على أكتاف النساء: السينما المصرية قبل طلعت حرب
«طلعت حرب رائد صناعة السينما في مصر». على الأرجح مرت عليك هذه الجملة ولو مرة من قبل، وقعت عيناك عليها في أحد الكتب أو الجرائد، أو سمعتها بأذنيك عبر موجات الأثير، أو تلقيتها كمعلومة مجزوم بها في برنامج تلفزيوني. ولا يبدو ذلك مستغرَبًا في ظل تأصُّل القراءة الذكورية للتاريخ عمومًا والسينمائي بشكل خاص، في إطار ثقافة تُعَزِّز مكانة الرجل على حساب المرأة وتمنحه الأسبقية، حتى لو كانت هي من مهد الطريق، مثلما هو الحال في السينما المصرية.
حملت النساء على عاتقهن تأسيس هذه الصناعة، وخرج إلى النور أول فيلم مصري صامت في عام 1927 بفضل امرأة مصرية تُدعى عزيزة أمير، بحسب كتاب «Encyclopedia of Arab Women Filmmakers»، وقال لها طلعت حرب نفسه: «لقد نجحتِ يا سيدتي في إنجاز ما عجز عنه الرجال».
في ما يلي، نستعرض دور السيدات الأوليات في تأسيس صناعة السينما في مصر، وكيف أنّثن أدوارًا أضحت ذكورية الاَن، مثل الإنتاج والإخراج والتأليف.
عزيزة أمير: سيدة السينما الأولى
المثير في مسيرتها لا يتوقف عند حد التمرد على التقاليد المجتمعية أو دخول معترك لم تسبقها إليه امرأة أخرى، رغم أنه كان لا يزال في مهده ونجاحه لا يوازي نجاح المسرح، وإنما يمتد إلى الصمود الذي اتسمت به خلال مسيرتها الفنية، منذ بدأت تتحسس خطواتها الأولى في مجال التمثيل عام 1926، عندما انضمت إلى فرقة «رمسيس» المسرحية التي أسسها يوسف وهبي.
واجهت أمير رفضًا من داخل الفرقة ومن خارجها، عندما اختارها وهبي لدور البطولة في مسرحية «أولاد الذوات»، بعد أن رأى صورة أرسلتها كوجه جديد يبحث عن فرصة في أيٍّ من مسرحيات فرقته، وهو ما اعتبرته ممثلات الفرقة تعديًا على حقهن في البطولة التي طالما حلمن بها، وتبديدًا لآمالهن في الشهرة الواسعة، لا سيما بعد اعتزال روز اليوسف النجمة الأولى في ذلك الوقت، واتجاهها إلى الصحافة.
انطلقت حملة عدائية ضدها من داخل الفرقة وخارجها، وذاعت أخبار عن أن علاقة سرية تجمعها بيوسف وهبي، وهي سبب إسناد البطولة إليها. ومع ذلك، أصر يوسف وهبي على اختياره، وكان من اختار لها اسم «عزيزة أمير» بدلًا من اسمها الحقيقي مفيدة غنيم. وردًّا على تلك الحملة الشعواء، أطلق حملة دعائية ضخمة للمسرحية، وبرزت صورة أمير في الأخبار والإعلانات مصحوبة بلقب «نجمة فرقة رمسيس الجديدة».
لم تحقق المسرحية النجاح المأمول، واضطر وهبي إلى إيقاف عرضها بعد ثلاثة أسابيع، وحُمِّلت عزيزة أمير مسؤولية الفشل وحدها، فكتبت روز اليوسف في مجلة «التمثيل» (مجلة أسبوعية فنية مصورة) تنتقد المسرحية، وتعاتب أصحاب المسارح لأنهم يفتحون الباب لأي عابرة سبيل على حد وصفها. وكتب أنور محمد في جريدة «البلاغ» يقول إن فشل «أولاد الذوات» يؤكد أن العلاقات الخاصة لا تصنع نجمة.
ربما ظن هؤلاء وجميع المعارضين لعزيزة أمير أن ما أرادوه تحقق عندما انسحبت من فرقة رمسيس، لكن ما تبين تباعًا كان أن قرارها لم يكن استسلامًا، وإنما كان قرارًا بالسير في طريق اَخر من أجل الحلم نفسه، وكان الطريق هو السينما، لتصبح السيدة الأولى في هذا المجال.
