في جنوب الخليج (الشارقة في عام 1965، أبو ظبي في عام 1966، وعُمان في عام 1970). كانت أسبابهم أنَّ هذه الأنظمة القديمة عفا عليها الزمن في عصر التحديث الاقتصادي. ولذا كان يجب إعادة تنظيم الحكم الداخلي لدعم «التنمية».

جسّد بيل داف هذا التحديث عقودًا من الزمن، كان فيها بيل الذراع الأيمن لحاكم دبي، وساعد في تحويل دبي من موقع صحراوي إلى مدينة عالمية، وفي الوقت نفسه في عُمان، أدارت مجموعة كبيرة من «المستشارين» البلاد بعد عزل حاكمها واستبداله بابنه في عام 1970، وأشهر هؤلاء المستشارين كان تيموثي أشوورث، وتيم لاندون، وديفيد بايلي، وجميعهم جاؤوا من خلفية عسكرية، وشاركوا على نطاق واسع في إنشاء بيروقراطية الدولة العُمانية الحديثة.

غياب دور المواطنين

القاسم المشترك بين جميع هذه الرؤى الاقتصادية، سواء التنمويّة أو النيوليبرالية، الغياب شبه الكامل لمشاركة المواطنين وهذا أمر مألوف في دول الخليج.

يعاني سكّان المنطقة من ازدراء مزدوج، إذ يرى حكامهم أنهم لا يستحقون لعب أي دور في صنع القرار، في المقابل فإن الكثير في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك «التقدميين»، يميلون إلى ازدرائهم أيضا، ووصفهم بأنّهم قطيع في دول غنية قمعية ونادرًا ما يؤخذون على محمل الجد من أي جهة.

ولكن مواطني السعودية بدأوا بكسر هذه الصورة المختزلة، وجزء كبير من ذلك يعود إلى التراكم الكبير في المعرفة، فمنذ عام 2005 إلى عام 2014، ارتفع عدد خريجي مؤسسات التعليم العالي في الدولة من 432 ألف إلى ما يقرب من 1.5 مليون.

كما بلغ عدد الطلاب السعوديين الذين يدرسون في الخارج 130 ألف طالب في عام 2014 (نصفهم في الولايات المتحدة). وما يقرب من 32% من السعوديين العاملين من حملة الشهادات الجامعية، وهذه نسبة تعادل نظرائهم في دول أوروبا والولايات المتحدة، ويُعدّ سوق الكتاب السعودي هو الأكبر والأكثر ربحًا، إلى الآن، في العالم العربي.

هذه الفئة المتزايدة من المواطنين المتعلمين توجد بشكل متزايد أيضًا على الإنترنت، وتناقش بقوة الموضوعات الوطنية والإقليمية بشكل غير مسبوق على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أثبتت رقابة الدولة التقليدية عدم فاعليتها.

البلاد لديها أكبر عدد من مستخدمي تويتر النشطين في العالم العربي: 2.4 مليون مستخدم في عام 2014، وهو أكثر من ضعف عدد المستخدمين في مصر التي يبلغ عدد سكّانها ثلاثة أضعاف سكّان المملكة، ومما لا يثير الدهشة، أنَّ جيل الألفية، الذي يشكّل أكثر من نصف سكّان المملكة، هو الذي يقود تلك الطفرة في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.

لهذا السبب، جاء قرار نائب ولي العهد بوضع خطة سريّة مع المستشارين الأجانب في مجال الإدارة، وإعلانها للعالم في أثناء حوار بلومبرغ، كخبر الصاعقة في المجتمع المحلي، ففي الماضي، كان من الممكن التحايل على المجتمع المحلي بل والتغاضي عنه في قرارات من هذا النوع، ولكن اليوم تحوّلت المملكة العربية السعودية إلى مجتمع نشط ومليء بالنقاش والحراك، والسؤال الجوهري هنا: ما الشكّل الذي سيأخذه هذا الحراك في المستقبل؟

من الصعب الإجابة عن هذا السؤال، لأنَّ خطة الأمير محمد بن سلمان لخصخصة أرامكو كانت صادمة حقًا، فمنذ بدء تدفق آبار النفط في فترة الثلاثينيات، أدرك حكام السعودية بأن أرامكو هي البقرة الحلوب التي تضمن لهم بقاء العرش، لذلك أعطوها هامشًا واسعًا من الاستقلالية في العمل دون تدخل في شؤون ادارتها الداخلية من قبل العائلة الحاكمة.

