الخليج: استعصاء الديمقراطية أم استعصاء المجتمعات؟
الجدل حول علاقة التنمية بالديمقراطية ليس موضوعًا طارئًا، إذ طالما أثيرت أسئلة حول ارتباطهما ببعضهما. وفي دول الخليج العربي مع قلة النماذج الديمقراطية، فإن السؤال يوضع في سياقات لصالح الأنظمة التي تمسك مركزيًا بالسلطة، والتي تخضع للمقارنة داخل منظومة دول الخليج بين دول أكثر نماء من أخرى. في بداية هذه المقالة سنتطرق إلى التنظير حول هذه الثنائية، قبل أن نفحص حالة دول الخليج العربي تفصيلًا.
في كتابه الموسوم «الديمقراطية ونقادها»، يحاول روبير دال عالم السياسة ومُنظر السياسة التعددية فهم الظروف التي تسهم تاريخيًا في نمو وتطور أنظمة الحكم البولياركية – التعددية، ويقصد بهذه الأنظمة تلك التي تتسم بحكم الكثرة أو التعدد في السلطات، عبر مناقشة العلاقة بين «الديمقراطية والتنمية» في هذه الأنظمة. ويركز تساؤلاته في معرض ذلك على مشهد ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذي شهد تحقيق عدد من الدول مستوى ثان من الحكم البولياركي، إذ قفز عددها حول العالم إلى قرابة 40 دولة.
وفي المقابل في الفترة ذاتها، شهدت دول من قبيل تشيكوسلوفاكيا وبولندا والمجر في الأربعينيات، والبرازيل والإكوادور وبيرو في الستينيات، وتلتها مجموعة دول في السبعينيات والثمانينيات، تعطلًا للديمقراطية واستيلاءً على السلطة من قبل عناصر مستبدة.
هنا يقف دال على مجموعة من الشروط التي تسهم في تمايز التجارب الديمقراطية وصعود تجارب بعينها دون أخرى، رغم اشتراك تلك التجارب في الإرث الثقافي أو البعد التاريخي أو القرب الجغرافي.
والشروط التي يحددها هذا النموذج تكمن في أن نجاح العملية الديمقراطية يتمثل في قدرة المؤسسات الديمقراطية على التركيز والسيطرة على القهر العنيف، بالإضافة إلى القدرة على إقامة المجتمع الحديث التعددي التنظيم، وضرورة وجود المجتمع القادر على تفريق الموارد السياسية كالمال والمعرفة والمراتب، وإمكانية الدخول إلى المنظمات، وتفريق الأماكن الاستراتيجية وخاصة في شؤون الاقتصاد والعلم والتعليم، وتفريق المناصب التساومية (مفاصل إدارة الدولة والحكم) المعلنة والخفية معًا في الشؤون الاقتصادية والعلوم والمواصلات والتعليم.
من الشروط التي يؤكدها النموذج مسألة الديمقراطية التكافلية، وهي القائمة على تحقيق الإجماع في حل النزاعات، من خلال تحقيق الاتفاق بين زعماء الثقافات الثانوية الكبرى ومنع انشطارات الثقافات الثانوية.
ويؤكد كذلك دور المعتقدات والمواقف والاستعداد الطبيعي لتكوين ثقافة سياسية وثقافات سياسية ثانوية، يجري من خلالها تكييف الناشطين والمواطنين وفقًا للحاجات الاجتماعية وعلى درجات متباينة، فرسوخ الثقافة السياسية عامل أساسي يدفع بالدولة البولياركية لاجتياز أزماتها بسلاسة.
هذه الاعتبارات التي تحدث عنها دال يمكن أن نسميها المناخ العام أو الأدوات التي من خلالها يمكن لأي تجربة ديمقراطية أن تزدهر، وتساعد على تحقيق مقاصد الديمقراطية القائمة على استقلال السلطات وفاعلية المؤسسات السياسية والمشاركة السياسية الكاملة، وصولًا للعدالة الاجتماعية والمساواة.
الديمقراطية في الخليج
يقودنا هذا التحليل إلى الوقوف على مشهد الديمقراطية في الخليج العربي، وحالات الجدل التي تجري حول مسألة أزمة الديمقراطية في الخليج، وتحديدًا في الكويت، باعتبارها التجربة المؤسسية الديمقراطية الأبعد تجذرًا في التاريخ السياسي الحديث مقارنة بأقرانها من الدول الخليجية.
