لقد سمعت عرائس البحر تغني: تطور صورة المرأة في السينما
في عام 1975، كتبت «لورا مَلفي»، صانعة الأفلام والمُنظّرة السينمائية والنسوية، مقالها المهم «المتعة البصرية والسينما السردية»، وهو أحد النصوص المؤسسة لنظريات النسوية في السينما، ناقشت فيه الصور المختلفة التي تظهر فيها الشخصية النسائية في السرد السينمائي ورمزيتها وما تعبر عنه، باستخدام أمثلة من عدة أفلام ما قبل 1975.
طُرح مصطلح «التحديق الذكوري» لأول مرة في السينما، إذ تظهر الشخصية النسائية بعدة أدوار كلها محددة مسبقًا في معظم الأفلام، فهي إما تبحث عن شريك مناسب أو حب ضائع، أو تكون مساعدة للبطل الأقوى، أو ناجحة في عملها ومستقلة لكنها لا تمانع الاستقرار إذا وجدت الشخص المناسب، وهو ما تحصل عليه في النهاية، فالزواج وسيلة التحقق الوحيدة لها في نهايات معظم الأفلام.
«الرجال يمثلون، والنساء يظهرن». جون بيرغر.
في كل الأحوال، يجب أن تخدم جاذبية المرأة ومظهرها العام وحركات الكاميرا والإضاءة على وجهها وجسدها ما يتطلع إليه كلٌّ من: البطل الذكر، والمتفرج الذكر، والذكر الذي يحمل الكاميرا ويشاهد مستمتعًا، بشكل أشبه بالفويرزم (voyeurism)، أي الحصول على المتعة الجنسية من التلصص على الآخرين ومشاهدتهم يتعرون أو يمارسون الجنس.
نَبّهت مَلفي إلى أن الشخصيات الذكورية عادةً هم الأبطال والفاعلون، بينما المرأة «مكافأة» البطل أو الضحية، ويجب أن تظهر دائمًا بشكل جذاب على الشاشة. النساء في السرد السينمائي أشياء للعرض والتحديق والتلصص فقط.
سبق ذلك جُملة «جون بيرغر» الشهيرة: «الرجال يمثلون، والنساء يظهرون»، في كتابه «طرق الرؤية» الصادر عام 1972. ظهر الكتاب مصاحبًا لسلسلة حلقات تلفزيونية لهيئة الإذاعة البريطانية «BBC» قدمها بنفسه، وهو أحد أهم النصوص المؤثرة في تاريخ الفن.
«يحلم الرجال بالنساء، يحلم النساء بأنفسهن وبرجل آخر يحلم بهن. ينظر الرجال إلى النساء، تنظر النساء إلى أنفسهن باعتبارهن أشياء للعرض، للنظر إليها». جون بيرغر.
كتب بيرغر مُنظرًا عن صورة النساء في الأعمال الفنية عامةً وليس السينما تحديدًا، محللًا بعضًا من اللوحات الزيتية لنساء عاريات (nudes) من تاريخ الفن الأوروبي، وموضحًا كيف صُورت النساء بطريقة أثرت إلى الأبد في الشكل المُفترض أن يظهرن به، وكيف أثر ذلك في طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة، وعلاقة المرأة بنفسها وكيف ترى نفسها دائمًا، ليس بعينيها، بل بعيون الرسام والمتفرج، عيون ذكورية في الأساس.
اقرأ أيضًا: على أكتاف النساء: السينما المصرية قبل طلعت حرب
تغرق بطلة فيلم «لقد سمعت عرائس البحر تغني» في أحلام يقظة تتخيل فيها نفسها متحدثة لبقة تتكلم بشكل معقد، وتتخيل نفسها تصعد ناطحة سحاب أو تطير محمولة على مكنسة.
في عام 1987، صدر فيلم «I've Heard the Mermaids Singing» للمخرجة الكندية «باتريشيا روزيما»، وهو أول أفلامها، والحاصل على جائزة الشباب كأفضل فيلم روائي طويل في مهرجان كان لنفس السنة، وأحد الأفلام التي تُدرس في مناهج السينما، ولا زال يُعاد اكتشافه من قبل السينفليين (cinephiles: عشاق السينما) كل عام.
