يعشقن، يغنين، لكن لا يكتبن: أين شاعرات الأغنية في مصر؟
المرأة جزء أساسي في الغناء منذ قديم الأزل، بدايةً من الأساطير اليونانية، ملحمة الأوديسة، و«السيرينيات»، هي مخلوقات مثل حوريات البحر، لهن أجنحة طيور وأجساد بشر، وأصوات عذبة تسلب من يسمعها فيذهب إليهن دون أن يشعر. وفي الأساطير المصرية «النداهة»، وهي أنثى جميلة صاحبة صوت عذب، تسلب من يسمعها وتسحره وتصيبه بالجنون، وهكذا كان الغناء نوعًا من أنواع الغواية الساحرة.
وحتى المرأة بعيدًا عن القاهرة، في الدلتا والصعيد، تجدها تحفظ عديدًا من أغاني وأمثال الفلكلور والتراث والحكايات الشعبية. ومع بداية تاريخ الغناء في مصر، تجد الأسطورة النسائية تقف ندًّا لنِد أمام الأسطورة الرجالية، عبده الحامولي وأمامه ألمظ، ثم منيرة المهدية وأم كلثوم وفيروز وصباح، وهكذا حتى وقتنا، الأصوات النسائية موجودة ولها مكانة كبيرة في الساحة الفنية.
لكن نظرةً على تاريخ الموسيقى، كعلم وفن، لن تجد العنصر النسائي في أماكن أخرى غير الغناء، قليلة جدًّا، فكانت بهيجة حافظ أول من ألف مقطوعات موسيقية، وعواطف عبد الكريم مؤلفة موسيقية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. وفي التلحين هناك نادرة أمين ولور دكاش، ولأم كلثوم تجربتين في التلحين، وأيضًا عايدة الأيوبي، بجانب بعض التجارب المستقلة، مثل مريم صالح ودينا الوديدي.
الندرة والتعجب: الأنثى المبدعة في غير الغناء
دائمًا ما كان يُشار إلى التجارب السابقة من باب الندرة والتعجب، يُحتَفى بها فقط لأنها دخلت ذلك المجال، لا لِما قدمته من أعمال. لا تخضع للتقييم بشكل فني أو نقدي، بجانب أنها كانت تجارب ضعيفة لم تضِف جديدًا أو تقدم أي شيء إلى الموسيقى بشكل عام.
ربما كان من الحق الاعتراف، فإن كانت هناك تجارب بسيطة، فهي بكل تأكيد تجد صعوبة في التقديم أو التطوير في ظل السيطرة الذكورية، لكن رغم ذلك نجد عازفات حققن نجاحًا عظيمًا في تخصصهم، مثل إيناس عبد الدايم ومنال محيي الدين وبسمة عبد العزيز.
محاولات البحث عن «البداية»
كتبت نبيلة قنديل أغانٍ من وجهة نظر ومشاعر الأنثى لفايزة أحمد وشادية، مثل «أبو عيالي» و«رايحة فين يا عروسة».
البداية كانت مع المونولوجست والشاعرة نبيلة قنديل، التي اعتزلت الغناء واتجهت إلى كتابة الأغاني، وكوّنت مع زوجها الموسيقار علي إسماعيل ثنائيًّا قدم الكثير في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات والسبعينيات. كتبت أغانٍ عديدة لـ«الثلاثي المرح» و«فرقة رضا»، مثل «هاتوا الفوانيس» و«أهو جه يا ولاد» و«أنا حلوة» و«وحياتك يا بابا» و«حلاوة شمسنا».
كان لدى نبيلة قُدرة الكتابة للأطفال بشكل جميل وبسيط، تكتب بإحساس الأم والطفلة في آنٍ واحد، فكتبت عديدًا من الأغاني التي تعبِّر عن هذا المزيج بين الأمومة والطفولة، مثل «أهو جه يا ولاد» و«الحدوتة»، وهي قصة للأطفال من فيلم «حرامي الورقة».
كتبت نبيلة لفايزة أحمد وشادية، أغانٍ خفيفة من وجهة نظر ومشاعر الأنثى، وكان ذلك جديدًا على الساحة الغنائية، مثل «أبو عيالي» لفايزة، ولشادية «رايحه فين يا عروسة» و«يا عشرية». وقتها كانت الأغنية تفتقد التعبير بصوت ومشاعر أنثى، لا أنثى تتحدث بما يراها عليه الرجل. وكتبت نيلة أيضًا الأغنية الأشهر لعايدة الشاعر «كايدة العُزّال».
