هجرة العقول: «تركيا إردوغان» تطارد علماءها

ندى حنان
نشر في 2017/03/26

الصورة: Chris McGrath

لا تخلو العلاقة بين الأنظمة والعلماء من شد وجذب دائمَيْن، ينتهي بخضوع أحد الطرفين للآخر، أو بقيام ثورة، أو بسجن العلماء، أو يختار الأساتذة والأكاديميون أن يتركوا أوطانهم للنجاة بأنفسهم من التهلكة، في ما يُطلق عليه هجرة الأدمغة.

هذا هو حال الأكاديميين الأتراك الذين تناولهم مقال على موقع «Politico»، والذين يواجهون ظروفًا صعبة، ليس فقط بسبب الانقلاب العسكري الفاشل عام 2016، بل من قبل ذلك أيضًا.

علماء تركيا بين هارب ومُدان

تركيا تمنع أكاديمييها من السفر إلى الخارج

لم تكن بداية عام 2017 مبشِّرة للأكاديميين الأتراك، ففي الأسبوع الأول منها فقد 631 باحثًا وأستاذًا جامعيًّا وظائفهم بجرَّة قلم، وسط موجة جديدة من الإقالات استمرارًا لما حدث في 2016، حين واجه آلاف العلماء الطرد أو الإيقاف عن العمل عقب الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا، كما أُغلقت عدة جامعات بالأمر المباشر.

دفعت هذه الإجراءات القمعية، التي تتزايد حدتها مع الوقت، عديدًا من الأكاديميين التركيين إلى مغادرة بلادهم إلى الغرب وأوروبا تحديدًا، للهرب من الملاحقات القضائية والتقليص المستمر للاستقلال العلمي.

قد يهمك أيضًا: 14 علامة تخبرك أنك تعيش في «مجتمع فاشي»

نزوح عدد هائل من العلماء سيسرِّع من سقوط تركيا في أحضان الأوتوقراطية.

خارج بلادهم، وجد العلماء الأتراك يد العون تمتد إليهم من منظمات تختص برعاية الأساتذة الذين لا تتوافر لهم بيئة عمل آمنة ومعرضون دائمًا للخطر، ومنها «صندوق هيئة التعليم الدولي لإنقاذ العلماء»، الذي يعمل على إيجاد فرص عمل للأكاديميين حتى يعودوا لأداء مهمتهم في أماكن أكثر أمنًا، وساعد 698 عالمًا من مختلف الجنسيات منذ عام 2002، أغلبهم أتراك.

لم يكن الرحيل بالاختيار الهين على أولئك العلماء، فبالإضافة إلى حزنهم لاضطرارهم إلى مغادرة الوطن، فإنهم مذعورون من نتائج نزوح هذا الكَمِّ الهائل من الأكاديميين والمثقفين، الذي سيسرِّع دون شك من سقوط تركيا في أحضان الأوتوقراطية، أي حكم الفرد الواحد.

عريضة السلام التي شرَّدت العلماء الأتراك

القبض على أكاديميين أتراك بسبب التوقيع على عريضة سلام

لا تكتفي الحكومة التركية بالتضييق على العلماء، بل تحاول قطع فرص سفرهم إلى الخارج.

بدأ التنكيل بالمجتمع الأكاديمي التركي قبل محاولة الانقلاب على الرئيس رجب طيب إردوغان، لكنه اتخذ منها ذريعةً لتنفيذ مزيد من الإجراءات التعسفية ضدهم.

فخلال التمرد الذي اشتعل في جنوب شرق تركيا ذي الأغلبية الكردية عام 2016، وقَّع أكثر من 1400 أكاديمي تركي عريضة سلام من أجل أن توقف الحكومة قمعها للأكراد، لكن إردوغان اعتبر ذلك تعاطفًا مع الإرهاب، وأمر بالتحقيق مع الأكاديميين بتهمة نشر الشائعات والمعلومات المغلوطة لصالح المسلحين الأكراد.

طُرد مئات من الأساتذة الذين وقعوا العريضة من جامعاتهم، وفتح النائب العام التركي تحقيقًا جنائيًّا، واحتُجِز بعضهم في السجون لحين إحالتهم إلى المحاكمة، وتعرض آخرون لمضايقات في أثناء العمل، وبحلول الربيع كان كثير من الأساتذة قد فقدوا وظائفهم، وفرَّ آخرون إلى الخارج.

لا تكتفي الحكومة التركية بالتضييق على العلماء في الداخل، بل عملت على قطع فرص التحاقهم بالبرامج العلمية التي تمكِّنهم من السفر إلى الخارج، وألغت الشراكة التي تجمعها بالعديد من المنح، مثل «جان مونيه».

