«تلفون خربان»: كيف تتواصل الحكومة مع العامة؟
ترجمة ياسمين أكرم
لماذا تغلق المطاعم وتفتح النوادي الصحية؟ ولماذا قررت الدولة أن تغلق بعض الأنشطة التجارية في الثامنة مساء بينما تفتح في الخامسة صباحًا؟ قرارات كثيرة صدرت من الحكومة دون تبرير لوجاهتها، ودون رد على ملاحظات الناس.
في الكويت خلال الشهور والأسابيع الماضية، بدت العودة إلى الحياة الطبيعية كسراب لا يدرَك. هناك خطة للعودة، إلا أنها غير مفهومة، أو منقوصة في أفضل الأحوال. وفيما كان العالم يسعى للانفتاح مرة أخرى، وجدنا أنفسنا في الكويت كمن يعود مجددًا إلى خانة الصفر. وبدلًا من أن نزداد يقينا وثقة في نظامنا الصحي وقيادة الحكومة لهذه الأزمة، أصبحنا أكثر تشككًا وعداء لكل ما يفرض من قبلها.
مع ازدياد الإشاعات وتضارب الإجراءات، وعدم عقلانيتها في العديد من الأحيان، نتساءل: ما الذي أدى إلى هذه الفوضى؟ لماذا ازدادت الأسئلة لدينا رغم وجود «مؤتمر صحفي» حكومي يشرح تطورات الوباء؟ هل الخلل في قرارات الحكومة أم في قدرتها على التواصل؟
يقول الصحفي بشار الصايغ، رئيس قسم المحليات في جريدة الجريدة، لـ«منشور»: «لا وجود للثقة بين الحكومة والناس لأن الحكومة لا تتواصل معهم. اليوم صار الناس يحصلون على المعلومات إما من الصحف أو من أعضاء البرلمان، وليس من الحكومة».
كيف تتواصل الحكومة؟
تُنقل معظم قرارات الحكومة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحف المحلية وخلال المؤتمرات الصحفية. ورغم أن كل هيئة حكومية تمتلك حسابًا خاصًا بها على موقع تويتر، أصبح حساب مركز الاتصال الحكومي الذي أنشئ في ديسمبر 2018، المنصة الرئيسية للتبليغ عن الأخبار والقرارات الحكومية وإيصالها للمواطنين والمقيمين، حتى يلتزموا بها ويكونوا على بينة، أو هكذا يفترض، خصوصًا منذ بدايات الجائحة في فبراير 2020.
فمثًلا عندما أعلن عن إجراءات السفر الجديدة في مايو 2021، لم تبين إذا ما كان على العائدين من سفرهم حجر أنفسهم حتى تثبت «سلبية» نتيجة فحص PCR أم لا. وأيضًا عندما أُعلِنت خطة عودة الدراسة والتي من المقرر أن تبدأ في شهر سبتمبر 2021، ذُكر أنه لن يتجاوز عدد الطلاب في الفصل الواحد ثمانية، دون توضيح كيفية تنفيذ هذه الخطة، خصوصًا أن أعداد الطلبة متباين في المدارس، فكيف سيكون وضع المدارس التي فيها أعداد كبيرة من الطلبة؟ هل ستُقصّر الحصص الدراسية ويزيد عددها؟ هل ستزيد عدد الحصص الدراسية لكل معلم؟ وعلاوة على ذلك، معظم المنشورات تكتب باللغة العربية رُغم الأعداد الكبيرة من السكان غير الناطقين بها، والذين تشملهم هذه القرارات أيضًا.
مؤخرًا، تأخرت الجرعة الثانية من لقاح أكسفورد، مما تسبب في أزمة وطرح تساؤلات تعبر عن تخوف المجتمع جرّاء تأخيرها. وكانت أغلب الأخبار حول هذا الموضوع تأتي عن طريق جريدة القبس، لكن وزارة الصحة لم توضح سبب التعطيل، حتى نشرت بيانًا صحفيًا لم تحدد فيه موعد الجرعة الثانية. إذ ذكر الدكتور باسل الصباح وزير الصحة، في لقاء على تلفزيون الكويت يوم الأحد 5 يونيو 2021، أنه «إذا تأخر أكسفورد سنسمح باختيار فايزر للجرعة الثانية». وأضاف أن الكويت تعاقدت على شحنات موديرنا وجونسون آند جونسون، لكنه لم يوضح ما إذا جرى تقديم الطلب بموافقة الجهات المعنية، أو إذا حصلت اللقاحات على إذن طارئ من وزارة الصحة.
أما في ما يتعلق بتواصل الحكومة مع الإعلام والصحافة المحلية، فإن معظم الصحف تستقي معلوماتها مباشرة من «مصادر مطلعة» في الجهات الحكومية المختلفة، وتستشهد بها دون الإفصاح عن هوية قائلها. ويرجع سبب ذلك وفقًا لمن تواصلنا معهم، إلى أن المتحدث غير مصرح له بمشاركة هذه المعلومات، أو لإطلاق ما يسمى بـ«بالون اختبار» لاستشعار رد فعل الناس، أو لأن الصحيفة عجزت عن التواصل مع المسؤول الحكومي المعني، ولذلك تكتفي بالإشارة إلى أنها حصلت على المعلومات من مصدر مسؤول، غير أن ذلك قد لا يكون له أي أساس من الصحة.