اقرأ أيضًا: أصوات نسوية متمردة فوق مسرح الموسيقى المستقلة
كتابة الأنثى الوطنية واختلافها
المكان الجديد والمختلف الذي اقتحمته نبيلة قنديل كان الأغاني الوطنية، فنجدها تكتب الأغنية الأشهر لحرب أكتوبر «رايحين شايلين في إيدنا سلاح».
ولم يكن أحد بقادرٍ على أن يكتب أغنية مثل «أم البطل» غير قنديل، أن تكتب من وجهة نظر أم استشهد ابنها، ثم تغنيها شريفة فاضل التي مات ابنها في الحرب بالفعل، لتخرج لنا واحدة من أحلى أغاني حرب أكتوبر. هذه الأغنية كتبتها نبيلة بناءً على طلب شريفة فاضل، وكتبتها في غرفة ابن شريفة الشهيد.
تجارب أنثوية أخرى
ممن برزوا في تلك الفترة أيضًا عليّة الجعار، التي كتبت أغانٍ لكثير من المطربين، مثل مها صبري وياسين الخيام ومحمد الحلو ومحمد رشدي وشهرزاد وعليا التونسية ونجاح سلام، لكن أكثر ما تميزت به كان الأغاني الدينية، ومن أشهرها الأغنية الأخيرة لشادية قبل اعتزالها، التي غنتها في الليلة المحمدية عام 1986، «خُد بإيدي».
ومن النوادر أغنية «إنت واحشني» لسيد مكاوي، كلمات الشاعرة آمال شحاتة، وربما كانت الأغنية الوحيدة لها، لكنها توضح أننا كنا أمام تجربة شعرية غنائية جديدة. ويمكن ملاحظة ذلك من الموسيقى الجديدة التي قدمها مكاوي في الأغنية، خصوصًا استخدام الآلات الموسيقية الغربية.
شاعرة الثمانينيات إيمان البكري
كانت الشاعرة إيمان البكري تكتب الشكل الزجلي، أو ما يسمى «الحلمنتيشي»، منذ ثمانينيات القرن الماضي، وحتى من قبل أحداث ثورة 25 يناير، فقدمت لفرقة «مسار إجباري» أغنية «مافيش حاجة»، التي كانت من أشهر وأنجح أغاني الفرقة في بدايتها الفنية، ثم غنى رامي عصام مع الثورة عدة أغاني سياسية من كلماتها كذلك.
ورغم أن السياسة كانت التركيز الأول لإيمان البكري، فإنها قدمت في بدايتها مع أنغام أغنية عاطفية هي «وتعالى نحب صح»، في ألبوم «لالي لي لالي» عام 1988، لكنها لم تقدم تجربة كاملة يمكن الحكم عليها أو تقيمها كشاعرة غنائية.
هند القاضي: التجربة غير المكتملة
مع التسعينيات، ظهرت الإعلامية والشاعرة هند القاضي، وقدمت أغانٍ لمحمد الحلو، مثل «إنتي وأنا» و«قالوا»، ولأنغام «غيرتني» و«تتغير» و«قلبك معدش ملكك»، والأخيرة نجحت بقوة. وأيضًا كتبت لديانا حداد أغنية «أول مرة»، ولمطربة تسعيناتية تُدعى «لينا» عدة أغانٍ، وغنى لؤي كذلك من كلماتها «تسألني ليه».
لكن الأغنية الأهم والأشهر للقاضي، والتي توضح شكلها في الكتابة، كانت أغنية محمد منير «عنقود العنب»، وهي من أغنيات منير المهمة، التي أكدت شكله المختلف في التعامل مع الكلمات. لكن الأغنية تدل كذلك على ذكاء هند في كتابة الأغاني لكل مطرب حسب شخصيته.
لكن كعادة أغلب التجارب النسائية في الكتابة، لا يزال ما قدمته هند القاضي غير مكتملة للحكم عليه أو تقييمه ونقده، كجزء مؤثر من التجربة الغنائية في فترة ما.
شاعرة غلبت الرجال: كوثر مصطفى
أغنية «ليلة واحدة»، التي كتبتها كوثر مصطفى، تحمل تلميحات جنسية لا تخدش حياء أحد، ولا تُشعرك أنك أمام مشهد جنسي صريح.