قد يعجبك أيضًا: الوصفة الصينية لترويج القمع

«كاتي بيري»، مقررة لجنة الشؤون التركية في الاتحاد الأوروبي والمسؤولة عن رفع التقارير الخاصة بتركيا إلى البرلمان الأوروبي لمناقشتها، عبَّرت عن قلقها إزاء التضييق على الأكاديميين، وأكدت أن اللجنة تضغط على الحكومة التركية لكفِّ يديها عن المثقفين، والتوقف عن معاقبتهم وتحميلهم مسؤولية الانقلاب.

كيف انقلب الاستبشار بإردوغان تشاؤمًا؟

الرئيس التركي رجب طيب إردوغان - الصورة: Glenn Fawcett

يمتد تاريخ اضطهاد العلماء في تركيا إلى ما قبل ذلك، إذ ترك كثير منهم البلاد بعد انقلاب سنة 1980، لكن حين فاز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية في عام 2002 وتولى إردوغان الحكم، شعر عديدٌ منهم بالتفاؤل وقرروا العودة.

منح حزب إردوغان الأمل إلى هؤلاء: تمكن من النهوض بالدولة لتواكب العصر، أنعش الاقتصاد الراكد، أزاح السلطة العسكرية من الساحة، ألغى حظر ارتداء الحجاب في الحرم الجامعي، بعد أن وقف عائقًا أمام التحاق ملايين الفتيات بالكليات، كما تضاعف عدد الجامعات في عهده من 76 إلى 178 جامعة، فكان من الطبيعي أن يفكر كثير من الأكاديميين الأتراك الذين درسوا بالخارج في العودة إلى بلادهم.

عندما تبدأ «هجرة الأدمغة» من البلد تنعدم فرصة وجود رُؤًى جديدة.

«هاجر أبي (من تركيا) لتحضير رسالة الدكتوراه، ولم يعجبني ذلك أبدًا»، هكذا قالت طبيبة نفسية تركية طلبت عدم الإفصاح عن اسمها، قضت عمرها بأكمله في الخارج وعادت إلى بلدها في 2012.

وضَّحت الطبيبة أنها عادت لأنه «لو حاول الناس الرحيل باستمرار، فلن يبقى أحد لتحسين الأوضاع، ولذلك جئت، ولذلك أرغب في البقاء»، لكن حياتها انقلبت منذ اللحظة التي قررت فيها التوقيع على عريضة السلام التي تشجب قمع الأكراد، إذ خضعت للتحقيق وواجهت صعوبات في استكمال بحثها.

اقرأ أيضًا: العلم والتعليم كأداتي سيطرة على الإنسان

أعرب عديد من الباحثين عن تشاؤمهم بخصوص مستقبل تركيا، فعندما تبدأ «هجرة الأدمغة» تنعدم فرص وجود رُؤًى جديدة، لأن كل من يفكر بطريقة مختلفة إما يُجبر على المغادرة أو يحاول هو أن يهاجر.

تركيا: وطن بلا علماء

أساتذة أتراك مُقالون يستمرون في التدريس في الحدائق العامة

يترك العلماء والباحثين الأتراك وراءهم طلابًا دون أساتذة، والأهم: وطنًا دون أدمغة.

بسبب نزوح أكثر من مليون عالم وأكاديمي من دول عدة إلى ألمانيا، أطلقت مؤسسة «ألكسندر فون هومبولت» منحةً خاصة تحت اسم «مبادرة فيليب شوارتز»، بلغت نسبة الراغبين في الانضمام إليها من تركيا 47% من إجمالي عدد المتقدمين في الدورة الأخيرة، وفاق عدد استمارات المساعدة التي وصلتها من تركيا تلك الآتية من سوريا ومثيلاتها من الدول التي تطحنها الحروب.

لسخرية القدر، فإن فيليب شوارتز الذي تحمل المبادرة اسمه كان أخصائيًّا في علم الأمراض وفُصل من جامعة ألمانية لأنه يهودي، ففرَّ إلى سويسرا حيث أنشأ جمعية لمساعدة العلماء الألمان الهاربين في إيجاد وظائف، وسبق أن أقنع الحكومة التركية بتوظيف 150 أستاذًا على الأقل في الجامعات، وتولى رئاسة قسم علم الأمراض في جامعة إسطنبول.

رغم الجهود المبذولة من مؤسسات عدة لمساعدة أهل العلم المهاجرين من تركيا، إلا أنها توفر فرصًا قليلة وليست متاحة طَوَال العام. سعداء الحظ من الأكاديميين، هؤلاء الذين تتاح لهم فرصة الخروج، لا يملكون الكثير من الوقت لترتيب أوضاعهم قبل السفر، ويُضطرون غالبًا إلى حزم حقائبهم والتحرك إلى المطار فورًا، لكنهم يتركون وراءهم طلابًا دون أساتذة، والأهم، وطنًا دون أدمغة.

ندى حنان