كيف يرتبط الاقتصاد بسلوك الأفراد؟
عامًا بعد عام وكأنها دورة موسمية، نرى الكثير من أفراد المجتمع ونواب البرلمان محتجين يطالبون بنفس المطالب: إسقاط القروض، وتغيير قانون الجنسية، وعدم فرض الضريبة على المواطن (ولو أننا لم نر أي حركة فعلية لفرضها أساسًا). نطالب ونطالب، وأفعالنا كمواطنين ومساهمين رئيسيين في اقتصادنا تناقض مطالبنا؛ نطالب بالخصخصة ولا ندعم القطاع الخاص، ونطالب بالنمو الاقتصادي وتقليل عجز الميزانية وفي نفس الوقت نطالب باستمرارية دعم المواطن، ونرفض الضرائب وكأن الدعم المادي للدولة يأتي من فراغ؛ هذه التناقضات ليس مقصودة وأحيانًا لا شعورية، فأين نذهب من هنا؟
بما أننا نريد الإصلاح والنمو الاقتصادي منذ الأزل، استعنا كثيرًا بمختصين لحل مشاكلنا المحلية ولكن دون جدوى، ذلك لأنه تُطرح الكثير من الحلول الاقتصادية التقليدية، كالخصخصة وفرض الضرائب على المواطنين، وذلك لشيوع مشاكل متشابهة عالميًا، ولكن هل ستنجح هذه الحلول؟
قد لا تكون الحلول غير فعالة بحد ذاتها، وعدم فاعلية الحلول ليس فقط بسبب احتمال سوء إدارة تنفيذ، ولكن السبب الرئيسي هو أنه لا ينفع أخذ حل من كتاب أو نظرية أو دولة أخرى وتطبيقه كما هو في دولة ذات مجتمع مختلف بثقافته ودينه وعاداته وتقاليده، وحتى مناخه وطقوسه. قد يكون سبب فشل الحلول لمشاكلنا الاقتصادية عدم توافقها مع مجتمعنا ومؤسساتنا.
كدولة مؤسسات، تحكم الكويت القوانين والتشريعات، لكن دور المؤسسات لا يقف عند تنفيذ التشريعات، بل يبدأ هناك. بسبب الثقة التي تكاد تنعدم بين الحكومة والمواطنين، لا تبقى سوى مؤسسات الدولة لتستغل تأثيرها على المجتمع بدمج احتياجات المواطنين باحتياجات الدولة، بحيث تحفز المؤسسات المواطن على اتخاذ أفضل القرارات له وللاقتصاد عن طريق استخدام حوافز مؤسسية، ومن ثم تتوافق أفعاله مع مطالباته، وهنا نجد فرصة لفهم مجتمعنا ومواطنينا لنطابق احتياجات الاثنين، ونطرح حلولًا منسجمة داعمة لبعضها البعض ولا يؤثر أحدها على الآخر سلبًا.
القرارات العقلانية وغير العقلانية
فهم احتياجات الناس ورغباتهم وتحيزاتهم المعرفية لاتخاذ القرارات أساس الاقتصاد السلوكي، وهو فرع حديث من علم الاقتصاد يجمع بين علم النفس والاقتصاد لفهم كيفية اتخاذ القرارات لدى الناس وأسبابهم، ذلك لأن أحد الاختلافات الرئيسية بين الاقتصاد النيوكلاسيكي والسلوكي هو أن الأخير يفترض أن الناس يتخذون قرارات غير منطقية وأحيانًا «غير عقلانية».
مثل الشخص الذي يشتري تلفازًا بمئتي دينار من محل يبعد عنه خمس دقائق، بدلًا من شراء نفس التلفاز بقيمة 150 دينارًا من محل يبعد عشرة دقائق، هذه الأنواع من القرارات تعتبر غير عقلانية حسب تعريف الاقتصاد النيوكلاسيكي للعقلانية، فالمفترض أن الشخص العقلاني يشتري التلفاز الأرخص حتى ولو كان المحل يبعد نصف ساعة، لأن نقطة القرار هي السعر المطلق.
تُتخذ القرارات غير العقلانية كل يوم ولا فرار منها، وتتعدد أسبابها، فمنها البيئة أو السياق، وصياغة الكلام في الإعلانات، وحالة الفرد النفسية والعاطفية وقت اتخاذ القرار، وغيرها من عوامل.