الصحف التي كانت تهاجم عزيزة أمير تلقت خبر صدور فيلمها «ليلى» بكثير من الترحيب والفخر.
عقب اتفاق بينها وبين المخرج التركي «وداد عرفي» في بداية العام 1926، أنتجت عزيزة أمير أول فيلم روائي صامت، من بطولتها وكتابة عرفي، واتفقا على أن يكون هو البطل والمخرج، لكن خلافًا وقع بينهما فانسحب من الفيلم، فوجدت نفسها في مأزق إعادة شغل الأدوار التي أفرغها رحيله، فاستعانت باستيفان روستي ليستكمل مشاهده، وقررت أن تستكمل هي إخراج الفيلم، وتولت كذلك مهمة المونتاج.
اختارت أمير للفيلم اسم «ليلى» بدلًا من «نداء الرب» الذي اختاره عرفي، وعُرِض الفيلم في سينما المتروبول في القاهرة في 16 نوفمبر من العام 1927، وحضر العرض الخاص عدد من الشخصيات العامة، على رأسها الشاعر أحمد شوقي، ورجل الاقتصاد طلعت حرب.
تلقت الصحف التي كانت تهاجم عزيزة أمير خبر صدور الفيلم بكثير من الترحيب المصبوغ بالفخر. وبحسب حوار صحفي أجرته أمير مع مجلة «العروسة» في 28 أغسطس 1928 (أعادت مجلة «السينما» نشره في 1967 احتفالًا بمرور 40 عامًا على البداية الحقيقية للسينما، على يد عزيزة أمير)، فإن صاحب سينما متروبول طلب منها إعادة عرض الفيلم أسبوعًا آخر بعد نجاح عرضه في الأسبوع الأول، لكن خلافًا في توزيع الأرباح بينهما تسبب في رفضها استمرار العرض لأسبوع آخر.
عرضت عزيزة الفيلم في سينما محمد علي في الإسكندرية، وفي عدد من المدن المصرية مثل بورسعيد وطنطا والزقازيق والمنصورة وزفتى، وتحدثت في الحوار نفسه عن اتفاقات لعرضه خارج مصر، في سوريا وفرنسا وبلجيكا.
اختتمت عزيزة أمير مشوارها السينمائي بفيلم «آمنت بالله»، الذي احترق بعض فصوله في حريق القاهرة عام 1952.
قول الشاعر الأندلسي أبي البقاء الرندي «يفوز باللذات كل مغامرِ» هو أصدق ما يصف الذي فعلته عزيزة أمير، فقد خاضت المغامرة دون خوف من النتائج، وتغلبت على العقبات التي اعترضت طريقها. وبعد نجاح تجربة «ليلى»، أسست في ما بعد شركة إنتاج سينمائي أسمتها «إيزيس»، وأنتجت نحو 24 فيلمًا، شاركت هي في تأليف 16 وبطولة 18 منها، وأخرجت بعد «ليلى» فيلمًا واحدًا هو «كفّري عن خطيئتك» عام 1933.
كانت أمير أول من أنتج فيلمًا سينمائيًّا يتناول القضية الفلسطينية، في خضم حرب 1948. وفضلًا عن الإنتاج، كتبت القصة، واختارت له اسم «فتاة من فلسطين»، وأخرجه زوجها محمود ذو الفقار، في إطار تعاون طويل استمر بينهما حتى فيلمها الأخير. وقد حاولت من خلال قصة حب بين فتاة فلسطينية وضابط مصري سَبْرَ أغوار الحرب وواقع المقاومة الفلسطينية، وعُرِض الفيلم في 1 نوفمبر عام 1948، أي خلال الحرب.
اختتمت عزيزة أمير مشوارها السينمائي بفيلم «آمنت بالله»، الذي أنتجته ومثلت فيه، لكنه تعرض لأزمة كادت تجعله مشروعًا غير مكتمل، عندما احترقت بعض فصوله في حريق القاهرة يناير عام 1952، واستحالت إعادة تصوير ما فُقِد من مَشاهد، بعد أن وافتها المنية عقب يومين فقط من الحريق، فأجرى محمود ذو الفقار تعديلات على قصة الفيلم، وعرضه في 3 نوفمبر عام 1952 في سينما كوزومو في القاهرة.
