الفلسطينيون في الداخل: ما بين الانفصال والاندماج
على مدار التاريخ، حاول المستعمرون إلغاء السكان الأصليين من خلال محو ذاكرتهم بمحو الأمكنة وتشييد أمكنة أخرى مكانها، بعمران جديد ومغر، وإرغامهم على التحدث بلغة المستعمر الذي يحاول بشتى الطرق فرض سيطرته على كل المرافق الحياتية والتعليمية والثقافية والاجتماعية، ودمجهم في المجتمع الحديث الذي يبنيه المستعمر، وعلى سبيل المثال السكان الأصليين في أمريكا الذين سُموا بالهنود الحمر، أما لدى فلسطينيي الداخل المحتل فقد اختلف الأمر.
من هم فلسطينيو الداخل؟
بعد الحرب العالمية الثانية وفي عام 1948 انسحبت بريطانيا من فلسطين، وسلمت خلفها مفاتيح فلسطين لليهود، الذين أعلنوا في ذات العام قيام دولة إسرائيل على الأراضي الفلسطينية، مشردين ومهجرين بذلك آلاف العائلات من المدن والقرى الفلسطينية، ومرتكبين مجازر بحق الناس في يافا وحيفا ودير ياسين وكفر قاسم واللد والرملة والجليل والنقب.
بسبب المجازر التي حدثت، والخوف الذي سيطر على الناس من الموت، لجأ الكثير من الفلسطينيين إلى رام الله وقراها والأردن وسوريا ولبنان، لتتشكل لاحقًا، مع ابتعاد حلم العودة، المخيمات الفلسطينية التي سميت باسم البلدات الأصلية للاجئين.
على الطرف الثاني بقي في الداخل الفلسطيني فلسطينيون يخضعون لسيطرة الاحتلال، في 774 مدينة وقرية فلسطينية، دُمرت 531 منها بالكامل، وما تبقى من القرى والمدن خضع لقوانين وسلطة الاحتلال. هؤلاء الأشخاص حصلوا لاحقًا في بداية الخمسينيات على الجنسية الإسرائيلية، وقد خُيروا بين الحصول على الجنسية والبقاء في البلاد أو مغادرتها إلى الضفة أو إحدى الدول العربية، وبناء على ذلك قرروا البقاء في البلاد تحت الحكم العسكري حتى عام 1967.
يمثل الفلسطينيون في الداخل أقلية، إذ يبلغ عددهم اليوم ما يقارب 1.9 مليون من أصل 9 ملايين مجمل السكان.
وأُطلق عليهم على مدى سنوات العديد من الألقاب، «عرب الداخل» نسبة إلى بقائهم داخل الخط الأخضر وفقًا للاتفاقيات الدولية، «عرب 48» نسبة إلى بقائهم في فلسطين عام 1948، والتسمية الأخيرة التي يتنكر لها الفلسطينيون في الداخل هي «عرب إسرائيل»، والتي تنسبهم إلى الكيان المحتل بسبب عيشهم تحت سلطته.
يسكن الفلسطينيون في الداخل المحتل بالمعظم في قرى ومدن منفصلة عن اليهود، باستثناء المدن التي تسمى بالمختلطة كحيفا، حيث يتركز الغالبية في حي وادي النسناس ووادي الصليب، ويافا التي دُمرت بالمدفعية في نكبة 1948، فسكن معظم أهلها الباقين في حي العجمي خارجها، وما زالوا حتى اليوم يتعرضون للتضييق من أجل الخروج من بيوتهم. وفي عكا تركز معظم الفلسطينيين في البلدة القديمة واحتموا فيها من عصابات الصهيونية، وفي الجليل دمرت القرى على رؤوس الأهالي فلجأوا إلى قرى أخرى قريبة، وتكونت مع الوقت مجمعات سكانية واضحة المعالم، وكذلك الأمر للمثلث في مركز البلاد، أما النقب فقد احتُلت بئر السبع فيها كاملة، وشُرد أهلها إلى غزة وقرى النقب الأخرى.