جاء الفيلم بطرح مختلف تمامًا عما عهده السرد السينمائي للشخصيات النسائية من قبل، فبطلاته الثلاثة من النساء، والشخصية الرئيسية فيه، «بولي» (شيلا مكارثي، في أول وأحد أفضل أدوارها)، لا تخضع للشكل المُتعارف عليه والمُنتظر من بطلة سينمائية، فهي ذات وجه طفولي وشعر أحمر، غير متحققة مهنيًّا، في الحادية والثلاثين من عمرها وتعيش بمفردها بعد وفاة والديها، تتنقل كثيرًا بين أعمال صغيرة وهامشية، ويقول عنها مديرها السابق إنها «ضعيفة تنظيميًّا»، لا تستطيع اختيار ما تأكل من قائمة الطعام في المطعم، وتطلب أن تشرب حليبًا في النهاية.
مع بداية الفيلم تبدأ «بولي» عملًا جديدًا لدى صاحبة غاليري، تُطلق عليها بولي طوال الفيلم اسم «الوصية»، وبحماسة الأطفال لاكتشاف الجديد تنبهر بولي بكل ما تفعله الوصية، وتراقب محادثاتها عن اللوحات الفنية مع أصدقائها بذهول ونَهَم.
تغرق بولي في أحلام يقظة، تتخيل فيها نفسها متحدثة لبقة تتكلم بشكل معقد وحر وبكلمات رنانة كما تفعل الوصية، رئيستها في العمل، مثلها الأعلى، تتخيل نفسها تصعد ناطحة سحاب أو تطير محمولة على مكنسة أحيانًا.
شغفها الوحيد هو التصوير، تمتلئ حوائط منزلها بصور التقطتها، وتقضي جُلّ وقتها في المنزل في تحميض وطباعة صورها، أو في الخارج لالتقاط المزيد.
لا يحدثنا الفيلم أبدًا عن محاولتها لمواعدة أحدهم أو ذهابها إلى الحفلات للبحث عن رفقاء، فقط عن محاولة اقترابها، غير المقصودة، من الحياة ومن الناس ومن الفن.
يأتي اسم الفيلم من قصيدة لـ«تي. إس. إليوت»، يقول فيها: «لقد سمعت عرائس البحر يُغنين، لبعضهن بعضًا، لا أعتقد أنهن سيغنين لي».
ماذا لو تلصص شخص بهذه الصفات وقادم من حياة محدودة على عالم الفن؟ على تعقيدات العلاقات بين أفراده، وطبيعة وديناميكية الصعود والترقي داخله؟
لا تتحول بولي إلى واحدة منهم، لن تستطيع في النهاية أن تتكلم مثلهم (إلا في أحلامها)، أو أن تكون على نفس القدر من الوعي الذاتي، بقدر ما يمسها الفن كشخص عادي.
تقول بولي عن الوصية: «أحببتُ فقط كيف تتكلم، وأردتها أن تعلمني كل شيء»، وتكمل في حديثها عن اللوحات: «لم أكن أُرغم نفسي على الادعاء بأني أحبهم، كانوا مثل سحر حقيقي».
يأتي اسم الفيلم من قصيدة لـ«تي. إس. إليوت» يقول فيها: «لقد سمعت عرائس البحر يُغنين، لبعضهن بعضًا، لا أعتقد أنهن سيغنين لي».
يتنقل الفيلم بين الأبيض والأسود للصور الثابتة التي تلتقطها بولي وخيالاتها وهي تطير أو تمشي على الماء، وبين الصور الملونة لباقي المشاهد.
لا يمكننا غض النظر عن التشابه بين بولي وبطل القصيدة، فكلاهما يشعر بالاغتراب بين آخرين من النساء أو عرائس البحر، كلاهما لا يجرؤ على البوح بما يدور في نفسه حقًّا، كلاهما هش ويشعر بضآلته ولم يختبر الحياة كلية بعد.