اقرأ أيضًا: أبرز الأفلام التي تناولت حياة وقضايا المرأة العربية
بهيجة حافظ: المثقفة الحقيقية في جيل الرائدات
كانت أسرة بهيجة حافظ تهوى الموسيقى، لكنهم عارضوا اشتغالها بالتأليف الموسيقي بسبب النظرة الدونية التي سادت بين العائلات الأرستقراطية تجاه العاملين في المهن الإبداعية.
الاسم الثاني في قائمة رائدات السينما هو بهيجة حافظ، وهي رائدة في عالم الموسيقى قبل أن تكون كذلك في السينما، فهي أول امرأة تشتغل بالتأليف الموسيقي. وبحسب حوار أجرته مع مقدمة البرامج المصرية جيلان حمزة في عام 1965، فقد ألفت أول مقطوعة موسيقية وهي في عامها التاسع، واختارت لها اسم «بهيجة».
وصفها الناقد سمير فريد، بحسب ما يذكره كتاب «موسوعة صانعات الأفلام العرب»، بالمثقفة الحقيقية في جيل الرائدات، وربما يعود ذلك إلى سببين:
- تعلمها الموسيقى واللغات، وانفتاحها على الثقافة الغربية منذ الصغر
- تأسيسها صالونًا ثقافيًّا، كان واحدًا من أكثرها جذبًا للفنانين
تنتمي بهيجة حافظ إلى الطبقة الأرستقراطية، فهي ابنه إسماعيل حافظ باشا، الموظف السابق في الخاصة السلطانية في عهد السلطان حسين كامل، وانتقلت مع أسرتها من الإسكندرية إلى باريس، حيث حصلت على شهادة في الموسيقى من الكونسرفتوار.
ورغم أن أسرتها كانت تهوى الموسيقى وتعزفها، فقد عارضوا اشتغالها بالتأليف الموسيقي وأزعجهم ذيوع اسمها في ذلك المجال، انطلاقًا من النظرة الدونية التي سادت بين العائلات الأرستقراطية تجاه العاملين في المهن الإبداعية، والتي يصحبها مزيد من التشكك والريبة إن كانوا من النساء. ومع ذلك، لم تثنها معارضتهم عن المضي قدمًا في عالم الموسيقى، ومن ثَمّ اقتحام عالم السينما.
اختارها المخرج محمد كريم لبطولة فيلم «زينب» الصامت، بعد أن نشرت مجلة «المستقبل» صورتها على الغلاف عام 1929 مصحوبةً بجملة «أول مؤلفة موسيقية مصرية». وبعد نجاح الفيلم، وبحسب «مذكرات محمد كريم: في تاريخ السينما المصرية»، اختارها يوسف وهبي للوقوف أمامه في فيلم «أولاد الذوات»، الذي كان من المقرر أن تؤدي دور البطولة فيه عزيزة أمير، لكن ذلك تعذّر لظروف ما.
وبعد الاتفاق وبدء التصوير، نشب خلاف بينها وبين وهبي والمخرج محمد كريم، انسحبت على إثره من الفيلم وتطور الأمر إلى نزاع قضائي، حتى ذهب الدور في نهاية المطاف إلى أمنية رزق، وكانت هذه الواقعة دافعًا قويًّا لبهيجة حافظ لتأسيس شركة إنتاج سينمائي باسم «الفنار»، لتقدم من خلالها أفلامها.
أنتجت الشركة أربعة أفلام، هي «الضحايا» (نسختان، صامتة وناطقة)، و«ليلى البدوية» أو «ليلى بنت الصحراء»، و«الاتهام»، وأخيرًا «زهرة» أو «زهرة السوق» الذي عُرض في سبتمبر 1947 في سينما مترو.