الديمقراطية نفسها دائمًا ما تكون عرضة لخطر تضييق المشاركة ولصيغ جديدة من التفاوت السياسي، وتاريخها إنما هو تاريخ صعود وهبوط وانتصارات وهزائم.
يشير البعض عنوة إلى أن المشهد الديمقراطي أصبح معطلًا للتنمية والإصلاح الإداري والاقتصادي، ويقول البعض إن نجاح التنمويات الصاعدة لدول الخليج الأخرى يكمن في أن أنظمتها احتفظت بمركزية صنع السياسات العامة، وحيدت دور المشاركة السياسية في أطر ضيقة، وحددت بشكل ضيق دور التكوينات السياسية في عملية صنع التشريعات ورسم السياسات العامة وتداولية السلطة في مختلف مواقعها ورتبها.
ورغم أن المقاربة على المستوى المنهجي غير صائبة طالما لم تأخذ في الاعتبار كل العوامل الداخلية والخارجية، التاريخية والمعاصرة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تسهم في بروز تجربة التنمويات الخليجية الصاعدة، في مقابل تضييق مساحة المشاركة السياسية.
مقارنة بحالة الكويت بامتداد وتجذر تجربتها الديمقراطية والتحولات التي خاضتها تلك التجربة، فذلك ما يدفعنا في هذه المقاربة ليس إلى التتبع التاريخي لتلك التجربة والمحطات التي عبرت بها، بالقدر الذي نحاول فيه تشخيص العوامل التي أسهمت في بعض العطب والخلل الذي طالها مقارنة بتجارب الدول الخليجية الأخرى في المنطقة، وكيف يمكن فهم ثنائية الديمقراطية والتنمية بعيدًا عن المعايير التقليدية التي حُصرت فيها هذه القضية.
لكن هناك محاولات عربية تطرقت إلى محاولة مقاربة هذه الثنائية ويمكن الإشارة إليها على سبيل الأدبيات، من قبيل محاولة عصام فاهم العامري في دراسته حول «المأزق العالمي للديمقراطي: بلوغ نقطة التحول»، والتي ينطلق فيها من مقاربة أن «الأنظمة الديمقراطية هي في المتوسط أكثر ثراء من الأنظمة غير الديمقراطية وأقل عرضة لخوض الحرب، وتتسم بسجل أفضل في مكافحة الفساد، والأهم من ذلك هو أن الديمقراطية – كنظام حكم – تتيح للناس التعبير عن أفكارهم، وصوغ مستقبلهم ومستقبل أبنائهم بطريقة أفضل مما يتيحه سواها من أساليب الحكم».
وهو ينطلق من هذه المسلمة لمحاولة فهم المأزق العالمي للسياسات الديمقراطية، الحاصل بسبب التحولات العالمية الكبرى والمطالبة الشعبية بالديمقراطية الآخذة في التراجع وفق مؤشرات القياس المعتمدة لها.
ينقل العامري عن تشارلز تيلي فكرة أن الديمقراطية نفسها دائمًا ما تكون عرضة لخطر تضييق المشاركة ولصيغ جديدة من التفاوت السياسي، وأن تاريخها إنما هو تاريخ صعود وهبوط وانتصارات وهزائم، وهذا يقودنا إلى مسألتين أساسيتين في مناقشة المسألة الديمقراطية في منطقة الخليج العربي.
تتعلق المسألة الأولى بطول النفس لدى هذه المجتمعات على تمرس العمل الديمقراطي، ومدى وجود أمد زمني وتاريخي كافٍ للحكم على أن هذه المجتمعات قد عاشت طقوس الديمقراطية وتقلباتها بطريقة كافية تمكنها من التعاطي مع أزماتها وتحولاتها، ومآزقها، وموتها وحياتها وإعادة بعثها من جديد، سواء كان عبر المؤسسات السياسية وتطوير هياكل هذه المؤسسات والمبادئ الدستورية التي تقوم عليها، أو عبر بنية الثقافة السياسية ومدى استنبات ثقافة الديمقراطية في صلب الثقافة الاجتماعية وتضمينها عبر الأجيال، وعبر مساحات العمل المدني، وعبر وجود الإرادة السياسية لهذا الإمكان، وعبر تقليص نمط الديمقراطية الشكلانية عبر ما يسميه ناثان جيه بروان «الخطوط الحمراء في الأضواء الكهرمانية».