تلي مرحلة الانبهار والاستكشاف عند بولي مرحلة أخرى تفقد فيها الثقة بنفسها تمامًا، تحرق صورها وترمي كاميراتها، بعد تعليق الوصية على الصور بأنها ساذجة ولا تَنُم عن أي موهبة.
لكنها مرحلة لا تدوم طويلًا، إذ يأتي مشهد النهاية بباب يُفتح في شقة بولي على مكان واسع، أشبه بغابة في وضح النهار، مكان لم نره من قبل في الفيلم، تدخل فيه البطلات الثلاثة (بولي وصديقتاها)، وينتهي الفيلم، وكأن الباب محاولة للوصول إلى عالم آخر خاص بها، يمكنها فيه سماع عرائس البحر تغني، لكن هذه المرة تغني لها.
ينتقل الفيلم خلال 85 دقيقة، هي زمنه الكلي، عبر وسيطين: صورة الفيلم العادية والصورة الأقل جودةً المميزة لشريط الفيديو، إذ تصور بولي نفسها تحكي قصتها، تنظر إلينا مباشرةً وتحكي، وكأنها تُحطم البُعد الرابع.
يتنقل الفيلم أيضًا بين الأبيض والأسود للصور الثابتة التي تلتقطها بولي وخيالاتها وهي تطير أو تمشي على الماء، وبين الصور الملونة لباقي المشاهد.
تخبرنا «مارلين فيب» في كتابها «أفلام مشاهَدة بدقة» أن المتلصص هنا امرأة وليس ذكرًا. بولي متلصصة لكن على نحو مختلف: التلصص الذي أرادت لورا مَلفي إدانته وحظره من سينما النساء كان المتحكم، المشين، الذي يلغي وجود المرأة، الذي يختزل النساء إلى أهداف للإشباع الجنسي بُغية إدخال البهجة والسرور على المتفرجين الذكور. أما تلصص بولي فمستمد من الفضول، فضول طفل صغير يرغب في معرفة ما يفعله البالغون معًا عندما يكونون بمفردهم، فضول يتجاوز النوع.
شاشة السينما نافذة على العالم أصلًا، وفي السينما كلنا متلصصون.
بحسب فيب، تبتعد مخرجة الفيلم بشكل ملحوظ إلى حد كبير عن تقاليد السينما السائدة، وتتجه إلى نوع مختلف جوهريًّا من البطلة السينمائية، فالمظهر الحقيقي لبولي يقاوم تمامًا الطريقة التي تبدو عليها البطلات في الأفلام السائدة: إنسانة قليلة الحجم ولا يمكن الاعتقاد بأنها نجمة، ولو حتى بالخطأ، والكاميرا لا تعظّمها ولا تجعل منها مثالًا أو نموذجًا عبر استخدام تجميلي مبالَغ فيه للإضاءة والعدسات. لم يحدث أن صُورت بولي على نحو مثالي، ولا جُسدت في هذا الفيلم بإظهارها كهدف سلبي لتحديق الكاميرا (الذكورية)، في الأغلب تبدو خرقاء وغير جذابة.
ومع ذلك، تصير بولي في نهاية الفيلم جذابة للنظر إلى أبعد حد. ليس هذا لأن المخرجة شرعت في تصويرها بطريقة أكثر جمالًا ومبالغة، بل لأننا ببساطة تعرفنا إليها وأحببناها.
بالتالي فإن المخرجة تبين، أو تبرهن على، أن النساء لسن بحاجة إلى أن يكن مثيرات أو مثاليات كي يصرن فاتنات وبطلات سينمائيات جذابات.
40 عامًا مضت على مقال مَلفي، ولا تزال المرأة تُختَزل في الأفلام والمواد الإعلانية وكل صور الميديا، طبقًا وبما يخدم التحديق الذكوري. أفلام مثل «The Wolf of Wall Street» و«Fast and furious» وغيرهما، تجعلنا نتساءل عن ماهية الدور المسنود إلى الشخصيات النسائية فيها، وما يُضفنه فعلًا إلى السرد السينمائي غير مجرد «ظهورهن» على الشاشة.
ضحى حمدي