جاء فيلم «الضحايا» بعد فترة انقطاع دامت 10 سنوات، بعد خسارة مالية كبيرة لبهيجة حافظ بسبب إيقاف عرض فيلم «ليلى بنت الصحراء» أو «ليلى البدوية»، الذي ألفته وأخرجته وأنتجته وكانت بطلته، وهي مَن وضع موسيقاه التصويرية وصمم أزياء شخصياته، وقد عرض في مصر في يناير 1937، وكان أول فيلم ناطق يمثل مصر في مهرجان برلين السينمائي وينال إحدى جوائزه.
كان من المزمع عرض الفيلم في مهرجان البندقية عام 1939، لكن قرارًا من الخارجية المصرية صدر ليمنع عرضه في الداخل والخارج، بعد احتجاج الحكومة الإيرانية ضده بحجة الإساءة إلى تاريخ ملك الفرس القديم «كسري أنو شروان». أذعنت الحكومة المصرية لإيران إرضاءً للأمير الإيراني محمد رضا بهلوي ولي العهد، لا سيما أنه قد أضحى زوج الأميرة فوزية شقيقة الملك فاروق.
اقرأ أيضًا: الإبداع المشروط: هل حصلتَ على موافقة السلطة والمجتمع ورجال الدين؟
بسبب الخسارة المالية الضخمة التي تجاوزت 60 ألف جنيه، توقفت بهيجة حافظ عن الإنتاج السينمائي، فأسست صالونًا ثقافيًّا موسيقيًّا، كان مساحة لاكتشاف عديد من المواهب الفنية صارت علامات في الحركة الفنية المصرية، مثل الموسيقار أبو بكر خيرت والمطرب محمد عبد المطلب، ولم تعد إلى السينما إلا بعد 10 سنوات.
ما ميز بهيجة حافظ عن غيرها من رائدات السينما أنها ألفت الموسيقى التصويرية لكل أفلامها باستثناء «القاهرة 30»، الذي شاركت بالتمثيل في مشهد واحد منه، وألفت الموسيقى التصويرية فقط في فيلم «السيد البدوي»، من إنتاج عام 1954.
فضلًا عن تلحينها لعدد من أغاني أفلامها، مثل أغنية «ليت للبراق عينًا»، التي غنتها حياة محمد في فيلم «ليلى البدوية/ ليلى بنت الصحراء» إنتاج 1937، وأعادت تقديمها المطربة أسمهان، وقيل حينها إن ملحنها هو محمد القصبجي. ويعود الفضل إلى حافظ في تقديم صوت ليلى مراد لأول مرة في السينما، في النسخة الناطقة من فيلم «الضحايا» التي عُرِضت عام 1935، بعد أن اختارتها لتؤدي أغنية حملت اسم «يوم صفا»، لحنتها بنفسها، وكتب كلماتها حسين حلمي.
اختفت بهيجة حافظ عن الساحة السينمائية بعد فشل فيلم «زهرة/زهرة السوق» تجاريًّا، ولم تظهر على الشاشة الذهبية مرة أخرى سوى في مشهد من «القاهرة 30»، إنتاج عام 1966، أدت فيه دور الأميرة «شويكار»، ثم ابتعدت مجددًا عن الساحة السينمائية، ولم يعد اسمها إلى الواجهة مرة أخرى حتى عندما وافتها المنية عام 1968، فلم ينعها أحد في الصحف أو يرثها أحد الفنانين.
فاطمة رشدي: سارة برنار الشرق
قدمت فاطمة رشدي أفلامًا لم تحقق أي نجاح جماهيري، مثل «فاجعة فوق الهرم» و«الزواج»، ثم تبدلت الأمور وقدمت أحد أهم الأفلام المصرية: «العزيمة».
تشترك فاطمة رشدي مع عزيزة أمير وبهيجة حافظ في أنهن سكندريات انتقلن إلى القاهرة لتلبية نداء الفن، لكن ما يميز رشدي عن الأُخريين أنها قضت الجانب الأكبر من طفولتها في كواليس المسرح، إذ كانت، بحسب ما روته في مذكراتها، تلازم شقيقتها إنصاف التي تغني ضمن الكورس في أحد مسارح الإسكندرية، وهو الأمر الذي رفضته أمها في البداية، إلا أن الحاجة المالية الملحة أرغمتها على القبول بهذا العمل، لا سيما بعد أن ساءت أحوال الأسرة عقب وفاة الأب.