«الأسرلة» والحفاظ على الهوية
يعيش الفلسطينيون في الداخل اليوم تحت حكم إسرائيل، وتعترف بهم كمواطنين لها، كما منحتهم الجنسية الإسرائيلية وجواز السفر.
يمثل الفلسطينيون في الداخل أقلية، إذ يبلغ عددهم اليوم ما يقارب 1.9 مليون من أصل 9 ملايين مجمل السكان. يعاني الفلسطينيون من العنصرية، ويظهر ذلك من خلال منعهم من دراسة مواضيع تمس الأمن، كصناعة الأسلحة والمخابرات، كما يعاني الطلاب العرب في الجامعات صعوبات في التعلم بسبب فرض التعلم باللغة العبرية، إذ يخرج الطالب من القرية لا يعرف شيئًا، ويصطدم بعالم يرغمه على التعامل معه على أنه أمر طبيعي، ويضطر من خلال حياته اليومية للتعامل مع الإسرائيليين، وسماعهم يتحدثون حول تطوير الدولة التي تحتل بلادهم في الأساس.
تحاول إسرائيل من خلال «الأسرلة»، والتي تعني فرض الأيديولوجية الإسرائيلية على الفلسطينيين في الداخل، فصل هذا المجتمع عن قضيته الأساسية وعن شعبه المشتت في العالم، من خلال ادعائها منحه امتيازات معينة، كالهوية وجواز السفر وفرص العمل والتعلم، لكنها من جهة أخرى تساعد على انتشار الجريمة بين أفراده، وتغري الجيل الشاب بمقابل مادي من أجل الخدمة العسكرية، والتي تضعهم في مواجهة أبناء شعبهم في الضفة وغزة والقدس.
على عكس ما هو شائع لدى معظم العرب في الخارج، لم يتخل فلسطينيو الداخل عن هويتهم، ولم يتنازلوا يومًا عن أصلهم الفلسطيني، ولم ينسوا ما حصل لهم. والدليل على ذلك الهَبة الشعبية الحالية في فلسطين كاملة من البحر إلى النهر، إذ خرج الفلسطينيون في الداخل إلى الشوارع التحامًا مع أبناء شعبهم في الشيخ جراح وغزة، احتجاجًا على تشريد العائلات من منازلها وقصف قطاع غزة المتواصل بالطائرات الحربية وسياسات الفصل العنصري وتسهيل الجريمة في مجتمع الداخل، وارتقى منهم شهيد في بداية الهبة، واعتُقل حتى الآن ألف شاب وشابة في سجون الاحتلال دون لوائح اتهام.
هذه ليست المرة الأولى التي يلتحم فيها الشارع الفلسطيني في الداخل مع بقية أبناء شعبه، فلا ننسى يوم الأرض عام 1976، وفي عام 2012 بالتوازي مع العدوان على غزة كان الشارع الفلسطيني في الداخل يغلي بسبب مخطط برافر الذي كان يهدف إلى سلب أراضي الفلسطينيين في سخين وعرابة ودير حنا، وفي 2017 التحم مع القدس في انتفاضة البوابات، ولا يمكن تجاهل الانتفاضة الثانية عام 2000.
تقول هيا محاميد الناشطة الشبابية من ام الفحم، والتي تسكن مدينة القدس بحكم دراستها في الجامعة العبرية: «لم أولد في عائلة وطنية، ولدت لعائلة عادية تخشى بطش الاحتلال بنا، وكل وسائل التضييق التي يحاول فرضها علينا كفلسطينيين في الداخل، هذا الخوف جعل عائلتي تمنعنا من المشاركة في المظاهرات والمناسبات الوطنية، ورغم ذلك فقد تربينا على حب الوطن وعلى معرفة أصولنا وحكايات النكبة والنكسة والغضب من الاحتلال، كونه السبب في ما نحن عليه».