إذ يقول إنه «غالبًا ما يتحدث سكان المجتمعات العربية المختلفة عن "الخطوط الحمراء" في أنظمتهم السياسية، وهي مناطق تنتهي فيها حرية الكلام والعمل ويواجه فيها المخالفون إجراءات قاسية. من المؤكد أن هذه الخطوط الحمراء كانت موجودة في الكويت في الماضي، ولكن على مدى العقدين الماضيين تحولت ببطء إلى "أضواء كهرمانية"، وهي مناطق ربما يسير فيها الكويتيون بحذر، لكنهم لم يعودوا مرعوبين. وقد أسهم ذلك في تنامي الشعور بعدم اليقين في الكويت اليوم».
الديمقراطية العصية في الخليج
أما المسألة الأخرى فهي مرتبطة بفكرة «الاستعصاء»، التي يدافع عنها غالبًا عالم الاجتماع باقر النجار، ويسوقها في كتابه «الديمقراطية العصية في الخليج العربي» تفصيلًا.
فهو يرى أن فكرة الاستعصاء إنما هي مرتبطة بشكل أساسي بحداثة تشكل الدولة في الخليج، وهيمنة حضور القبيلة، ونجاح النظام الخليجي عمومًا في تقديم الخدمات والمكرمات والامتياز دون الولوج إلى إصلاح سياسي خليجي، وغياب طبقة وسطى فاعلة تحمل في طياتها قيم الحداثة والديمقراطية وتتجاوز إشكالية البنى والهياكل السياسية القائمة على القيم التقليدية، وتقليص دور الحركات الأيديولوجية في السيطرة على المجتمع المدني، بالإضافة إلى سيطرة الأجندات الخارجية والاضطرار إلى التكيف الشكلاني والعابر مع هذه الأجندة.
يفرز هذا حالة ما يسميه شفيق الغبرا بالديمقراطية الجزئية، والتي يتناولها في إطار الحالة الكويتية بالقول إن «الديمقراطية الجزئية في الكويت تولد الأزمات. المشكلة الأساسية هي أنه باستثناء تطبيق حق التصويت للمرأة في عام 2006، لم تطور الكويت تقاليدها الديمقراطية منذ عام 1962، كما أنها لم تعدل الدستور لتطوير ديمقراطيتها. أدى هذا الركود إلى ظهور خلافات لا يمكن حلها إلا من خلال التنمية السياسية. لقد تطور المجتمع وتغير، لكن الهياكل السياسية الحاكمة لم تتغير».
وهو يحدد جملة من العثرات الهيكلية التي تقف عائقًا بنيويًا أمام هذه التجربة من النمو ومواصلة شق الطريق أمام النجاح والتبلور، ومنها:
- الهياكل الاقتصادية التي تهيمن عليها الحكومة.
- تحول القبائل إلى قاعدة للمعارضة السياسية، والاحتجاج الشعبي، والنشاط الاجتماعي.
- هيمنة نخبة اجتماعية واقتصادية حضرية على المشهد السياسي في الكويت، مما أدى بشكل متزايد إلى تقييد فرص الصعود والمشاركة السياسية والمساواة لكتلة أكبر من السكان.
هل ديمقراطية الكويت سبب في مشاكلها؟
إذًا، هل يمكن لنا أن نسلم بالتحليل الظاهري بأن «ديمقراطية الكويت قد تكون أفقًا لعطبها التنموي ولأفق الإصلاح السياسي والاقتصادي فيها»، في مقابل أن «محدودية المشاركة السياسية في دول الخليج الأخرى أساس لتطور تجاربها التنموية وانطلاقها الاقتصادي»؟ في تقديرنا أن هذه المسلمات يجب أن تواجَه بسبعة أسئلة أساسية يمكن أن نسميها «أسئلة استعصاء الديمقراطية»، وهي على النحو الآتي:
- القدرة على صوغ أنظمة انتخابية قائمة على العدالة الاجتماعية، وغير فئوية، ومحققة لكل اعتبارات المساواة بين أطياف المجتمع.
- القدرة على تجاوز فكرة «ديمقراطية الخدمات» إلى «استحقاق الديمقراطية»، خاصة في ظل التحول من نظم الرعاية الكاملة إلى نظام المشاركة والتخصيص.
- بناء المجتمع المدني وفق مبادئ الممارسة المدنية الحرة والتعددية، بعيدًا عن الاستناد إلى المعطى القبلي أو الطائفي أو المذهبي أو العرقي.