انتقلت الأم وبناتها إلى القاهرة بعد وعد من سيد درويش بضم الشقيقتين إلى فرقة «العشرة الطيبة»، لكن انتقالهن جاء متأخرًا بعد أن حُلّت الفرقة، فضمهما نجيب الريحاني إلى فرقته «كشكش بك»، لتبدأ رحلة فاطمة الصغيرة مع المسرح، فتتنقل بين هذه الفرقة وتلك، حتى تستقر في فرقة «رمسيس»، وتبدأ بأدوار صغيرة، حتى تنال أدوار البطولة وتصبح نجمة الفرقة.
كانت فاطمة رشدي طموحة إلى أبعد الحدود، ولم يشبعها أن تكون نجمة فرقة «رمسيس»، وهو اللقب الذي تحلم الممثلات صغيرات كن أو كبيرات بنيله، فقررت أن تشكل فرقة مسرحية باسمها، وقدمت نصوصًا عالمية، وحققت نجاحًا جماهيريًّا كبيرًا آنئذ، مثل روايات «غادة الكاميليا» و«النسر الصغير» و«مدام سان جين» و«حواء»، ولُقبت بـ«سارة برنار الشرق»، نسبةً إلى واحدة من أشهر ممثلات المسرح في أوروبا، وظل النجاح حليفها حتى اصطدمت بالكساد الذي حل بالمسرح في بداية الثلاثينيات بعد صعود السينما، بحسب ما أوردته في مذكراتها.
في أواخر العشرينيات، قدمت رشدي عددًا من الأفلام لم يحقق أيًّا منها نجاحًا، مثل «فاجعة فوق الهرم» عام 1928، ثم خاضت تجربة التأليف والإخراج في فيلم «الزواج»، الذي أنتجته وأدت البطولة فيه، وعُرض في 19 يناير 1933 في دار سينما أمريكان كوزموغراف في القاهرة، ولم يحالفه النجاح أيضًا. وعلاوةً على ذلك، أحرقت نسخة فيلم «تحت سماء مصر» الذي أنتجته عام 1928، بعد أن استشعرت رداءة مستواه وخشيت فشله.
تبدلت الأمور في عام 1939، وقدمت فاطمة رشدي واحدًا من الأفلام الرائدة في السينما المصرية: «العزيمة» للمخرج كمال سليم، وقد أدرجه المؤرخ والناقد الفرنسي «جورج سادول» ضمن قائمة أهم مئة فيلم في العالم.
ووفقًا لما أكدته رشدي بنفسها في برنامج «لسه فاكر»، الذي كان يذاع على شاشة التلفزيون المصري، فقد اختارها كمال سليم للاستفادة من شهرتها ونجوميتها، وقبلت هي العمل في الفيلم رغم أن الأجر كان هزيلًا بالنظر إلى حجم شهرتها ونجوميتها حينذاك، وكان مبعث ذلك إصرارها على خوض التجربة، بغية تحقيق النجاح في السينما مثلما فعلت في المسرح.
قد يهمك أيضًا: إسعاد يونس: إعلام يوافق هوى الدولة
أمينة محمد: الخروج عن النسق التقليدي
إلى جانب هؤلاء الرائدات، ظهرت على الساحة أمينة محمد التي لُقِّبت بـ«صعلوكة السينما»، وإن كانت تفتقد إلى وضوح الرؤية والمثابرة عكسهن، لكنها تبقى أكثرهن جرأةً وتحررًا وخروجًا عن النمط، بحسب «موسوعة صانعات الأفلام العرب».
حقق فيلم «تيتاوونج» نجاحًا جماهيريًّا بمقاييس عصره، رغم أنه تكلف 17 جنيهًا فقط، وصمد في مواجهة فيلم «ليلى بنت الصحراء» الذي بلغت تكلفته 65 ألف جنيه.
طرقت أمينة محمد باب المسرح أولًا، فبدأت ممثلةً في الفرق المسرحية الكبرى، وفي مقدمتها رمسيس والريحاني، وصاحَبَتها في هذه المرحلة ابنة أختها أمينة رزق.
