الموت واحد: كتابة النساء من باكستان إلى الإمارات
أشعر أن هناك تصورًا ذهنيًا، أقرب إلى المثالية الساذجة منه إلى الحقيقة، ونحن نتحدث عن المجتمعات المتحضرة اليوم، محاولين وصفها. وعندما أتحدث عن المجتمعات المتحضرة هنا، سأقول إنني أعني اعتباطيًا تلك التي يظهر أننا جزء منها، بشكل مدنها الحديث المتساوي، نقود جميعنا سياراتنا الأنيقة نسبيًا، أو نسير راجلين في ملابسنا التي تحمل في نسيجها الأقمشة نفسها، نستخدم ذات الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، ونطالع جميعنا هذا العالم الواسع من خلال منصات التواصل الاجتماعي المتنوعة.
جميعنا متحضرون ظاهريًا.. أليس كذلك؟
لكن ماذا عن المسكوت عنه في تلك المجتمعات المأخوذة مثل كل مجتمعات اليوم بالحداثة الظاهرية في حياتها المدينية، التي تكاد فيها اليوم أن تشبه كل مدينة كبرى في العالم تلك الأخرى دون تمييز، وتحديدًا المسكوت في ما يخص وضع المرأة؟ أجد هذا السؤال يلح على بالي وأنا أستمع إلى نماذج لثلاث سيدات من مجتمعات بين الشرق والغرب ضمن برنامج الإقامة الإبداعية، الذي تنظمه وترعاه جامعة ولاية آيوا الأمريكية منذ ستينيات القرن الماضي.
مقتل مشهورة باكستانية
تقف أمامنا سنام ماهر، بسمرتها الخفيفة وشعرها البني وملامحها المتقاطعة بين الهند وباكستان، تتحدث عن كتابها «سيدة مثلها، القصة الحقيقة خلف جريمة الشرف لنجمة السوشيال ميديا»، الذي حاولت من خلاله ككاتبة صحفية التحقيق في ملابسات مقتل نجمة منصات التواصل الاجتماعي الباكستانية قنديل بالوتش، التي قتلها شقيقها في جريمة شرف مروعة، كانت الجناية فيها الكشف عن الهوية الحقيقية لإقبال بالوتش على منصات التواصل الإجتماعي وتلويث اسم العائلة.
تذكر سنام كيف أنها وهي تحاول إعادة سرد حياة قنديل من وجهة نظر إنسانية، لفتاة كانت جريمتها الوحيدة فعليًا هي صور وفيديوهات على منصة إنستغرام، في مجتمع مغلق كان الأمر بالنسبة له يماثل انتهاك المحرمات الكبرى، اصطدمت سنام بحواجز كثيرة من الصمت والمبالغات التي نالت من سمعة فتاة لم يعرفوا شيئًا عنها فعليًا سوى صورة، من خلال شاشة افتراضية، كل ذلك يحدث في مجتمع يستخدم هذه المنصة يوميًا مثله مثل أي شخص في العالم، عالمنا السريع، الذكي، المدني، المتطور.
نشرت سنام الكتاب بالإنجليزية وحقق شهرة ونسبة قراءة ممتازة، حملت صورة مؤثرة وبليغة عن وضع المرأة في باكستان اليوم، لكنها لم تتجرأ حتى الآن على نشره بلغتها الأصلية، لما قد يمثله الأمر من تهديد حقيقي لحياتها وحياة أسرتها.
أثناء الاستماع لسنام، كنا بشكل ما نستطيع التفاعل نسبيًا مع تعقيدات مثل التي ذكرتها في تلك المناطق الحارة على المستوى الاجتماعي والوضع السياسي المعقد، وخصوصًا الوضع المرتبك دائمًا والمروع في غالب الأحيان في ما يتعلق بالجارة أفغانستان، التي تمتد طالبان منها إلى أجزاء من باكستان أيضًا، الأمر الذي يجعلني أسأل سنام لاحقًا عن سبب اختيارها البقاء في باكستان رغم ما قد يمثله الأمر لها من تهديد على جميع الأصعدة.
