جاسوس يكتب قصصًا للأطفال
دال كان طفلًا محظوظًا للغاية، فلقد عاش تجربة يتمناها كل طفل في العالم. وهو في ال13 من عمره انتقل لمدرسة ريبتون، وفي تلك الأثناء كانت شركة كادبوري تقدم عينات شوكولاتة مجانية في المدرسة لمعرفة ماذا يفضل الأطفال.
ربما كنت جالسًا في صالة بيتك وبدأ التلفزيون عرض فيلم سيصبح في ما بعد واحدًا من أفلامك المفضلة، فيلم تشارلي ومصنع الشوكولاتة.
كانت بداية تشارلي ومصنع الشوكولاتة من خيالات رافقت روالد دال حين كان صغيرًا. كان الفتى يفكر أنه لا بد من وجود غرفة اختراعات في مصنع الشوكولاتة الكبير. كتب دال في واحد من خطاباته: «كنت أفكر حينذاك بأنه في مصنع كادبوري الكبير لا بد من وجود غرفة للاختراعات، وهي غرفة سرية يجتمع فيها الكبار نساء ورجالًا بثياب بيضاء بالكامل، وطوال النهار يقفون أمام قدور تغلي ويعبثون بخليط من الكاكاو والسكر، الفوضى تملأ المكان من حولهم، ويحاولون الإتيان بمذاق جديد رائع كليًا».
هل ترغبون في التعرف إلى العقل الذي كان وراء مصنع الشوكولاتة؟ تعالوا نصحبكم في هذه الرحلة، فحياة الكاتب لا تقل إثارة عن قصصه.
1929- دال في مصنع الشوكولاتة: خيالات الطفل حاكت الخيوط الأولى للحكاية
خيالات الطفولة والشوكولاتة أخذت دال كليًا بعد تخيله لغرفة الاختراعات، فبدأ يتخيل نفسه جزءًا من سيناريو مصنع الشوكولاتة، ويأتي هو بتوليفة جديدة ثم يذهب مسرعًا لكي يخبر السيد كادبوري بها، فيسعد باختراعه الجديد ويعينه مسؤولًا. ليالي الطفل دال كانت مليئة بخيالات مصنع الشوكولاتة. في جزء من خطابه يقول: «في طفولتي كنت أستلقي على سريري في مدرستي الداخلية وتراودني المزيد والمزيد من الأحلام عن النجاحات المبهرة التي أحققها ويسعد بها السيد كادبوري».
1939- حياة الكبار: انضمام دال للقوات الجوية
انتقل روالد دال لصفوف الراشدين. بدأ العمل لفترة في الصناعات النفطية في تنزانيا، وإبان الحرب العالمية الثانية ترك ذلك العمل لينضم للقوات الجوية. كان دال طويل القامة، فاق طوله ست أقدام، وبالكاد كانت تتسع له كابينة الطائرة. لكنه تعرض لحادث أثناء عمله أدى إلى كسر في الجمجمة وإصابة في العمود الفقري والأنف. وبعد هذه الإصابة عاد إلى منزله حتى يتعافى، وتطلب الأمر شهورًا عدة حتى يستعيد عافيته ونظره الذي تأثر أيضًا بالإصابة.
1941- عودة للطيران
تمكن دال من معاودة الطيران عام 1941، وشارك في معركة ضد القوات الألمانية. في تلك المعركة فاقت الطائرات الألمانية عدد الطائرات البريطانية، مما اضطر بريطانيا للتراجع. بعد ذلك طار دال عدة مرات أخرى، لكن تأثير الإصابة الأولى صاحبه، فكان يعاني من صداع شديد وتغمية في رؤيته. وهكذا مُنع دال من الطيران لكونه غير لائق نتيجة للإصابة التي تعرض لها.
1942- السحر يتسلل ثانية: بدء مشوار الكتابة بنصيحة من سي إس فورستر
قابل دال الروائي البريطاني سي إس فورستر، الذي حثه على الكتابة. وسرعان ما حقق دال نجاحات في عالم الكتابة. وفي عام 1943 نشر كتاب «العفاريت»، وبعدها بثلاثة أعوام نشر مجموعة قصصية. وفي العام 1948 نشر رواية «مستحيل في بعض الأوقات»، ثم مسرحية «الجميلات» عام 1955. وكذلك بدأت قصصه تظهر في أعمال ألفريد هتشكوك.
ليست مزحة أو واحدة من قصصه: كاتب قصص الأطفال عمل جاسوسًا
كانت أمريكا حليفة حديثة في الحرب العالمية الثانية في العام 1942. لم يكن الجميع مسرورًا باشتراك الولايات المتحدة في الحرب. وهنا أتى دور دال، الذي عمل جاسوسًا لبريطانيا. عمله كان التأكد من مشاركة أمريكا في الحرب، وتضمن المشاركة في حفلات كوكتيل ودعوات عشاء وكتابة التقارير.