اشتهر ريتشارد ثالر، وهو خبير اقتصادي أمريكي وأحد آباء الاقتصاد السلوكي، بإسهاماته في طرح نظرية الترغيب/التحفيز باسم نظرية «نادج» (Nudge Theory)، أي نظرية «النغزة» أو «الوكزة»، والتي تدعو لهندسة الخيارات المتاحة، إذ تدفع الإنسان من غير أي جبر لاختيار أفضل خيار له من بين عدة خيارات، وذلك باستغلال بعض العادات البشرية كالتفكير التلقائي السريع والتفكير العقلاني البطيء والاستسلام للإغراء والكسل عند وجود أوضاع افتراضية، وغيرها من العادات.
لنرجع لمثال التلفزيون، فلو ذهبنا لمحل يبيع التلفاز بمئتي دينار وعرفنا أن محلًا آخر يبيع التلفاز نفسه بمئة دينار لاشترينا الأرخص، لأننا استطعنا ملاحظة حجم الخصم الكبير (50%) من خلال محاسبة عقلية سريعة، أما لو كان التلفاز في المحل الأول يباع بعشرة آلاف دينار وفي الآخر بـ9900 دينار واتخذنا قرار الشراء باستخدام نفس المنطق والمحاسبة العقلية السريعة، لاشتريناه من المحل الذي كنا فيه بما أن الخصم 1% فقط. لكن خصم السعر المطلق متساوٍ في الحالتين (100 دينار)، فالمفترض أن يتخذ المشتري نفس القرار في الحالتين (شراء التلفاز الأرخص)، وأيضًا تظل العشرة آلاف أغلى من الـ9900، وحجم الخصم النسبي لا تأثير له من ناحية السعر النهائي.
في الاقتصاد السلوكي، عدم الاتساق في اتخاذ القرار في السيناريوهين المتماثلين يعتبر غير عقلاني، وكثيرًا ما نقع في هذه الأنواع من الفخاخ بسبب ثقتنا في محاسباتنا العقلية السريعة. يطرح ثالر نظرية الترغيب لحماية الناس من ارتكاب هذه الأخطاء عبر هندسة الخيارات المتاحة، بحيث تدفع الإنسان لاتخاذ القرار الأنفع له في ظل مثل هذه الظروف المتوقع حدوثها.
عند دمج خصائص نظرية الترغيب والمشاكل الاقتصادية، أي البيئية والثقافية والأمنية والصحية إلخ، مع الهيكل السياسي العام للكويت، نرى أن مؤسسات الدولة تلعب دورًا كبيرًا في الإسهام أو التأثير على المجتمع ومشاكله. الكويت بحاجة ماسة إلى التطوير والإنعاش، ولضمان أي نسبة نجاح من الترغيب، يجب أن توجد ثقة من قبل الطرف الذي يحفِّز والطرف الذي يتلقى التحفيز، لذلك لا جدوى من استخدام هذا النهج بشكل صريح من قبل الدولة.
هنا نستعين بمؤسساتنا لاستغلال تأثيرها باستخدام تحفيز مؤسسي، ولو أنه قد يكون ناتجًا عن تحفيز مؤسسي على نطاق أصغر، إلا أنه أكثر فعالية وتأثيرًا، وكلما زاد توافق النكزة بالأعراف الاجتماعية والثقافية زادت احتمالية تقبله ومن ثم نجاحه. المطلوب من الدولة فقط تحفيز المؤسسات، وإذا تطلب الأمر تشريع قوانين تجبر المؤسسات على تحفيز أفراد المجتمع على اتخاذ أفضل القرارات لهم، ودلهم على الطريق الأنفع لهم وللمجتمع ككل من جميع النواحي الاقتصادية.
تطبيق نظرية الترغيب عبر تحفيز مؤسسي
تكثر التجارب والدراسات العلمية حول نظرية الترغيب واستخدام تحفيز مؤسسي، ومنها دراسة ثالر نفسه لتشجيع موظفي شركة ما على ادخار نسبة من معاشاتهم للتقاعد، من خلال تسجيلهم تلقائيًا في برنامج SmART (Save More Tomorrow)، الذي يدخر جزءًا من معاشاتهم، ويترك لهم كامل الحرية في الانسحاب من البرنامج في أي وقت. لكن ثالر وزميله شلومو بنارتسي وجدا أن 78% من الموظفين الذين عُرض عليهم البرنامج شاركوا فيه، والأجدر بالذكر أن 80% من الموظفين استمروا في البرنامج حتى نهايته، وذلك بسبب طبيعة البشر في التكاسل في الانسحاب عند وجود أوضاع افتراضية.