وعلى غير المألوف، اتجهت إلى الرقص الشرقي، وانضمت إلى فرقة بديعة مصابني، وشاركت كراقصة في فيلم «شبح الماضي» عام 1934، لتتحول إلى التمثيل في عدد من الأفلام، مثل «الدكتور فرحات» عام 1935، و«100 ألف جنيه» عام 1936، و«الحب المورستاني» عام 1937، وهو نفس العام الذي قررت فيه أن تخوض تجربة الإنتاج السينمائي، رغم أنها لم تملك وقتها سوى 17 جنيهًا.
أسست أمينة محمد شركة «أمينة فيلم»، التي أنتجت فيلمًا واحدًا هو «تيتاوونج»، أخرجته بنفسها، وشاركت في كتابته مع نسيم عمار، وعُرض لأول مرة في 25 مارس عام 1937.
وفي حوار أجرته مع برنامج «النادي الدولي»، الذي قدمه سمير صبري، قالت إن الفيلم تكلف 17 جنيهًا، هو كل ما كانت تملكه من مال وقتذاك، وقد أسست استوديو صغيرًا على سطح إحدى بنايات شارع الجمهورية في القاهرة لتصوير أغلب مشاهد الفيلم.
شارك في «تيتاوونج» عدد من الوجوه الجديدة حينها، صاروا لاحقًا رموزًا في مجال الإخراج السينمائي، مثل صلاح أبو سيف وأحمد كامل مرسي وكمال سليم، فضلًا عن اكتشافها في هذا الفيلم الممثل حسين صدقي، الذي أضحى واحدًا من أهم نجوم السينما في فترة الأربعينيات.
حقق الفيلم نجاحًا جماهيريًّا بمقاييس عصره، وصمد رغم تكلفته المنخفضة في مواجهة فيلم «ليلى بنت الصحراء» لبهيجة حافظ، الذي بلغت تكلفته 65 ألف جنيه.
ومع ذلك، لم تستمر أمينة محمد في الإنتاج، ولا حتى في المجال السينمائي كله، واعتزلته تمامًا بعد سنوات معدودة، لتنخرط في عدد من المشروعات ذات الطابع التجاري.
فردوس حسن: الوجه الذي سبق عزيزة أمير
عند حصر أسماء الرائدات، لا يُذكر عادةً اسم فردوس حسن، رغم أنها ظهرت على الشاشة السينمائية قبل عزيزة أمير، إذ شاركت في فيلم «برسوم يبحث عن وظيفة»، وهو أول فيلم روائي قصير (صامت) يصوره ويخرجه مصري، محمد بيومي، وعُرض عام 1923، أي قبل إنتاج فيلم «ليلى» بأربع سنوات.
فرقة رمسيس المسرحية هي الشيء المشترك بين أغلب الرائدات، وكما كانت محطة مهمة في المسيرة الفنية لعزيزة أمير وفاطمة رشدي وأمينة محمد، كانت كذلك بالنسبة إلى فردوس حسن، ومنها انطلقت إلى السينما.
لم تخض فردوس تجربة الإنتاج السينمائي أو الإخراج، واحتفظت بدورها كممثلة فحسب، وقدمت نحو تسعة أفلام بين عامي 1923 و1948، أشهرها «سعاد الغجرية»، الذي عُرِض لأول مرة في 30 مايو عام 1928 في سينما متروبول، وقوبل بهجوم واسع من الصحافة المصرية وقتذاك بتهمة الإساءة إلى سمعة مصر.
اَسيا: التجربة الأكثر نضجًا
اَسيا هو الاسم الأكثر شهرةً بين رائدات السينما، واعتاد بعض النقاد وصفها برائدة الإنتاج السينمائي، وذلك بسبب النضوج الذي اتسمت به تجربتها، والعمر الذي عاشته شركة «لوتس» التي أسستها في عام 1928، واستمرت في الإنتاج السينمائي حتى 1967، لتكون الشركة الأطول عمرًا بين الشركات التي أسسها الرعيل الأول من المنتجات السينمائيات.
تركت اَسيا بلدها لبنان، وجاءت إلى مصر عام 1923، بحسب «موسوعة صانعات الأفلام العرب»، لتستقر في القاهرة مع شقيقتها وابنتها «ماري كويني»، التي أضحت ممثلة ومنتجة في ما بعد.