1953- زواجه من الممثلة الهوليوودية باتريشيا نيل
تزوج روالد دال من الممثلة الأمريكية باتريشيا نيل، نجمة أفلام مثل The Fountainhead وHud، والأخير نالت عليه جائزة. لكن لم يدم الزواج، وبالرغم من ذلك أنجبا خمسة أطفال.
خيالات مصنع الشوكولاتة تراود دال ثانية، ولكن..
شارلي فتى الشوكولاتة
كان دال يخطو في كتابة أعماله ونسي أمر غرفة الاختراعات. كتب روايته جيمس والدراقة العملاقة، ثم عاودته فكرة مصنع الشوكولاتة وبدأ كتابتها، وكان اسمها حينذاك «تشارلي فتى الشوكولاتة».
1960- أولى المآسي
أنجب الزوجان طفلهما الصبي الأول ثيو عام 1960. ولكن ثيو تعرض وهو في شهره الرابع لحادث أليم، وتحولت أيام العائلة الدافئة والسعيدة بفرحة المولود إلى أوقات قاسية. كان دال في غرفته يكتب، ربما كان يعمل على تشارلي ومصنع الشوكولاتة، بينما أخذت المربية الطفل في نزهة داخل عربة الأطفال، وإذ فجأة يصدم تاكسي العربة.
دال مخترع لأداة طبية تنقذ ثلاثة آلاف طفل
عانى ثيو من إصابات عديدة وتحطم في الجمجمة إثر الحادثة. انصب كل اهتمام دال على الطفل الرضيع. وبعد تسع عمليات لم تتحسن حالة الطفل، حتى أن قدرته على الرؤية كانت في خطر. طلب دال من صانع الألعاب ستانلي ويد مساعدته في بناء أداة لإنقاذ حياة طفله. وتوقف عن الكتابة لمدة 18 شهرًا، وسخر نفسه كليًا لاختراع تلك الأداة لإنقاذ حياة الطفل. كان ثيو يتماثل للشفاء حين أنهى روالد دال العمل على أداة Dahl-Wade-Till، أو DWT اختصارًا، لكن الأداة أنقذت حياة ثلاثة آلاف طفل آخر.
1962- ثاني المآسي: موت أوليفيا
عادت الأسرة إلى بريطانيا في محاولة لصنع بداية جديدة بعد حادث ماثيو الأليم. وعاود دال العمل على تشارلي، حتى أتى ذلك اليوم الذي عادت فيه ابنته الكبرى أوليفيا ذات السبع سنوات من المدرسة مصابة بالحصبة، وفي تلك الأثناء كانت والدتها بالخارج تصور فيلمًا جديدًا. ماتت أوليفيا متأثرة بالحصبة، وتأثر دال بشدة بموت ابنته، وأصابه لذلك اكتئاب شديد.
1986- دال يحث الآباء على أخذ تطعيم الحصبة
في عام 1986 كتب دال رسالة يحث فيها الآباء على منح أطفالهم التطعيم ضد الحصبة، وسرد فيها تفاصيل موت الطفلة أوليفيا. كتب دال: «في أحد الصباحات كانت أوليفيا بدأت تتماثل للشفاء. أذكر أنني كنت أصنع لها حيوانات من أدوات تنظيف الغليون. حين جاء دورها لتصنع هي، لاحظت أن التوافق العضلي العقلي لديها به مشكلة. طلبتْ مني أن تنام وتستريح، وفي غضون ساعة فقدت وعيها، وخلال 12 ساعة كانت قد ماتت».
1964- عودة لتشارلي: من رحم الألم تكتمل الحكاية
هذه المرة لم يتوقف دال عن الكتابة كما توقف ل18 شهرًا خلال مرض ثيو، بل استجمع كل ألم شعر به وصبه على الورق، وهكذا أنهى العمل على قصة تشارلي ومصنع الشوكولاتة التي نشرت 1964. هرب من الوجع إلى الكتابة. هذا العمل الرائع الخالد استغرقت كتابته أربع سنوات من المعاناة الخالصة.
تقول رايتشل تشانغ الصحفية والمحررة المتخصصة في ثقافة البوب والسفر: «لمسة السحر وعبقرية المخترع واضحان للغاية في شخصية وونكا، وكذلك حس الشخصية القوية المسيطرة التي بمقدورها تجاوز أي شيء. أظن أن دال وضع نفسه بداخل شخصية وونكا. وكلما عرفتُ أكثر عن الظروف العائلية الصعبة التي كتب خلالها الكتاب، شعرت بالشفقة تجاه وونكا، وأحسست بمدى تفرده».
1971- نجاح الكتاب وقرار تحويله لفيلم
بعد النجاح الساحق الذي حازه الكتاب، أُنتج فيلم «ويلي وونكا ومصنع الشوكولاتة» عام 1971، من بطولة جين وايلدر وسيناريو دال. وفي 2005 صدر الفيلم المفضل لدينا جميعا «تشارلي ومصنع الشوكولاتة»، بطولة جوني ديب. أخبرت أرملة دال بي بي سي بأن تشارلي كان من المقرر أن يكون طفلًا إفريقيًا.