التحفيز والدولة: هل الكويت مستعدة للإصلاح؟
لو رفعنا متطلبات المدرسين وأزلنا المحفزات الحالية كالإجازة الصيفية، هل ستستمر مستويات مدرسي أبنائنا على أساس «اسحب واربح» في الجودة والأخلاقيات، أم سنصفّي المتقدمين على الوظيفة للجادين والشغوفين فقط؟ لو فرضنا وجود مطعم واحد صحي بين كل ثلاثة مطاعم غير صحية، هل ستتأثر قراراتنا عند اختيار مطعم اليوم؟
ولو أن دولة الكويت حاليًا لا تعترف بالاقتصاد السلوكي، فهذا لا يعني أنه غير وارد أن يحصل مستقبلًا، لكن الوقت الوحيد الأفضل من المستقبل هو الحاضر. كلما تطورت الدولة زادت الثقة بين الحكومة والشعب، وكان التحفيز أكثر تأثيرًا ونجاحًا، لكن في الوقت الحالي من الممكن أن نكتفي بتحفيز مؤسسي إجباري من قبل الحكومة.
كبداية، من الأفضل التدرج في التحفيز بشكل فعال من حيث التكلفة، وأيضًا يجب التركيز على التحفيزات المتعلقة بأكبر المشاكل التي نواجهها في الكويت، ومنها الزراعة والتلوث والصحة.
في القطاع الزراعي، يمكن إجبار الهيئات والمؤسسات في القطاع البيئي والزراعي على بيع نباتات خارجية صغيرة ومتوسطة الأحجام في أماكن غير المشاتل، وبالتحديد في الجمعيات التعاونية، ومن هنا يبدأ التحفيز من قبل الجمعيات والهيئات المختصة.
الفكرة كالآتي: تباع النباتات عند قسم الخضروات والفاكهة (أو أي قسم يبيع أغراضًا صحية، لتعلق الصحة والتغذية غير الصريح بالهواء النقي وصحة البيئة)، وأيضًا عند الكاشير، ذلك بسبب طبيعة الناس في الشراء من غير حاجة عند عرض منتجات بجانب طوابير انتظار، أو بجانب منتجات متعلقة (منتجات طبيعية/صحية)، ونتيجة ذلك الشراء هي زيادة زراعة النباتات الخارجية وتقليل نسبة التلوث.
طريقة أخرى لتحفيز الأفراد على تقليل نسبة تلوث الهواء بتوزيع محطات البنزين وإبعادها عن بعضها وعن المناطق الداخلية، لزيادة مسافات القيادة والوقت المطلوب للوصول إلى المحطة. هذه الزيادة البسيطة في صعوبة الوصول للمحطة ستقلل من عدد الزيارات للمحطات، بسبب طول الطريق وعلاقته بطبيعة الإنسان بالتكاسل، وبذلك تقل زيارات المحطات ويبدأ السائق في حساب دروبه وتقليل القيادة كي لا يضطر لأخذ وقت طويل للقيادة لمحطة بنزين بعيدة، مما يقلل تلوث الهواء.
بالنسبة للصحة البدنية لدى الشعب، تستطيع الحكومة أن تجبر جميع جهات العمل متوسطة الحجم والكبيرة على توفير أندية صحية بسيطة لتذكير الموظفين بأهمية الصحة البدنية، سواء استخدموا النادي المتوفر في جهة عملهم أو مارسوا أي نوع من الرياضة في مكان آخر، وأيضًا لتحفيز الموظفين على ممارسة الرياضة اعتمادًا على دافع الراحة بسبب قرب المكان، ومن قلة أيام الغياب (بسبب الأمراض المتعلقة بالصحة البدنية) وزيادة كفاءة العمل والإنتاجية على المدى الطويل.
ماذا لو استخدمنا هذه المحفزات المؤسسية كسلاح نحارب به الفساد ونعرقل دربه؟ ماذا لو استخدمنا المحفزات كأداة للارتقاء بمجتمعنا ثقافيًا وعلميًا وصحيًا واجتماعيًا؟ وناتجًا عن كل ذلك، ماذا لو نميّنا اقتصادنا بشكل مستدام؟ نعم، التحفيز المؤسسي الصحيح المدروس يجعل كل هذه التغيرات المحتملة واقعًا قريبًا بعيدًا، يعتمد على خطواتنا القادمة.
تأثير التحفيزات البسيطة منخفضة التكلفة يمكن أن تصل إلى أجيال وتخلق ثقافات وعادات مجتمعية كانت تبدو مستحيلة. حاولت دولة الكويت الإصلاح والنمو بالعديد من الطرق التقليدية، ومن المؤسف أنه لم يبق لنا الكثير لنخسره، ومع كل يوم نصارع الزمن للنجاة من دوامة تمنعنا من النمو والازدهار، فقد آن الأوان لتغيير النهج.
غنيمة محمد المنيفي