وتضيف لـ«منشور»: «حين انتقلت إلى القدس شعرت أن الخوف الذي تربيت عليه طيلة الوقت قد زال فجأة. ثمة شيء في عدم خوف المقدسيين من الاحتلال تسلل إلى داخلي وجعلني لا أخشاه أيضًا. لم تتقبل عائلتي هذا الأمر، وحاولوا في البداية إبعادي عن كل ما من شأنه إيذائي».
وفي حديثها بشأن دراستها في الجامعة العبرية التي تعتبر جسمًا صهيونيًا بامتياز تقول: «في دراستي أحاول تجنب الاشتباك مع الآخر، مع زملائي اليهود والمحاضرين، حتى أستطيع إنهاء اللقب الأكاديمي دون مشاكل معهم، ودون فصل من الجامعة على خلفية أمنية-وطنية، ففصلٌ كهذا قد يمنعني من الدراسة أو العمل في البلاد في معظم المجالات، حتى في مجال التنظيف. في ذات الوقت كنت أبحث عن عمل خلال الدراسة كي أساعد والدي في المصاريف الكبيرة بحكم غلاء المعيشة، ولكن لا يوجد عمل إلا بين يهود، وهو أمر صعب جدًا خاصة مع التطرف الإسرائيلي في القدس».
وتذكر معلقة على حالة الالتحام الشعبي بين جميع أجزاء الوطن: «في هذه الأيام وبسبب الهبة الشعبية، أشعر أن الفروق بين الداخل المحتل والقدس والضفة وغزة قد زالت، ولكنها فعليًا ما زالت قائمة، فالمحتلون ما زالوا بيننا ويتحكمون في حياتنا بشكل أو بآخر».
صراع الديانتين في أرض واحدة
شكلت القدس وأرض فلسطين بشكل عام محط صراعات دينية على مر التاريخ، منذ أيام الهيكل اليهودي والحملات الصليبية ثم الفتح الإسلامي، وعانت البلاد شر حروب كثيرة، وتعاقب عليها حكام وأمراء وجيوش جرارة، خلفت ما خلفته من الصراعات اللانهائية. على الرغم من ذلك لم يتصارع المسلمون والمسيحيون على أرض المقدس كما حدث الصراع عند مجيء اليهود.
يدعي اليهود المتطرفين أن هيكل النبي سليمان قد بُني في الفترات التاريخية القديمة مكان المسجد الأقصى، بينما تفند روايات أخرى هذا الأمر، وتقول إن النبي سليمان لم يمر على بيت المقدس تاريخيًا. بإمكاننا القول إن الصراع الأساسي على البلاد ينبع من هذه النقطة، وبسبب تدين المجتمع الفلسطيني والتزامه فقد شكل هذا جوهر الصراع حتى يومنا، فالعدوان القائم على غزة سببه الأساسي تعدي الجيش الإسرائيلي على المقدسات الإسلامية وأهل القدس.
إيمان اليهود بأننا من نعتدي عليهم وبأن هذه الأرض حقهم هو ما يجعل الحياة المشتركة معهم صعبة، ففي أول مطب يتضح كم أن مشروع التسامح والعيش المشترك كان واهنًا.
ومن ناحية أخرى لا يمكننا حصر القضية الفلسطينية في البعد الديني فحسب، إذ يدعي اليهود أنهم حين جاؤوا إلى هذه البلاد كانت فارغة من الناس، ولكن في الحقيقة كان عدد الفلسطينيين فيها 1.4 مليون شخص، وكانوا يعملون في الزراعة والتجارة ويدرسون في الجامعات والكليات المحلية والعربية والأمريكية، وكانت البلاد مزدهرة في تلك الحقبة، لكن حين جاء الاحتلال شرد الناس ودمر أعمالهم ونهب أراضيهم ووضعهم تحت الحكم العسكري، فاصلًا إياهم عن مجتمعهم العربي والفلسطيني لعشرين سنة، وخلال السنوات هذه انفصل الفلسطينيون في الداخل عما يحدث في العالم العربي وبقية فلسطين، بسبب عدم القدرة على التواصل ولا الخروج من القرية إلا بإذن الحاكم العسكري، وعدم وجود قدرة على التواصل بسبب انعدام طرق الاتصال.