شكوك وقلق في أرامكو

ازداد الاعتماد على شركة أرامكو مع مرور الوقت، وأصبحت منذ تأميمها في فترة الثمانينيات الحاضنة الرئيسية لشريحة كبيرة من التكنوقراط داخل المملكة، حيث اشتهرت أرامكو بأنها الشركة السعودية الأنجح على مستوى الإدارة، والوجهة الأولى لأوائل الخريجين، كما استخدمتها الحكومة السعودية لتنفيذ المشاريع الوطنية الرائدة، بما في ذلك بناء الملاعب والجامعات المتطورة والمدن الصناعية.

واذا ما قورنت هذه الريادة في الشركة بالضعف والفساد المتفشي في باقي الوزارات الحكومية، فإنَّ التركيز الحالي على إعادة هيكلة شركة تعتبر الأكثر كفاءة من حيث الإدارة يبدو محيرًا وخطيرًا للغاية.

لذلك، فقد كان من الصعب على الكثير من التكنوقراط بشركة أرامكو تقبل الإعلانات الأخيرة، بل إن هناك بعض المسؤولين البارزين السابقين الذين أعربوا على الملأ عن شكوكهم، وهي واقعة غير مسبوقة في تاريخ المملكة.

وعموما، نادرًا ما يكون الاستشاريون من على شاكلة مكنزي في موقع ترحيب من قبل موظفي الشركة التي يأتون «لإصلاحها»، وفي حالة أرامكو فإن أسباب الريبة والشك مضاعفة، فالمقترحات المطروحة تشير إلى السيطرة على شركة أرامكو من ثالوث مكون من أعضاء العائلة المالكة، والمستشارين في مجال الإدارة، والمصرفيين، إذ يبدو أنَّ منطق خطة الأمير لتنويع الاقتصاد هو: بيع أصول النفط مقابل مبالغ نقدية، واستثمار هذا النقد الورقي في مغامرات وتقلبات الأسواق المالية العالمية. وهذا بالفعل سبب وجيه لقلق العديد من التكنوقراط بشركة أرامكو.

أهواء الأمير الشاب مغامرة خطيرة

ينبغي ألّا يطمئن بقية السكان تجاه هذه الخطة الجديدة، فدول الخليج، من بينها المملكة العربية السعودية، مليئة بالعشرات من «المشاريع والمدن الكبرى» الفاشلة، والذي كان حلف المصرفيين وشركات الاستشارات هو المُخَطِّط والدينامو الرئيسي لها، ولكن تبيّن أنها مجرد إخفاقات هائلة في خضم الأزمة المالية العالمية الأخيرة.

وعلاوة على ذلك، لا توجد رؤية واضحة عن الصناعات التصديرية التي ستؤسسها المملكة لتحل محل الاعتماد شبه الكامل على النفط والصناعات البتروكيماوية، هذه الصناعات القابلة للتصدير، المقياس النهائي لصحة أي اقتصاد رأسمالي في هذا العالَم، وكما أظهرت الأزمة المالية العالمية الأخيرة، فإنَّ الصناديق الاستثمارية المالية، والتي من الممكن أن تهبط أو تختفي في أي لحظة من تقلبات السوق، لا يمكن ان تكون بديلًا لها.

لقد تم وضع السياسات المعلنة حاليًا على أساس أهواء أمير شاب عديم الخبرة وفيلق من المستشارين الغربيين ومضاربي الاستثمار، والخطورة في هذا تتمركز في أنه سوف سيضيع الإنجاز الاقتصادي الأهم في العالم العربي التي تحقق على مدار نصف القرن الماضي على يد الطريقي وحلفائه: تأميم شركة نفط تسيطر على الإنتاج من أكبر احتياطي من النفط في العالم.

يبدو أنَّ الأمير وشركة ماكينزي يعتقدان أنَّ بيع هذه الأصول الوطنية من أجل المقامرة في الأسواق المالية العالمية، استراتيجية أكثر فاعلية لتحقيق الازدهار الاقتصادي.

دعونا نأمل أن يتكاتف أبناء البلد ضد هذه الخطيئة.

المصدر

ترجمات