في عام 1927، تمكنت اَسيا من خوض غمار التمثيل السينمائي، بعد أن اختارها المخرج التركي وداد عرفي لتشارك كوجه جديد في أول فيلم روائي طويل، «ليلى»، إلى جانب عزيزة أمير. وكما أشرنا سلفًا، انسحب عرفي من الفيلم قبل إتمامه، لكن علاقته بآسيا استمرت، وتمكن من إقناعها بتأسيس شركة للإنتاج السينمائي، أنتجت أول أفلامها في عام 1929، كتبه وأخرجه عرفي، وشاركها بطولته.
اختير للفيلم في البداية اسم «النار في الصحراء»، لكنه عُرِض في الأول من مايو عام 1929 باسم «غادة الصحراء»، ليصبح باكورة إنتاجاتها السينمائية التي احتضنتها دور العرض في مصر ولبنان.
توقفت اَسيا عن الإنتاج بسبب خسارة فيلم «الناصر صلاح الدين»، لكنها لم تبعد عن المجال، وتولت مهمة الإنتاج لحساب المؤسسة العامة للسينما.
في بداية مشوارها الإنتاجي، اصطدمت بسلطة الرقابة ومُنع أحد أفلامها من العرض. وكما وقفت السلطة السياسية وراء منع فيلم «ليلى بنت الصحراء» لبهيجة حافظ، كانت سلطة رجال الدين خلف قرار الرقابة منع فيلم «عيون ساحرة»، الذي أنتجته وأدت بطولته عام 1934. لم يفهم الرقباء فكرة الفيلم، وبرروا منعه بحجة أنه يتعرض لإحياء الموتى، بينما يتناول الفيلم فكرة التنويم المغناطيسي.
وظل الصراع بين اَسيا والرقابة قائمًا حتى تدخل رئيس الوزراء وقتها وأجاز عرض الفيلم.
يبقى فيلما «رد قلبي» و«الناصر صلاح الدين» الأهم في مسيرة اَسيا وشركتها، لا سيما أن كليهما في قائمة أهم مئة فيلم في تاريخ السينما المصرية (باستفتاء النقاد عام 1996)، فضلًا عن أن الأول من أوائل الأفلام التي أنتجت بالألوان بنظام «سينما سكوب» في عام 1957، والثاني هو الأضخم إنتاجيًّا في تلك الفترة، إذ تكلف نحو 120 ألف جنيه، وهو رقم لم ترقَ إليه ميزانية أي فيلم في الستينيات.
استغرق إعداد «الناصر صلاح الدين» نحو سنتين ونصف، وعُرض في 25 فبراير 1963. وبحسب ما قاله المخرج يوسف شاهين في أحد برامج التلفزيون المصري، فإن اَسيا صرخت خلال التصوير قائلة: «شيلولي المجنون ده، دا هيخرب بيتي»، في إشارة إليه، بعد أن أنهكتها تكاليف الإنتاج بسبب دقة وتخطيط شاهين في تنفيذ المعارك الحربية.
المعروف للأغلب الأعم أن اَسيا توقفت عن الإنتاج بسبب الخسارة الكبرى التي مُنِيَ بها فيلم «الناصر صلاح الدين»، لكن الخسارة وإغلاق الشركة بعد الفيلم لم تبعداها عن مجال الإنتاج، فقد تولت مهمة الإنتاج لحساب المؤسسة العامة للسينما، التي أسستها الدولة المصرية في الستينيات، وقدمت كمنتج منفذ ثلاثة أفلام: «يوميات نائب في الأرياف» عام 1969، و«أوهام الحب» عام 1970، وأخيرًا «الشيطان والخريف» عام 1972.
لم تخلُ رحلة أيٍّ من رائدات السينما من الكبوات، ولم تكن النهايات في صالحهن، ومع ذلك، تبقى مسيرة كل منهن أشبه برحلة نضال ومقاومة، فلم تقتصر معاركهن على ظروف مادية صعبة أو قيود بيروقراطية أو مزاج جمهور متغير، وإنما خضن معارك ضد قواعد مجتمعية «تُذَكِّر» كثيرًا من المِهن، ونجحن في السطو على أدوار يصعب على سينمائيات هذا الزمان تأنيثها.
رنيم العفيفي