تاريخ سوء التواصل بين الحكومة وعامة الناس يرجع إلى عام 2011، عندما شرعت الحكومة في عزل نفسها عن الناس.
يخبرنا أحمد العيسى، مؤسس منصة «سوشال ووتشر» لرصد ومتابعة وتحليل محتوى مواقع التواصل الاجتماعي، أن «استخدام المسؤولين الحكوميين أسلوب التسريبات للحسابات الوهمية كوسيلة لإعلان أو جس نبض القرارات يعد سلاحًا ذا حدين، لأنهم وإن كانوا يستشعرون نبض الشارع بهذه التسريبات، إلا أنهم في ذات الوقت يمنحون هذه الحسابات مصداقية تجعلها مع مرور الوقت تتفوق على وسائل التواصل الحكومية، فيلجأ الناس لها للحصول على أخبارهم عوضًا عن الاعتماد على الوسائل الرسمية، مما يضعفها ويقوي الحسابات الوهمية».
المؤتمرات الصحفية هي أقل وسائل التواصل شيوعًا، وتنعقد عادة في حال الإعلان عن أخبار مهمة. نظريًا، لكل وزارة متحدث رسمي خاص بها، ونرى «الناطق» مفعّلًا في بعض الوزارات وغائبًا في أخرى، وفي السنوات الأخيرة سعت الحكومة، أو أطراف فيها، إلى تعزيز دور طارق المزرم، المتحدث الرسمي باسم الحكومة، كواجهة التواصل والناقل للأخبار الخاصة بكل الوزارات.
يقول بشار الصايغ: «مؤخرًا، لم يظهر الوزراء في مؤتمرات صحفية، بالمقارنة مع ظهورهم في بداية الجائحة. لا سيما أنهم يفتقرون إلى خبرة التعامل مع وسائل الإعلام، وبخاصة من شغل هذه المناصب حديثًا منهم. ولكن لأنهم أيضًا بدرجة ما يخشون مواجهة الصحايين والعامة، إما لأنهم لا يمتلكون كل المعلومات أو أنهم يخشون رد فعل الناس».
رغم أن الوزراء كانوا يظهرون علنًا في بداية الجائحة، فإن ذلك كان مؤقتًا بسبب الأزمة. ويقول العيسى إن تاريخ سوء التواصل بين الحكومة وعامة الناس يرجع إلى عام 2011، عندما شرعت الحكومة في عزل نفسها عن الناس. وعليه، في السنوات العشر الماضية، انسحب الوزراء بالتدريج من المجال العام، وبدأ المتحدث الرسمي في أداء أعمال كل الوزراء في أعقاب الحراك السياسي، خشية تحمل مسؤولية أي تصريح خاطئ. وبالرغم من عدم وجود قرار رسمي بتغيير طريقة التخاطب، بدأ يظهر لكل الوزراء توجه عام بالتنحي والسماح للمتحدث الرسمي بالتحدث نيابة عنهم.
لكن منذ تفشي جائحة كوفيد-19، غيرت وزارة الصحة من طريقتها واضطرت لمواجهة الحدث على الأرض وبالتواصل بصورة أكبر مع الناس، تماشيًا مع أفضل الممارسات العالمية التي بات لزامًا عليها مواكبتها. فقد عقدت الوزارة 122 مؤتمرًا صحفيًا تقريبًا منذ بدء الجائحة، ومن مارس 2020 حتى منتصف إبريل 2020 كانت المؤتمرات تسير بشكل يومي، مع إتاحة الفرصة للصحفيين للسؤال. أما منذ إبريل 2020 حتى يناير 2021، اكتفت بنشر بيانات صحفية حول أعداد المصابين باسم الناطق الرسمي عبد الله السند، دون وجود فرصة لسؤال الوزارة حول القرارات الصحية. ومع بداية الموجة الأخيرة من الجائحة في يناير 2021 وحتى مارس 2021، عادت الوزارة لعقد مؤتمر صحفي دون وتيرة واضحة، فتارة تعقده مرتين أسبوعيًا، وأحيانًا مرة في الأسبوع، دون إتاحة الفرصة للصحفيين أيضًا للسؤال.
هل تأثرت السياسات الحكومية بالرأي العام؟
تستخدم الحكومة منصات عدة لإعلان توجيهاتها للعامة، ولكن هل كانت تصغي إلى مطالب الناس ومخاوفهم وتساؤلاتهم المشروعة؟
في بداية تفشي الجائحة، لم يشكك معظم الناس في خطة الحكومة للتصدي لها، إذ أنها كانت شيئًا جديدًا بالنسبة إلينا جميعًا. ولكن مع مرور الشهور والبدء في تغيير القرارات سريعًا، بدأ كثيرون بالتشكيك في قرارات الحكومة، وحاولوا إيصال صوتهم لفهم ما كان يجري، وكانت وسيلتهم في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي. بدأت الهاشتاغات في الانتشار سريعًا، وأصبح الناس يبحثون عن وسائل لإيصال صوتهم وتساؤلاتهم واعتراضاتهم المشروعة إلى المسؤولين، وكانت الحكومة تستجيب بسرعة خوفًا من الغضب الشعبي، ففتحت صالات ومراكز ترفيه الأطفال، ثم أعادت إغلاقها فورًا استجابة لاعتراضات الناس.