أتذكرها تبتسم وتجيب بأن الأمر في ما يتعلق بالمسكوت عنه والشرف والقيود لا يُحل بتغيير المكان، هناك طبقات مرتبطة بالأمر موجودة في كل مكان، ثم إنها ستبقى باكستانية دائمًا، وستحاكَم دائمًا وفقًا لهذا الأساس. الحل إذًا من وجهة نظرها كان أن تبقى هناك، قريبة من الحقائق المخفية والحيوات المهددة، في محاولات لنزع طبقات الصمت والغبار، وصولًا إلى وضع أفضل، وضع متحضر حقيقي في تعامله مع المرأة.
اشتباك بالأيدي أمام قاعة المسرح
«أشعر دائمًا بأني في حياتي أسرق دور شخص آخر، وأن كل فرصة أحصل عليها هي بمثابة اختلاس من حياة ذلك الآخر»، هكذا تقول ألكساندرا كيه اليونانية بعيون فيها من الخضرة بقدر ما فيها من الحيرة، وهي في السادسة والثلاثين من عمرها، وتكتب إلى اليوم باسمها المجرد وحرف وحيد يدل على عائلة غامضة، عائلة لا تريد أن تربط اسمها بها، وتخشى على سمعتها مما قد تكتبه هذه الابنة المتمردة.
سبب شعور ألكساندرا بالاختلاس الدائم هو أنها أخفت عن عائلتها الملتزمة دينيا، العائلة التي امتهنت الخدمة الكنسية لوقت طويل ولا تزال ضمن سلالة من الأساقفة، أنها بدأت الكتابة في سن مبكرة، وبعد أن قرأ والدها أول نصوص منشورة لها، اتهمها بأنها سرقت هذا النص من أحدهم، وأنها لا شك لم تكن لتستطيع أن تكتب هذا النص بنفسها. صورة مربكة، أليس كذلك؟ لا نستطيع أن نتخيلها في اليونان الحديثة، المنتمية لدول الاتحاد الأوروبي، والتي يعرفها أغلبنا بمهد الحضارة الإغريقية الأولى والزرقة الغامرة وتمرد زوربا اليوناني، اليونان التي لا نعرف عن المسكوت عنه فيها شيئًا.
عالجت ألكساندرا مؤخرًا من خلال مسرحية كتبتها، وهو مجال تخصصها الرئيسي في الكتابة، أسطورة ميدوسا، التي لطالما أظهرتها الميثولوجيا الإغريقية بصورة الإلهة الحقودة المدمرة، لا لسبب إلا للشر الخالص، الميثولوجيا التي فوجئنا قليلًا بأنها لا تزال في مضمونها موضوعًا غير قابل للمساس في اليونان المعاصرة، خصوصًا في ما يتعلق بالآلهة الإناث فيها ومحاولة تقديم صورة مغايرة لهن، وهو ما حاولت فعله ألكساندرا عندما أنسنت ميدوسا، لتُظهرها بصورة المغدورة ممتهنة الكرامة التي كشف التسلط الذكوري عن أسوأ ما يمكن في الإنسان، عن الشر المستعر، لكنه شر لم يكن ليتحرك دون محفز قوي.
تتحدث ألكساندرا لاحقًا عما حدث بعد عرض المسرحية، وعن الهجوم الذي تعرضت له ميدوسا الإنسانة، المرأة، وكيف أن اشتباكات بالأيدي حصلت أمام قاعة العرض المسرحي بين بعض المصنفين من النقاد الذكور وسيدات اختلفن معهم في الرأي.
أقارب بين حكاية سنام وقصة ألكساندرا، وأفكر في صورة المجتمعات المتحضرة المهتزة، لعبتنا التي نلعبها يوميًا بإتقان، حتى يحاول أحدهم أن يمس أساطيرنا المختلقة، فنتوحش، كاشفين عن بدائية عميقة، تحتاج لوقفة طويلة وبرامج كثيرة وبَوح حقيقي وصريح، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب.