1983- شيء آخر بعد: دال معادٍ للسامية
في لقاء أجراه روالد دال مع صحيفة The New Statesman، قال إنه يرى أن هنالك شيء مستفز في اليهود يخلق العداء معهم.
وفي لقاء آخر أجراه قبل وفاته بقليل، صرح بأنه معاد للسامية.
اعتذار من العائلة
نشرت عائلة دال اعتذارًا على موقع روالد دال الرسمي، على التصريحات التي أدلى بها وأي ألم سببته هذه التصريحات.
حكايات ولدت من غرفة نوم الأطفال وحديقة المنزل
خرجت حكايات دال للعالم للمرة الأولى في غرفة نوم أطفاله، حيث كان يحكي لأبنائه قصصًا كل ليلة. يقول دال لنيويوك تايمز بوك ريفيو إن اضطراره لتأليف قصة جديدة كل ليلة كان تدريبًا ممتازًا ككاتب قصص أطفال، ويوضح أن «الأطفال ناقدين بالفطرة، ويفقدون الاهتمام بسرعة، لذلك يجب أن تظل الحكاية مثيرة، وإذا شعرت بأن الملل بدأ يتسلل إلى الطفل فيجب أن تلقي بشيء يعيد اهتمامه، شيء أخاذ، ويجب كذلك أن تكون على دراية بما يعجب الأطفال».
كتب دال جميع كتب الأطفال في كوخ صغير بحديقة منزله. يقول دال إن «كتابة الأدب لمدة ساعتين تدع معين الكاتب ينضب. لساعتين كاملتين يكون بعيدًا لأميال، يكون في مكان آخر كليًا مع أناس آخرين. إن المجهود الذي يتطلبه العودة للحياة اليومية كبير للغاية، الأمر أشبه التعرض لصدمة. أن تكون كاتبًا، هذا قرار غبي للغاية. لكنني أرى أن الدافع وراء ذلك هو أنه لا توجد جائزة يحظى بها الكاتب غير الحرية التامة التي يتلقاها، ولا سيد له إلا روحه».
الانتقام من الكبار على قسوتهم
يقول الكاتب والأديب المصري أحمد خالد توفيق إنه «من الصعب جدا أن تصنف أدب الكاتب البريطاني نرويجي الأصل روالد دال، فهو ليس كاتب أطفال، قصصه مرعب فعلًا، كما أنه ليس كاتبًا للرعب لأن عنصر الخيال البهيج مهم في قصصه، وهو كذلك ليس أديبًا ساخرًا برغم أن السخرية ثابتة في أدبه، لكنها سخرية ممزوجة بالكثير من القسوة. الحقيقة أنه خليط من هذا كله، وكتاباته مزيج ساحر خلاب لا يقدر على كتابته سواه».
إن كتابات دال عامرة بالانتقام من البالغين الغليظين القساة تجاه الأطفال، الذين يوقعون بهم الأذية، مثل ما حدث في ماتيلدا (1988). بينما نجد في الساحرات (1983) والدين بريئين يتعرضان لحادث سيارة. كثير من النقاد أشاروا للتعامل القاسي مع البالغين في أعمال دال، وهو ما عقب عليه الكاتب في نيويورك تايمز بوك ريفيو، قائلًا بأن الأطفال الذين راسلوه اختاروا أكثر المشاهد شناعة كأفضل مشاهد لهم: «إنهم لا يربطون بينها وبين الواقع، بل يستمتعون بالخيال». ويضيف دال أن قسوته هذه ليست إلا انتقامًا: «الأشخاص البغيضون يستحقون أن يلقوا مصيرَ سوءِ أعمالهم».
تمتاز أعمال دال بالتحول الفجائي للخيال وسرعة جريان الأحداث، وبالطبع الجزاء السيئ الذي يناله الكبار على النيل من الصغار والتسبب بالمتاعب لهم.
وتمتاز أيضا بالكوميديا السوداء، بينما تكون الحبكة الدرامية عادةً عن أطفال يتغلبون على خصومهم، الذين هم من البالغين في الأغلب.
1990- وفاة صندوق الحكايات
توفي دال إثر عدوى أصيب بها عن عمر ناهز 74 عامًا. يقول دال عن نفسه: «من حسن حظي أن ما يضحك الأطفال الصغار هي نفس الأشياء التي تضحكني». طفل طويل القامة عاش بين الكبار، يضحك على ما يضحك عليه الأطفال ويؤلف الحكايات كي ينام أطفاله وأطفال العالم أجمع. مدافع عن الصغار، ستظل حكاياته لعقود عدة تمتع كلًا من الآباء والأطفال على حد سواء لأجيال وأجيال.
والسحر ما زال مستمرًا
في 2021 اشترت شبكة نتفليكس شركة Roald Dahl Story Company، من أجل تحويل جميع أعمال الأديب الراحل روالد دال إلى نسخ مرئية.
خديجة يوسف