أثر بايدن: العلاقات الأمريكية - الخليجية في زمن الرئيس الجديد
تتميز الولايات المتحدة الأمريكية بمؤسساتها الراسخة وفصلها «فعلًا» بين السلطات، مما قد يجعل تدوير الرئاسة غير ذي أثر يذكر على السياسة الخارجية. وفي المقابل، يأتي كل رئيس أمريكي بعقيدة سياسية تميز حقبته، وبعض هذه العقائد يترسخ في السياسة الأمريكية ثم ينحسر، أو قد يهيمن على سياسات الرؤساء الأمريكيين بين حين وآخر حسب الظروف.
نسعى في هذا المقام لمعرفة أثر رئاسة جو بايدن على العلاقات مع دول الخليج وفقًا لعقيدته السياسية، وذلك ضمن سياقات ما بعد ترامب ووباء كورونا والتراجع الاقتصادي، فضلًا عن ظروف التحديات الخارجية مع الصين وروسيا ودول أخرى ذات طابع شمولي، كما يحلو للرئيس بايدن أن يصفها.
استراتيجية الأمن القومي لبايدن
الإجابة تكمن في العودة إلى استراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي نشرها البيت الأبيض مؤخرًا، إذ نلاحظ غياب الشرق الأوسط كأولوية فيها، وكذلك غياب أولوية العلاقات مع دول مجلس التعاون في مقاربة الرئيس للشرق الأوسط.
لا تتطرق الاستراتيجية للشرق الأوسط إلا بعد العديد من الأجندات، كالسياسة الصحية في ما يخص التعامل مع وباء كورونا، ومعالجة التراجع الاقتصادي للولايات المتحدة الذي تفاقم في ظل أزمة الوباء، ثم بعض القضايا الداخلية كالعنصرية والعدالة الاجتماعية، والأزمة البيئية العالمية، والعلاقات مع القوى العالمية الخصيمة للولايات المتحدة كالصين وروسيا ضمن سياق التصارع العالمي بين الديمقراطية الغربية والشمولية، وغيرها من القضايا الملحة.
يجمع بايدن بين خطاب رزين يراعي العلاقات الأمريكية مع الخليج، ورغبة في الاتفاق مرة أخرى حول برنامج إيران النووي.
أما حين أتى الدور على السياسة الأمريكية تجاه المنطقة، سمى بايدن ثلاث دول فقط بأسمائها في استراتيجيته المنشورة، مبتدئًا بإسرائيل التي أكد التزامه بأمنها في ما يشبه فرضًا رئاسيًا يقسم عليه كل رئيس أمريكي. ثم إيران التي ذكرها في سياق ضرورة تخفيض التوتر في المنطقة، عبر إعادتها إلى التزامات نووية لم يحدد الرئيس ما إذا كانت عودة للاتفاق السابق الذي صاغه أوباما، أم اتفاقًا جديدًا يعقده هو ليشمل هذه المرة الأنشطة الأخرى لإيران في تطوير الصواريخ ودعم منظمات مسلحة في عدد من الدول العربية. الدولة الثالثة هي اليمن، في رغبة أمريكية بتخفيض التوترات في المنطقة وتقليل الكوارث الإنسانية، مما يشير إلى مقاربة بايدن للملف السوري كذلك.
لعل أكثر هذه الملفات أثرًا على العلاقات مع الخليج هو اليمن، الذي أتت قرارات بايدن تجاهه بنتائج منذ الآن، فما أن أعلن وقف الدعم العسكري الأمريكي لجهود التحالف العسكري الذي تقوده السعودية والوقوف خلف جهود الأمم المتحدة لإنهاء الحرب، حتى أبدت المملكة رغبة في التخارج من اليمن ووقف العمليات العسكرية. أما حركة «أنصار الله» التابعة للحوثيين وما إذا كانت ستعود إلى قائمة الإرهاب (لو استمرت في استهداف مواقع ومصالح سعودية) أم تبقى خارج اللائحة، فقد يكون في أمرها مدخل للحوار مع إيران.
بعكس ترامب، يجمع بايدن بين خطاب رزين يراعي العلاقات الأمريكية مع الخليج، ورغبة في الاتفاق مرة أخرى حول برنامج إيران النووي، بل حتى سياساتها الأخرى التي لم يتطرق لها أوباما في الاتفاق السابق. وفي سبيل الاتفاق الجديد، سينسق بايدن مع دول مجلس التعاون الخليجي التي لن تُترك خارج المفاوضات مع إيران هذه المرة، بل الأرجح أن تستمر العلاقة هادئة مع دول الخليج الحليفة كما كانت في العقود السبعة المنصرمة، إلا في ما يخص بعض الشد والجذب في الملفات المطروحة على الطاولة.