- ترسُّخ القيم المدنية في المجتمعات عبر اكتمال منظومة المواطنة بكل أشكالها، ووجود مساحات الفعل المدني الحر دون التوجس المبالغ فيه من حدوده.
- القدرة على الإجابة على سؤال موت الديمقراطية من خلال الأخذ في الاعتبار مجددات حيويتها، وأهمها تجاوز حقبة «الديمقراطية المجلسية» كما يسميها جون كين إلى حياة ديمقراطية، ومن ديمقراطية مختزلة في الصناديق إلى ديمقراطية تحقق تعادل السلطات.
- إعادة التفكير في تجسيد الطبقة الوسطى في المجتمعات الخليجية عمومًا لقيم الديمقراطية، فتاريخيًا كانت هذه الطبقة هي حامل الديمقراطية وضمان استدامتها، عبر عمليات الوعي ومواصلة التثاقف والتعلم وحفز الضمير الجمعي وإنشاط المجال التداولي والمجتمع المدني.
- القدرة على التخلص من ثنائيتي «الديمقراطية على المقاس» المحمولة على شعارات الخصوصية والتقاليد، وكذلك «الديمقراطية المستجيبة والمتكيفة» التي تؤسَّس تقاليدها امتثالًا لضغوط من الخارج أو لمواكبة النسق العالمي والبحث عن موقع على خارطة التموضع السياسي الدولي، إلى فكرة بلورة دولة المؤسسات والقانون بكل معطياتها وبالفصل بين سلطاتها، الأمر الذي من شأنه إنضاج الديمقراطية في ذاتها واعتباراتها وقيمها وتداولاتها الأساسية.
أميل إلى الاتفاق مع ما ذكره أستاذ علم الاجتماع محمد الرميحي في مقالته «هل تموت الديمقراطية في الكويت؟»، حين قال: «في النهاية الديمقراطية هي الخلاص، وإصلاح آلياتها، كخطوات سياسية لامتصاص التغيرات الاجتماعية، ومعالجة نواقص قانون الانتخاب القائم، لأن نواقصه تجلت بعد التجربة».
نحو مشهد سياسي ديمقراطي خليجيًا
لا يمكن إصلاح المشهد السياسي في الخليج وتحقيق الإرادة في التحول نحو فتح مزيد من فرص المشاركة السياسية من خلال القفز على الحقائق أو المقاربات غير المنهجية، فمعادلة الإصلاح السياسي إنما هي في حقيقتها محاولة إصلاح اجتماعي بالضرورة، ترتكز على نقل المجتمعات إلى أفق أوسع من التمرس في القيم المدنية وامتثالها، وانخراط أكبر في الضمير المجتمعي والسياسي الذي يشكل دعامة حقيقة لعمل الدولة، وإيمان بضرورة الحوار القائم على فكرة المواطنة، والاستحقاق القائم على فكرة المواطنة، وكذلك التمكين القائم على فكرة المواطنة، بعيدًا عن أي معادلات أخرى جانبية أو تمييزية أو فئوية، واستدراك الأهمية القصوى لعدم تأسيس أي مظاهر ديمقراطية شكلانية، لأنها سرعان ما تصطدم بطبيعة الفهم السائد والوعي والتوقعات والنباهة الاجتماعية.
وهذا نقاش يقودنا إلى فكرة شرعية المؤسسات السياسية في دول الخليج، والتحديات التي قد تعترض هذه الشرعية، وكيف يمكن أن تخلق نماذج قائمة على المشاركة (غير الموسمية) إلى المشاركة المجتمعية والسياسية الدائمة في صنع السياسات العامة، سواء عبر المؤسسات التشريعية والرقابية أو عبر مختلف أجهزة الدولة، وأن يحوز فيها فضاء التداول السياسي حيزًا معتبرًا في الدساتير والقوانين والتشريعات القائمة.
عوضًا عن ضرورة أن تتسق كل المنظومات لبناء قيم الحداثة والديمقراطية، من منظومات التنشئة الاجتماعية بمؤسساتها المركزية، إلى مؤسسات وأنشطة المجتمع المدني، إلى وسائط الإعلام المختلفة.
وخلاصة نؤكد ما قاله جون كين من أن «الديمقراطية ليست مادة تحدث بشكل طبيعي، ولا هبة إلهية عامة، إنها معًا نتاج أزمنة وأماكن محددة، وإسهام قوي في إدراك الناس طبيعة حياتهم المقيدة بالزمن».
مبارك الحمداني