التجربة الوحيدة التي تستحق أن توضع بين شعراء الأغنية من الرجال، بل وربما تتفوق على كثير منهم، وتتقاسم مع عصام عبد الله تجديد شكل الأغنية، هي تجربة كوثر مصطفى، التي من ملامحها القدرة العظيمة على الكتابة بشكل غنائي سلس، وإيجاد مفردات جديدة، وشكل جديد للأغنية.
قبل التحدث عن تجربتها الأهم مع محمد منير، نقف عند تجربة كوثر الأخرى، أغنية «شِدِّي الضفاير» لحنان ماضي، وهي تجربة جديدة في الأغنية، أنثى تطلب من أمها أن تقيِّدها وتقيِّد مشاعرها، التي هي في الأغلب مشاعر عاطفية ممزوجة بمشاعر جنسية. هكذا كانت كوثر مصطفى تكتب عن الجنس بكل أنوثة وجمال وخفة، تخترق أماكن جديدة في الأغنية بجرأة وثقة.
اقرأ أيضًا: لماذا تشعر المرأة العربية بالعار عند التفكير في الحب أو الجنس؟
كي نؤكد فكرة اللعب مع الجنس، نعود إلى محمد منير، وهي التجربة الأهم في تاريخ كوثر مصطفى ومنير كذلك.
نحن أمام أغنية من أحلى ما قدّم تلميحات جنسية في كل شيء، تصوير الأغنية، اسمها «ليلة واحدة». تفعل كوثر ذلك دون أن تخدش حياء أحد، دون أن تُشعرك أنك أمام مشهد جنسي صريح، تنقل مشاعر الجنس دون أن ثير اشمئزازك. كل كلمة في الأغنية لها مدلول جنسي، تارةً بشكل غير صريح وتارةً بصورة واضحة، ما خلق واحدة من أحلى أغاني محمد منير.
كوثر من أكثر الشعراء الغنائيين تنوعًا، لكنك في الوقت نفسه تشعر ببصمتها في الأغنية، فمَن تكتب «علِّي صوتك بالغُنا» هي من تكتب «أجمل حكاية»، ومن تكتب ثائرةً في أغنية «بنات» هي من تقول «يا بنت ياللي»، وهي الأغنية القائمة على قصة شعبية لفتاة تُمنَع من زواج ممن تحب، ويُفرض عليها الزواج من ابن عمها، فتشترط أن يكون الزفاف بعد أن تنتهي من غزل القُفطان، فكانت تغزل في الصباح ثم تفك كل ما غزلته ليلًا.
«يا بنت ياللي بتغزلي قُفطانه
غزل الصبح لي ع الليل تحلى خيطانه
يا غنوة خايفة تغني، يا طيري اللي شارد مني»
كوثر مصطفى هي صاحبة أغنية السلام الأشهر لمنير، «مدد يا رسول الله»، وهو من اختارها لتكتب الكلمات على اللحن لمعرفته قيمتها وموهبتها.
كتبت كوثر الأغنية الأكثر غموضًا لمنير، حين قال: «حَطّ الدبلة وحط الساعة، حط سجايرُه والولاعة»، وكتبت له كذلك الجملة الثورية الأشهر في تاريخه: «طول العُمر العسكر عسكر، بس الناس، الناس كَت ناس».
بعيدًا عن هذه الجملة، نرى في المقطع الأول للأغنية كيف عبّرت كوثر مصطفى عن إحساس ذاتي جدًّا، لكن في نفس الوقت يمكن للجميع أن يشعروا به، وكأنه خارج من كل واحد منا على حدة، كأنه يعبِّر عنه هو فقط.
كيف عبّرت كوثر عن الروتين اليومي وساقية الحياة والعمل، التي يمكنها أن تسلبك كل مشاعرك الإنسانية؟ كيف عبّرت كوثر عن إحساس كل فرد شارك في ثورة 25 يناير، من قبل أن تقع أحداثها بأكثر من 10 سنوات؟ كيف رأت ذلك؟
«قمري انطفى وانكفى واختفى
نهري ما بلِّش حتى الريق
وآه يا براح عمّال بيضيق
صُبح وزَيُّه الصبح التاني
ليل ملضوم في الليل التاني
وأنا مش رايح أنا مش جاي
أنا مش واقف حتى مكاني»
كوثر هي صاحبة أغنية السلام الأشهر لمنير، «مدد يا رسول الله»، وهو من اختارها لتكتب الكلمات على اللحن، لأنه يعرف قيمتها وموهبتها، وقدرتها على كتابة أغنية تعيش وتعيش، وتستطيع توصيل ما يقوم عليه فكرة الألبوم.