ولا يبدو أن بايدن يعول في استراتيجيته كثيرًا على التطبيع الذي تم بمباركة ترامب بين إسرائيل وبعض الدول الخليجية، إذ لم يقل في ما يخص تلك العلاقات الثنائية أكثر من جملة أنه يأمل أن يرى مزيدًا من بناء العلاقات والتكامل بين إسرائيل وجاراتها.
دول خليجية في السياق
في الوقت الذي لا تبدي فيه دول خليجية مثل السعودية والإمارات أي ميل نحو الحداثة السياسية الغربية متمثلة في النظام الديمقراطي، شدد الرئيس بايدن في رؤيته لقيادة الولايات المتحدة على اهتمامه بتعزيز الديمقراطية وقيم حقوق الإنسان محليًا وعالميًا.
لكن هذه النزعة قد يحدث بعض التسامح في تطبيقها مع حاجة الولايات المتحدة لحشد الحلفاء في مواجهة الخصم الصيني، بل إن أمريكا سبق وقبلت حتى بمفاهيم سياسية براغماتية تتحدث عن ديكتاتوريات صديقة، فلا مانع من تأخير بعض القيم والمبادئ إذا ما اقتضت المصلحة الأهم ذلك. بالإضافة إلى أنه ليس من الحكمة توتير العلاقات مع دول حليفة عبر وصمها بالأوتوقراطية، وإن كان بايدن قد أبدى عدم إيمانه بأن هذا الشكل هو الأمثل للحكم.
ستستمر العلاقة الأمريكية متينة مع دول الخليج، خصوصًا مع رغبة جو بايدن في ترميم العلاقات مع الحلفاء التقليديين والتي أضرت بها خطابات ترامب.
في المحصلة، لن يفرط أي من دول الخليج والولايات المتحدة في المحافظة على الحلف الذي بينها، بل قد يلين الطرفان في ما يخص حقوق الإنسان، كما فعلت السعودية بإطلاق سراح بعض المعتقلين وإنهاء الأعمال العسكرية في اليمن.
وصلت رسالة بايدن إلى مبتغاها حين صرح في استراتيجيته قائلًا: «لن نمنح شركاء في الشرق الأوسط شيكًا على بياض لاتباع سياسات تتعارض مع المصالح والقيم الأمريكية». أما بروده وخطابه الحاد تجاه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مثلًا، فلا يعني بالضرورة عدم إدراك البيت الأبيض أنه أمام الحاكم الفعلي للسعودية، والملك المحتمل لها على مدار العقود القادمة. بل قد تكون تلك اللهجة مجرد إزالة للغطاء الذي أعطاه ترامب لقرارات ولي العهد السعودي، والذي لا يستقيم مع المصالح والقيم الأمريكية.
أما البعد الآخر الذي يمس العلاقات الخليجية الأمريكية فهو إلحاح بايدن على الأهمية العاجلة للتحول محليًا وعالميًا نحو اقتصاد مستدام وبعيدًا عن الوقود الأحفوري. لكن تبقى عجلتا الإصلاح الاقتصادي والبيئة النظيفة بطيئتي الحركة في الخليج، الذي قد لا يتأثر على المدى القريب بسياسات بايدن في هذه الملفات لأنها موجهة للداخل الأمريكي بالدرجة الأولى، لكنها سترسم مسارًا لمستقبل العلاقات الخليجية الأمريكية خلال الفترة القادمة. فالرغبة الأمريكية في معالجة الأزمة البيئية المتعمقة عبر المسارعة في بناء مستقبل نظيف ومتماسك للطاقة، حتمًا ستؤثر على دول الريع النفطي والبترو-دولار، التي لا تزال تواجه تحديات في تحولاتها الاقتصادية نحو الاستدامة والطاقة النظيفة.
ستستمر العلاقة الأمريكية متينة مع دول الخليج، بغض النظر عن أماني بعض خصوم هذه الدول التي تُكتب على شكل تحليلات، خصوصًا مع رغبة جو بايدن في ترميم العلاقات مع الحلفاء التقليديين والتي أضرت بها خطابات ترامب. قد تؤشر الولايات المتحدة بين حين وآخر باتجاه الرغبة في عالم أكثر انفتاحًا نحو الحريات، وهو ما التقطته دول خليجية وبادرت نحو هذه السياسات قبل الاصطدام مع الرئيس الأمريكي. وستأتي العلاقة مع دول الخليج في سياق المعالجة الأمريكية للعلاقات مع إيران، وتبدو أمريكا أكثر تفهمًا لمخاوف الخليج وتجنبًا لأخطاء أوباما في التفاوض سرًا مع إيران، فالعودة إلى المفاوضات القادمة ستكون بتنسيق مع الحلفاء الأمريكيين في الخليج، منعًا لمخاوفهم التي قد تنفرهم عن المعسكر الأمريكي إن تراكمت وازدادت حدة.
حسين سنا