أثبتت الجائحة أن بعض الوزارات أكثر قدرة على التواصل من أقرانها، فعلى سبيل المثال، بدأت وزارة الصحة في التواصل مع الجمهور على مواقع التواصل الاجتماعي، طالبة منهم إرسال أي أسئلة يريدون طرحها إلى الحساب الرسمي لها على تويتر، للتطرق إليها خلال المؤتمر الصحفي. كما أن البلدية فعالة في تواصلها، إذ تستجيب في وقت قياسي لبلاغات بعض الناس ضد المؤسسات أو المحلات التجارية التي لا تمتثل للوائح الصحية.
رغم عدم الاستجابة لكثير من المكالمات والأسئلة، فإنه في بعض الحالات وبسبب الضجة التي حدثت على مواقع التواصل الاجتماعي، بدا أن الحكومة تصغي.
كانت هناك فجوة في التواصل بين الحكومة والناس، مما أحدث ارتباكًا وانعدامًا للثقة من جانب الجمهور.
في إحدى المرات، عندما أُعلن يوم 7 مارس 2021 عن بدء الحظر الجزئي في الخامسة مساء، كانت هناك 3562 تغريدة تتحدث عن الازدحام المروري بين الساعة 1 إلى الساعة 7 مساء، وفقًا لمنصة سوشيال ووتشر. وبتعبير الناس عن انزعاجهم من حركة المرور، أعلنت وزارة الداخلية أنها ستمنحهم ساعة إضافية حتى السادسة مساء للعودة إلى منازلهم.
وبالمثل، عندما أعلنت الحكومة أنه اعتبارًا من 7 فبراير ستغلق كل المراكز الصحية والصالونات لمدة شهر واحد، تسائل كثيرون عن المنطق الكامن وراء هذا القرار. وتعبيرًا عن اعتراضهم، خرج مُلاك صالات الألعاب الرياضية والصالونات إلى الشوارع للاحتجاج على قرار الإغلاق. ورغم أن كثيرًا من النشاطات كانت محظورة مثل تناول الطعام في الأماكن المغلقة والأنشطة الدراسية، لم يُمدد القرار ولم تُمدد فترته الزمنية أيضًا. ورغم عدم وجود صلة مباشرة بين الاحتجاجات وإعادة فتح الصالات الرياضية والمؤسسات التجارية، يعتقد كثيرون أن هتافات الرأي العام أثرت على قرار الحكومة بعدم تمديد الحظر المفروض.
يقول العيسى: «لا يمكننا الجزم بأن الحكومة اتخذت قرارًا أو غيرته بدافع من مطالب الناس، ولكن بالطبع مرت أوقات ربما كان لضغط الرأي العام تأثير على القرارات المتخذة».
كيف يمكن للحكومة أن تتواصل بصورة أفضل مع العامة؟
كما لاحظنا في السنوات الأخيرة، كانت هناك فجوة في التواصل بين الحكومة والناس، مما أحدث ارتباكًا وانعدامًا للثقة من جانب الجمهور.
يوضح بشار الصايغ أنه «من المهم أن يعرف من يشغلون مناصب قيادية كيف يتواصلون مع العامة. في دول أخرى، يتلقى من يشغلون المناصب المهمة دورات تدريبية في فن التواصل مع الجمهور وكيفية التعامل مع أجهزة الإعلام. للأسف، لا ينطبق هذا على الكويت».
ويشير إلى أنه «بالإضافة إلى ذلك، تحظى كل وزارة بمتحدث رسمي خاص بها، إلا أن هؤلاء المتحدثين الرسميين لا يظهرون على الساحة. فكي يتمكنوا من تبليغ المعلومات على النحو الملائم، يحتاجون إلى أن يكونوا جزءًا أساسيًا من الوزارة، من خلال حضور الاجتماعات المنعقدة، وأن تربطهم علاقة وثيقة بالوزير، وأن يعرفوا ما يدور داخل الوزارة بصفة عامة».
كانت الجائحة حدثًا جديدًا على العالم كله، وقد أثر ذلك على كيفية تعاطي الحكومات معها. لكن هذه الأزمة كشفت لنا مشكلة في كيفية تواصل الحكومة الكويتية مع العامة، إذ أن وجود أي خلل في التواصل بين عامة الناس والمسؤولين بالذات خلال أزمة كهذه يزيد من حالة التوتر والخوف، مما يزيد من نسبة الشائعات والتضليل. السؤال الآن هو: إلى متى ستبقى الحكومة مصرة على إصدار البيانات الرسمية دون أن نتلقى الأخبار مباشرة من الوزير نفسه أو الناطق الرسمي؟
ياسمينة الملا