تعاملت كوثر مصطفى مع الفلكلور أيضًا في أغنية «سُو يا سُو»، وكوّنت ثلاثيًّا مع منير وحسين الإمام في أغنية «يابا يابا». ولها تجربة مختلفة عن كل ما سبق وعن كل أعمالها، هي أغنية «جَت الحرارة»، التي غنتها يسرا بصحبة حسين الإمام.
«جت الحرارة يابادابادو، غسلِّي قلبي بالشامبو
وآه من إيه، سَبلِّي بإيه ابن الإيه
أنا بنت عادية، أنا مش مادية
ناداني وهعمل إيه
عزمني على ديفيلية، ولبست له سواريه
تقولش حورية أو زهرة برية، ناداني وهعمل إيه»
كتبت كوثر مصطفى الأغنية الأشهر في مسلسلات الأطفال «بكار»، فحولتها من أغنية لمسلسل أطفال إلى أغنية يحبها ويرددها الكبار قبل الصغار.
نحن أمام تجربة شعرية غنائية من أهم تجارب هذا الجيل، كتبت تدافع عن منع الختان للإناث في أغنية «مين» من فيلم «دنيا»، وبكلام بسيط عبّرت عن المشكلة بكل جوانبها وأضرارها.
كانت كوثر مصطفى قائدة الثورة الأنثوية في الأغنية، بكل جمال الأنثى ومشاكلها وجرأتها.
«مين مين، مين يجز بإيده الورد
مين مين، يقص قَصد جناح عصفور
مين مين، مين يجرِّي دموع عَ الخد
مين مين، يطفِّي بقساوة شعاع نور
مين مين، مين إيديه بتفرح بالدم
مين مين، بجرح عمره ما يوم يتلم»
ولكوثر أيضًا تجربة مع الأطفال والمسرح الغنائي، فهي صاحبة الأغنية الأشهر في مسلسلات الأطفال «بكار»، التي حوّلتها من أغنية لمسلسل أطفال إلى أغنية يحبها ويرددها الكبار قبل الصغار.
تجربة كوثر هي الأهم والأشمل، كانت تجربة أقرب إلى المشروع الفني، مشروع للثورة النسائية في الغناء، تقوده سيدة، استطاعت بكل جمال وجرأة أن تعبِّر عن الأنثى، وعن الحياة في أغلب ظروفها من عقل وقلب أنثى.
شاعرات الجيل الجديد
لـ«مسار إجباري» تجربة مهمة مع شاعرتين من الجيل الجديد: آمار مصطفى التي كتبت مجموعة من أنجح أغاني الفرقة، «اقرأ الخبر» و«المرور» و«أوقات» و «إنك تطير»، ودعاء عبد الوهاب، التي كتبت «تقع وتقوم» و«ماتخافش» و«قلبك ده عنواني» و«زيك أنا».
تجربة آمار مصطفى هي الأكثر تجديدًا، خصوصًا في أغنية «اقرا الخبر»، أما دعاء فكانت تقليدية ونمطية، ربما كانت جميلة، لكنها لا تحمل حسًّا ثوريًّا في التجديد، أو التعبير كأنثى من جيل الثورة.
يصعب الوقوف على أسباب ندرة شاعرات الأغنية في التاريخ الموسيقي المصري الحديث، خصوصًا أن الموضوع العاطفي يشكل النصيب الأكبر من المنتج الغنائي.
يُقال إن العاطفة من مواضيع المرأة الشاغلة، وهي الأقدر على كشف المزيف من الحقيقي فيها. ورغم ذلك، فالتاريخ لا يعرف عبر سياقه الأدبي الطويل عددًا كبيرًا من الشاعرات. الخنساء وولّادة بنت المستكفي نموذجان يندر تكرارهما في الأدب العربي، وشعر الأغنية المصرية لا يختلف كثيرًا عن ذلك السياق، ربما بسبب الهيمنة الذكورية على كل مناحي الحياة، يعاني الإبداع الأنثوي كي يخرج وسط ظروف صعبة للغاية.
شريف حسن