عند انتهاء الحكم العسكري عام 1967 كانت فلسطين كلها سقطت تحت الاحتلال، بما في ذلك القدس والجولان وسيناء ومزارع شبعا. إذًا فقضية فلسطين ليست فقط قضية دينية وليست خاصة بالفلسطينيين فقط، بسبب تعدد وتنوع الأديان في فلسطين من مسيحيين ومسلمين، وبسبب اختلاف الأراضي التي احتلتها إسرائيل، فمنها ما يتبع سوريا ومنها ما يتبع لبنان وسيناء التي استعادتها مصر في اتفاقية السلام عام 1978.
هذا الايمان لدى اليهود بأننا من نعتدي عليهم وبأن هذه الأرض حقهم هو ما يجعل الحياة المشتركة معهم صعبة، ففي أول مطب تظهر الصراعات الأيديولوجية بيننا على السطح، ويتضح كم أن مشروع التسامح والعيش المشترك كان واهنًا. وفي كل صراع يطفو، يكتشف الفلسطينيون مرة تلو الأخرى أن الاندماج مع المجتمع اليهودي، والعمل في أماكنهم، ومزاملتهم في المدارس والجامعات، والحديث بلغتهم، واكتساب بعض العادات منهم، لا يلغي أبدًا القضية الحقيقية لهم، ولا يمكنه على الإطلاق إلغاء الفلسطيني الجزء من الفلسطيني الكل، في كل أماكن وجودهم.
إعلام الاحتلال: خطاب موجه للداخل
يوظف الإعلام الإسرائيلي كل عناصر أجندته لإظهار إسرائيل كواحة للديمقراطية والسلام، ليتحدثوا باللغة العربية إلى الشعوب العربية فيتقربوا بذلك منهم، ولتحسين الرأي العام العربي في الداخل والخارج بالكيان المحتل. نستطيع رؤية ذلك من خلال صفحة «إسرائيل تتحدث العربية» على تويتر وفيسبوك، والتي تستشهد بآيات قرآنية من أجل إظهار التودد للقارئ العربي، ومن خلال صفحة الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي، الذي يكتب ويتحدث ويتوجه في وسائل التواصل الاجتماعي إلى الجمهور العربي فقط. كل هذه المحاولات هي من أجل إظهار إسرائيل ككيان عادي غير دخيل على المنطقة، وهو ما أفشلته بجدارة الهبة القائمة حاليًا.
لو قرأنا وسائل الإعلام الإسرائيلية والمتحدثين الرسميين الناطقين باسم الاحتلال، لوجدنا خطابًا يتوجه نحو سعادتهم بقدرة العرب على التظاهر في إسرائيل، مما يعني أنهم حققوا ديمقراطيتهم التي يفخرون بها. ففي أي مكان آخر يمكن للعرب أن يتظاهروا غير إسرائيل؟ مخبئين تحت قشرة هذا الخطاب سياسة عنصرية، وهجومًا ممنهجًا ضد المتظاهرين السلميين.
يكتب إسماعيل ناشف، أستاذ علم الاجتماع في معهد الدوحة ومؤلف كتاب «صور موت الفلسطيني»، عن المواطنة بصفتها وظيفة داخل أي نظام استعماري، لذلك فإن ما يحققه وجود الفلسطينيين في الداخل المحتل مهم بالنسبة لإسرائيل، ولا يعد مصادفة في خطى مشروعها الاستعماري، بل يمثل «تعبيرًا عن صميم استعمارية النظام البيضاء التي لا تُبنى إلا بجماعية "سوداء" فلسطينية يعاد صوغها كـ"محلية/أصلانية"».
ميساء منصور