مدينة متمردة ليست كذلك
حلقت الكاتبة المسرحية الصينية كانديس تشونغ شعرها كله، في حركة تمردية ضمن ما عُرف بأحداث ربيع هونغ كونغ، تلك التي يظهر نسبيًا أن العالم كان مشغولًا عنها في خضم اشتعاله بتداعيات وتبعات جائحة كوفيد-19.
كان من المثير الاستماع لحماس كانديس وهي تتحدث عن النظام الاجتماعي والسياسي في مدينة عرفت بنظامها الحداثي المستقل نسبيًا عن الصين الشعبية، وكيف أن النظام الاجتماعي لا يزال يستنكر حتى في أحلك لحظاته وجود المرأة في الحيز العام، حتى وهي تشارك الرجل في الصراخ والقلق والأزمة الإنسانية. أرادت كانديس أن تقول للنظام الاجتماعي، من خلال إزالة أبرز أشكال التمييز الشكلي بين الرجل والمرأة مبدئيًا، أن هناك ما هو مسكوت عنه أعمق من الشكل، وأن التحضر الذي تدعيه المدينة المتمردة لا يزال يراوح تحت كثير من القيود التي لا يناقشها أحد، وتنساق لها السيدات طوعًا.
حيرة أمام سؤال الكتابة في الإمارات
في مقابلة حديثة مع إذاعة ولاية آيوا الرسمية، جاء السؤال المتوقع كما هو دائمًا: كيف الوضع في الخليج بالنسبة لكاتبة امرأة، وفي الإمارات تحديدًا؟ وفي حقيقة الأمر، يجعلني هذا السؤال أحار دائمًا.
أتذكر المرة الأولى التي وُضعت أمامه وأنا أعد ورقة مستفيضة عن الكتابة والكاتبات في الإمارات قبل عامين في «غرفة فيرجينيا وبرقع سلمى»، وأنا أدرك أن عدد الكاتبات الإناث في الإمارات يتفوق على عدد الذكور، وهن موجودات ومتحققات بشكل كبير في مجالات أخرى متنوعة بتمكين حكومي وتقبل اجتماعي نسبي، لكنني أيضًا وبعد تتبع للمواضيع المناقشة منذ ثمانينيات القرن المنصرم وحتى اليوم، أجد تراجعًا في جرأة المواضيع المطروحة للنقاش إبداعيًا، خصوصًا في ما يتعلق بشؤون المرأة الملحة، التي لا يزال كثيرًا منها موجودًا رغم التمكين، لأنه في حاجة لوعي اجتماعي عميق، لن يتكون دون مادة مكتوبة أو مسموعة أو مرئية، دون حوار يكسر هالة المسكوت عنه.
لا أقصي نفسي من هذا الوضع متنزهةً عنه لوضع نفسي في موضع الحكم، بل أنا ضمنه تمامًا، ما زلت أرتبك من سلطة الصمت العالية، التي تجعلنا كسيدات في حالة مهادنة دائمة، مهما بدا الأمر ظاهريًا عكس ذلك، هناك دائمًا مسكوتٌ عنه سنجد أنفسنا نصطدم به بشكل ما، يومًا ما.
كنت أقرأ مؤخرًا كتاب «تحريك الصمت» للشاعرة والتشكيليلة اللبنانية الأمريكية إيتيل عدنان، والتي رحلت للأسف عن عالمنا قبل أيام. كتبت إيتيل هذا الكتاب الذي يشكل تأملات الخلاصة التي كتبتها، قبل سنة من وفاتها وهي في عامها الخامس والتسعين. وفي سنة الوباء 2020، وفي خاتمة الكتاب، كتبت إيتيل عن جسر مجازي يماثل ذلك القديم في حضارة بابل، لكنه ممتد اليوم بين لوس أنجلوس ودبي، التشابهات الكبيرة بين مدن العالم في حضارة اللاتمايز الجديدة.
أفكر في هشاشة هذا الجسر، وبابل الجديدة التي رغم صخبها الشديد ظاهريًا، فإنها تنتحي نحو الصمت عما يجدر أن يمد له جسر حوار إنساني حقيقي، لكي تستمر هذه الحضارة المفترضة، أو بالأحرى لكي تتحقق تلك الحضارة.
صالحة عبيد